حسن نافعة
*سواء كانت “إسرائيل” هي التي نجحت في استدراج الغرب للتماهي معها في جرائمها، أو كان إصرار الغرب على الانحياز إلى “إسرائيل” لحماية مصالحه هو ما تسبب في توريطه، فالنتيجة واحدة وهي أن كليهما سقطا في اختبار الإنسانية.*
ارتبط المشروع الصهيوني ارتباطاً عضوياً بالمشروع الاستعماري الأوروبي. ولأن بريطانيا كانت هي الدولة المهيمنة على النظام العالمي عندما تأسست الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت تتطلع في الوقت نفسه إلى وراثة إمبراطورية عثمانية كانت على وشك التفكك والانهيار، فقد كان من الطبيعي أن يؤدي اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى تهيئة الأوضاع لتلاقي المصالح الاستعمارية والصهيونية.
فبريطانيا كانت تدرك أن غالبية الدول الأوروبية ترغب في التخلص من اليهود لتعذر اندماجهم في مجتمعات أوروبية تعرضوا فيها لموجات متلاحقة من الاضطهاد، وكانت في الوقت نفسه تخشى أن يؤدي تفكك الإمبراطورية العثمانية إلى قيام دولة عربية كبرى في المنطقة تحل محلها عقب هزيمتها المتوقعة في الحرب، ومن ثم تلاقت مصالحها إلى حد التطابق مع مصالح مشروع يستهدف إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين تحديداً، وليس في أي مكان آخر.
فإقامته في أي دولة يمكن أن تساعد على تخليص المجتمعات الأوروبية من يهود غير مرحب بوجودهم فيها، لكن إقامته في فلسطين تحديداً يمكن أن تساعد في الوقت نفسه على فصل المشرق العربي عن مغربه، ويحول بالتالي دون إقامة دولة عربية كبرى في منطقة استراتيجية حساسة.
وفي هذا السياق وحده، يمكن فهم الدوافع التي حدت ببريطانيا إلى إصدار “وعد بلفور” في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، ثم إلى الحرص على تضمين صك انتدابها على فلسطين عام 1922 بنداً يضفي مشروعية دولية على هذا الوعد الصادر عن غير ذي صفة. ولولا هاتان الخطوتان التأسيسيتان لما تحوّل المشروع الصهيوني من حلم بعيد المنال إلى واقع يتحرك على الأرض.
مع هبوب رياح الحرب العالمية الثانية، ظهرت تناقضات بين المصالح البريطانية والصهيونية، إذ خشيت بريطانيا من انحياز العالم العربي إلى دول المحور، ومن ثم قامت بنشر “الكتاب الأبيض” الذي تضمن فرض بعض القيود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ما أثار غضب الحركة الصهيونية ودفعها إلى نقل مركز نشاطها إلى الولايات المتحدة الأميركية.
لذا، يمكن القول إن انعقاد المؤتمر الصهيوني في بلتيمور بالولايات المتحدة عام 1942 يعد نقطة تحوّل في تاريخ الحركة الصهيونية التي استشعرت بداية أفول العصر البريطاني وصعود العصر الأميركي، ومن ثم شرعت في التغلغل داخل أحشاء المجتمع الأميركي وحرصت على عقد أوثق الصلات مع مختلف أطياف نخبته السياسية، وهو ما نجحت فيه إلى حد بعيد، بدليل قيام الرئيس الأميركي ترومان بممارسة ضغوط هائلة على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لحملها على التصويت لصالح مشروع تقسيم فلسطين الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، واعترافه بدولة “إسرائيل” بعد دقائق فقط من إعلان بن غوريون عن قيامها في 14 أيار/مايو عام 1948.
صحيح أن “إسرائيل” ارتكبت خطأ قاتلاً بعد ذلك، حين تآمرت مع بريطانيا وفرنسا من وراء ظهر الولايات المتحدة وقررت المشاركة في العدوان على مصر عام 1956، لكنها حرصت بعد ذلك على ألا يتكرر مثل هذا الخطأ أبداً، ومن ثم بدأت تضاعف جهودها للسيطرة على أهم مفاصل صنع القرار في السياسة الخارجية الأميركية.
ولأنه تعين على الإدارات الأميركية المتعاقبة أن تأخذ في حسبانها ظهور التيار القومي العربي وتنامي قوته بقيادة مصر الناصرية، فقد حرص بعض الرؤساء الأميركيين ومنهم كيندي على سبيل المثال على تبني سياسة أقل انحيازاً إلى “إسرائيل”، غير أن ذلك لم يكن سوى الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
فبعد اغتيال كيندي، والذي تؤكد مصادر كثيرة ضلوع “إسرائيل” فيه، تبنت إدارة جونسون سياسة منحازة إلى “إسرائيل” على طول الخط، تجلّت أبعادها بوضوح إبان العدوان الإسرائيلي عام 1967.
كانت أزمة 67 كاشفة لعمق العلاقة التي ربطت “إسرائيل” بالولايات المتحدة الأميركية. فبعد الانتصار المدوّي الذي حققته “إسرائيل” في تلك الحرب، بدأت الولايات المتحدة تدرك أكثر من أي وقت مضى أنها دولة قادرة على القيام بوظائف كثيرة لخدمة المصالح الأميركية في المنطقة وفي العالم، ومن ثم لم تعد تهتم كثيراً بمراعاة شعور الدول العربية، بما في ذلك أقرب حلفائها.
ولأنها تدرك في الوقت نفسه أن النظم العربية الحاكمة ليست منتخبة من شعوبها ويعتمد معظمها على حماية خارجية، فقد أيقنت أنها نظم قد تخاف لكنها لا تستحي، ومن ثم فإن الضغط عليها وإخافتها هو السبيل الأفضل للتعامل معها.
ساعد على تعميق هذا التوجه انهيار التيار القومي العربي وتفكك نظامه الإقليمي تدريجياً، بعد تلقيهما ضربة شديدة على يد “إسرائيل” في حرب 67، ثم ضربة أشد على يد السادات، حين أقدم على إبرام معاهدة سلام منفردة مع “إسرائيل” عام 1979، ثم ضربة قاصمة على يد صدام حسين حين أقدم على احتلال الكويت وضمها إلى العراق بالقوة المسلحة.
ولا جدال في أن انفراط عقد النظام العربي، من ناحية، وازدياد قوة “إسرائيل” العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، من ناحية أخرى، أغرى الغرب بالاعتماد أكثر على “إسرائيل”، بل وبدأ ينظر إليها ليس باعتبارها مجرد حاجز يحول دون التقاء المشرق العربي بمغربه، بعد أن أصبح هذا الاحتمال بعيد المنال، ولكن باعتبارها الركيزة الاستراتيجية الرئيسية للغرب في المنطقة والوكيل المعتمد الوحيد المخوّل المحافظة على مصالحه.
كان من الطبيعي، في سياق كهذا، أن تبدأ الولايات المتحدة في إعداد “إسرائيل” وتجهيزها لقيادة المنطقة. لذا، لم تكتف بالتعهد بضمان تفوقها العسكري على كل الدول العربية مجتمعة، ولا بمدّها بكل ما تحتاجه من دعم مادي ومعنوي للمحافظة على هذا التفوق، وإنما قامت بالإضافة إلى ذلك بتحويلها إلى أكبر مخزن للسلاح الأميركي في العالم.
وهكذا راح الدعم الأميركي غير المشروط وغير المحدود يتدفق تباعاً على “إسرائيل” وتتزايد وتيرته من إدارة لأخرى إلى أن وصل ذروته في ظل الإدارة الأميركية الحالية التي لم يتردد رئيسها في وصف نفسه بأنه “صهيوني”.
ورغم ما تتسم به العلاقة بين بايدن ونتنياهو من جفاء، فإن الأول لم يستطع منع نفسه من الهرولة لزيارة الثاني في “إسرائيل” عقب عملية “طوفان الأقصى”. وهكذا راح العالم كله يتابع في ذهول وزير الخارجية الأميركي وهو يقول عند مصافحته نتنياهو بعد الطوفان “لقد جئت إليك اليوم ليس بصفتي وزيراً لخارجية الولايات المتحدة ولكن بصفتي يهوديا”!
ثم شاهدنا تدافع العديد من الوزراء وكبار الشخصيات الأميركية والأوروبية وهم يهرولون نحو “إسرائيل” كأنهم يتوجهون إلى سرادق عزاء أقيم لكبير العائلة.
وليس عندي من تفسير لهذا المشهد المثير سوى أنه يعكس مشاعر غربية متضاربة تجاه “إسرائيل”، تختلط فيها أحاسيس ناجمة عن عقدة ذنب ما زال يشعر بها عدد كبير من الزعماء الغربيين بسبب ما تعرض له اليهود من اضطهاد في معظم الدول الأوروبية، وصل ذروته في ألمانيا النازية، مع أحاسيس ناجمة عن إعجاب شديد بما حققته “دولة” يعتقدون أنها تنتمي إلى دائرتهم الحضارية من إنجازات على مختلف الصعد العسكرية والعلمية، لكن يبدو أن الغرب نسي تماماً، أو يريد أن يتناسى، أنه لعب الدور الأكبر في التمكين لكيان قام على أساطير دينية من ارتكاب جريمة تاريخية كبرى في حق شعب فلسطيني لا ذنب له في الاضطهاد الذي تعرض له اليهود.
والواقع أن هذه المشاعر المختلطة، والمتناقضة في آن واحد، هي التي جعلت الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يتغاضون عن الانتهاكات البشعة التي ترتكب يومياً، ومنذ ما يقرب من قرن كامل، في حق شعب احتلت أرضه ويعيش نصفه مشرداً في المنافي أما نصفه الآخر فما زال يعيش في وطنه المغتصب، ولكن كمواطنين من الدرجة الثانية.
لقد نسيت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون أن الكيان الذي تأسس على أسطورة دينية لا يملك سوى أن يتجه دوماً نحو المزيد من التطرف والتعصب ورفض الآخر. وها هي تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان العالمية تجمع على أن النظام السياسي الإسرائيلي أصبح، ومنذ سنوات عديدة، نظام فصل عنصري يمارس التمييز وينتهج الأبارتيد، ومن ثم يبتعد تماماً عن كل القيم الإنسانية التي نادت بها الديمقراطيات الليبرالية يوماً ما.
ويكفي أن نتأمل رد فعل هذا الكيان الغاصب على عملية “طوفان الأقصى” التي تسببت، حتى كتابة هذه السطور، في استشهاد ما يقرب من 16 ألف شخص وفي إصابة ما يقرب من خمسين ألف شخص، ودمرت ما يقرب من نصف مساكن غزة، بما في ذلك المدارس والمستشفيات ودور العبادة، وقطعت الغذاء والمياه والكهرباء ووسائل الاتصال عن جميع سكان القطاع البالغ تعدادهم ما يقرب من اثنين ونصف مليون نسمة، لندرك حجم الانحطاط الذي تردى إليه هذا الكيان وحجم الجرم الذي ارتكبه.
عندما تصف الولايات المتحدة والدول الأوروبية سلوك هذا الكيان الذي لا يتورع عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية بأنه “دفاع عن النفس”، ثم تقوم بإرسال حاملات طائراتها وقطعها البحرية وجيوشها وأجهزة مخابراتها إلى الشواطئ القريبة لحمايته والدفاع عنه، فمن الطبيعي أن تصبح شريكاً له في جرائمه.
وسواء كانت “إسرائيل” هي التي نجحت في توريط الغرب واستدراجه للتماهي معها في جرائمها، أو كان إصرار الغرب على الانحياز إلى “إسرائيل” لحماية مصالحه هو ما تسبب في توريط الغرب وتعريته إلى هذا الحد، فالنتيجة واحدة، وهي أن كليهما سقطا في اختبار الإنسانية والحضارة الحقة، ومن ثم فعليهما معاً تقع مسؤولية إنقاذهما من الوحل الذي انغرسا فيه.
(سيرياهوم نيوز ١-الميادين)