آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » أحمد غانم قاصّاً

أحمد غانم قاصّاً

 

 

*عدنان محمد

 

إذا أردنا أن نبحث عن تأثير الفلسفة في حياة أحمد غانم فلن نذهب بعيداً. بل نستطيع أن نقول بكل جرأة : إنّ فقيدنا قد تشرّب الفلسفة حتى باتت تسري في دمه، وكلامه، ونمط حياته، ورؤيته للعالم. وأستطيع أن أقول جازماً إن أحمد غانم الإنسان قد اتّخذ مبدأَ السخرية الجادّة بل السخرية المريرة من كل شيء طريقاً، وكانت السخرية اللاذعة هي فلسفته في الحياة. وهو ما يتجلى واضحاً في مجموعتيه القصصيّتين.

ومن المعلوم أنّ مجموعته الأولى “عن الكلاب وقيصر” قد صدرت في عام 1995، واشتملت على عشر قصص قصيرة، تنداح عناوينها كالآتي: “اللعنة-هل أُطلِق النار يا أبي؟- التمثال-موت طفل في الواحدة والثمانين من عمره- لماذا تضحك؟- أنصار المرسيدس-الرصيف اللَّيِّن-الشيخ محمد يلعن الأيديولوجيا- وأخيراً عن الكلاب وقيصر. أما المجموعة الثانية “ثلاثية جدل” فهي رواية بقالب قصة، وعنوان الجزء الأول منها “عذابات أبي بديع”، وقد صدرت في الشهر العاشر من العام 2000، أي بُعيد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 أيلول، على إثر استشهاد الطفل محمّد الدرّة. وقد قسّم الكاتب هذا الجزء إلى ثلاثة عشر فصلاً متفاوتة الطول، بحيث نجد أن الفصل العاشر، “الأصنام”، يمتد على ثلاث وثلاثين صفحة، بينما نجد أن الفصل الثالث عشر يتكون من سطر واحد فقط. وتتالى عناوين فصول هذا الجزء على النحو الآتي: أغنية- احتمالات- أبو بديع- دفء بارد- منتصف الوعي-الموت دون احتجاج- أعضاء طبيعية-الصدق- المسخ- الأصنام-الغسق- قصر المرمر- الحقيقة.

وفي ظنّي أن الفلسفة والدين يتضافران في هذين العملين الإبداعيين ويشكّلان أحد محاورهما الرئيسة. وهو ما ساعد الكاتب على تشكيل رؤية جماليّة للعالم، وإعطاء إجاباتٍ عن تساؤلات الإنسان الوجودية منذ أن وُجد حتى الآن؛ لذا نجد بين العناوين مفردات تنتمي إلى القاموس الفلسفي وأخرى تنتمي إلى القاموس الديني، وقد اندرج القاموس الفلسفي في عنوان المجموعة الثانية “جدل dialectique”، والمعلوم أن مصطلح (جدل) نِشأ مع أفلاطون، ثم تطوّر مفهومه على يدي هيغل، واستخدمه ماركس في نظريته المادية بآلية أخرى… إلخ. أما القاموس الديني فيتجلى في المجموعة من خلال ظهور مفردات مثل “اللعنة”، و”الأصنام” وغيرها.

وبوسعنا أن نقول إن مجموعة “عن الكلاب وقيصر”، مليئة بالسخرية اللاذعة التي تصل إلى حدّ الهجاء لمواطنين مستسلمين لأقدارهم، ولا يفعلون أي شيء لتغييرها أو حتى للحدّ من هيمنتها على حياتهم. ففي القصة الأولى، اللعنة، نجد أشخاصاً تنبت لهم أذيالٌ وهم فرحون بها. وليس أدلّ على ذلك من قول بطل القصة: “مرةً رأيتُ روحاً بلون الكريستال، عالقة بجسدٍ تحاول الخلاص. كان جسد الطفل لزجاً ومخاطياً دبقاً. ما إنْ تُحرّر جزءاً حتى يعلق جزءٌ آخر، وقبل أن ترحل سمعتُها تقول باندهاش الفجيعة: ((مادام الله واحداً، وهو هنا، هو نفسه هناك؛ فلماذا قذف بكل هذا الشر إلى كوكب واحد صغيرٍ كهذا؟!)) . ولا شك فإن ثمّة تناقضاً واضحاً بين الروح التي “بلون الكريستال”، والجسد “اللزج المخاطي، الدَّبِق”: وشتّان بين نقاء الكريستال ونجاسة الجسد اللزج المخاطي. والتساؤل فلسفي صارخ: “فلماذا قذف بكل هذا الشر إلى كوكبٍ واحدٍ صغيرٍ كهذا؟”

ويصف البطل عملية ولادة الذيل قائلاً: “تشعر به وهو ينبو. تحسّ شيئاً ما يتحرّك في رأسك. وما هي إلا لحظات قصيرة حرجة حتى يخرج من مؤخّرتك فيترك فراغاً في الرأس، لا يلبث أن يندمل مع تقلّصات الدماغ لملء الفراغ” . إنه وصف لاذع جداً لمن يكفّون عن استخدام عقولهم فتضمر-بحسب نظرية داروين-، أما بحسب منظور الراوي فتتحوّل إلى أذيالٍ توفّر لهم السعادة والفرح.

وتتجلّى السخرية في أبهى صورها وأشدّها تمثيلاً في المقطع الآتي: “ولأن القامة المنتصبة تخفي معالمه، كنا نحني ظهورنا قليلاً لإبراز مفاتنه، وإعطائه حرية أكبر. وأخذت الانحناءة تزداد إلى أن وجدنا أنفسنا نسير على أربع كأفضل الأوضاع مواءمة وجمالاً. فظل الذيل وحده منتصباً” . كما تتجلّى السخرية في قصة” أنصار المرسيدس”، إذ يقول الراوي: “سمعتُ اثنين يتحاوران حول المرسيدس والـ (ب. م) أيهما الأفضل. ووصل الأمر بينهما إلى خلاف حاد، تبادلا فيه الشتائم والكلمات، ثم رفسا بعضهما البعض، وانقسم الناس بينهما فرفسوا بعضهم بعضاً، حتى أنصار النوع الواحد اختلفوا فيما بينهم وتبادلوا الرفس”. وتعود الحالة البهيمية في هذه القصة أيضاً، إذ يختمها الكاتب قائلاً: “أنا اللي محيّرني، ليس أن الطفل الذي مات لم يمت! […] بل لماذا كان الناس يترافسون وأيديهم إلى الأرض؟! والأغرب من كل هذا أن والد الطفل كان من أنصار المرسيدس.”

أما المجموعة الثانية فتشكل نقلةً نوعيةً وتحوّلاً جذرياً في رؤية الكاتب الجمالية للواقع وآلية تشكيله الفنّيّ؛ إذ اختفى الهجاء اللاذع لمجتمع مستسلم إلى نَفَس مقاوم، وصارت الشخصيات متمرّدة على واقعها وتحاول أن تغيّره، بدءاً بشخصية أبي بديع الذي قال له عبد الله بيك: “ليش إنت هيك يا عبد الحميد، بتضلّ رافع مناخيرك عَ السما” فردّ عليه بسخرية وتحدٍّ: “لأن الله خلق الإنسان منتصب القامة، وليس كالقرد محنياً ظهره.”؛ وانتهاء بشخصية الشاب راشد (ولهذا الاسم دلالة واضحة). فهذا الشاب “الراشد” هو حفيد الشيخ راشد الذي قاوم الفرنجة بكل بسالة واستُشهد، ودفُن على قمة جبل إكراماً له، وهو ابن أبي بديع أيضاً الذي رفض أن يحني هامته أمام الإقطاع. إنه راشد الذي يصرخ بكل تصميم في وجه الاحتلال الإسرائيلي لمدينته: “لن أقبل… لن أقبل…. أقسم أني لن أقبل!”

وفي ظنّي أنّ هذا التحوّل بين مجموعتي أحمد غانم، يشبه التحول الذي حدث بين روايتي ألبير كامو “الغريب” و”الطاعون”. ففي الأولى يسترسل الكاتب في وصف عبثية الحياة وتفاهتها، لينتقل في الرواية الثانية إلى وصف تضافر أبناء مدينة وهران لمقاومة “الطاعون بكل رموزه الممكنة.

ويمكن أن نلحظ في مجموعتي أحمد غانم أيضاً صعودين متغايرين، الأول في قصة “اللعنة” التي تتضمنها مجموعته “عن الكلاب وقيصر”، وهو صعود إلى جبل بظاهر المدينة الملعونة، الملوَّثة، مع أنه هروب من واقعٍ مرير ومُخزٍ، وتعالٍ عليه، أما الصعود الثاني فيتجلى في قصة “الغسق”، من مجموعة “عذابات أبي بديع”، فهو إلى جوار ضريح الشيخ راشد المقاوِم الشهيد، ولقد صعد البطل “راشد” إلى هناك لكي يستمدّ القوّة والشجاعة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لمدينته.

ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أنّ المجموعة الثانية قد حوت بعض التضمينات والاقتباسات التي تثري السرد، وتنمّ عن ثقافة عالية يحمّلها الكاتب لشخصياته. وسأذكر منها مقولة شكسبير الشهيرة في بداية مسرحية (هاملت): “أن نكون أو لا نكون، تلك هي المسألة”. وكذلك نجد العبارة الشهيرة أيضاً لأمّ أبي عبد الله الصغير، حاكم غرناطة، حين أتاها باكياً بعد هزيمته، فقالت له موبّخةً: “ابكِ كالنساء على مُلْكٍ لم تحافظ عليه كالرجال”؛ إذ يورد الكاتب هاتين العبارتين الشهيرتين من دون أن يذكر قائليهما، وأعتقد أن السبب في ذلك هو أن شهرتهما تغني عن ذكر قائليهما. وبالمقابل فإن الكاتب يورد قولاً للفيلسوف الصيني تشوانغ تسه، ومقطعاً طويلاً من تاريخ أبي الفداء؛ وكذلك يورد مقطعاً من رواية “المسخ” الشهيرة لفرانز كافكا، في قصة تحمل العنوانَ نفسَه؛ وهو يذكر القائل واسم المرجع في الحالات الثلاث.

وفي رأيي أنّ أهمية الفلسفة التي تجسدت في حياة أحمد غانم ومؤلفاته هي الفلسفة الإيجابية التي تبني الإنسان، وتنير حياته ووجوده بصورة عامة، وليس الفلسفة السلبية المتخاذلة التي تدمِّر الإنسان والأوطان. وقد أشار الكاتب إلى ذلك في حوار دار بين أستاذ الفلسفة المتخاذل الذي يروِّج للاحتلال الإسرائيلي ويسوِّغه، وراشد الشاب الثائر، إذ يقول الأستاذ: “اعترِفْ أنك تعيش في غير زمنك واستسلِم، عش ما تبقّى من أيامك القليلة بعيداً عن عبثك هذا، ومناداتك بالحرب.”؛ فيردّ راشد: “إذا كان ما أفعله عبثياً، فهو واجب الجميع.”

ولاشك في أن هناك أفكاراً كثيرةً أخرى تكتنزهما هاتان المجموعتان القصصيتان، ولكني سأكتفي بما ذكرتُه في هذه العجالة، مع الإشارة إلى أن هاتين المجموعتين الجديرتين بإعادة القراءة من جديد تعطيان فكرة وافية عن أحمد غانم الإنسان، والأديب، والمثقف الذي عاش حياته حاملاً همّ مدينته ووطنه، ورحل وهو يتوق إلى تجذير ما حلم به في تربة واقعه ووطنه

( قاصّ ومترجم سوريّ)

 

(موقع سيرياهوم نيوز)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيقونة الغناء العربي فيروز تحتفي بعيد ميلادها التسعين

احتفلت أيقونة الغناء العربي فيروز بعيد ميلادها التسعين الخميس، في وقت يشهد بلدها لبنان الذي خلّدت ذكره في أعمالها حربا شعواء بين حزب الله وإسرائيل. ...