منذ أن سقطت “الإمبراطورية العثمانية” بإعلان مصطفى كمال أتاتورك ذلك السقوط رسمياً عام 1923، جربت تركيا أربع لبوسات لها حتى الآن، فكانت “العلمانية” التي نحت صوب الجار الأوروبي، ثم “الطورانية” التي برزت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي العام 1991 كمحاولة للتمدد في جمهوريات هذا الأخير ذات الصبغة العرقية والدينية القريبة من النسيج التركي، “فالإسلامية” مع بروز حزب “الرفاه” في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وأخيراً ” الأردوغانية ” التي مثلت مزيجاً من الأخيرة مع العثمانية، حيث ستترك تلك التقلبات، التي تخللها العديد من الانقلابات أيضاً، ندبات عميقة على نسج الدولة المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
قامت “مشروعية” حزب “العدالة والتنمية” الذي وصل إلى السلطة بدءاً من العام 2002 على حال من الانتعاش للاقتصاد التركي التي ترافقت مع ذلك الوصول، على الرغم من أنها كانت نتيجة لمقدمات أفضت إليها السياسات المتبعة من حكومات سابقة على امتداد عقدين سابقين، هذه “البحبوحة” كانت قد وسعت من تأييد شرائح أخرى خارج نطاق “الإسلام السياسي” الذي ينتمي إليه ذلك الحزب، والمؤكد هو أن ذلك الفعل كان قد ساعد في استقرار حكم هذا الأخير الذي مضى بإجراء تحولات كبرى من شأنها أن تؤسس لحكم مديد، قبيل أن يحدث منعطف 15 تموز 2016 الذي شهد انقلاباً لم يحقق مراميه، الأمر الذي أدى من حيث النتيجة إلى تكريس حكم رجب أردوغان الذي مضى نحو اجتثاث معارضيه على امتداد السنوات التي تلت ذلك الانقلاب الفاشل، وصولاً إلى تحويل الحكم في البلاد إلى نظام رئاسي بدءاً من العام 2018، والذي كان من نوع ثقيل الوطأة على النسيجين السياسي والمجتمعي التركيين، انطلاقاً من الانعطافة التي أحدثها في المسار الذي كانت تسير عليه قوى المجتمع، والتي أبدت مقاومة في مواجهة إعادة قولبتها بعدما تساكنت مع نظام برلماني شكل آلية ناجحة لتحقيق طموحاتها، وفي الآن ذاته كان مناسباً لدفع حركة العجلات التي تسير عليها.
في هذه الأثناء كانت مطامع أردوغان التوسعية قد قادته إلى محاولات “التمدد” في سورية والعراق، ومن ثم ليبيا وتونس، وصولاً إلى شرق المتوسط وبحر إيجة، وهو في محاولاته تلك كان قد ذهب إلى خيارات متعددة كان أبرزها التقارب الحاصل مع موسكو بدءاً من مصالحة آب 2016، هذا سيقود لاحقاً إلى عقد صفقة “إس 400” مع الروس والتي شكلت نخراً في جسد “الناتو” حملته واشنطن بين جنبيها على مضض لكن جمره لا يزال متقداً مما تشي به التصريحات والمواقف الأمريكية التي تؤكد بأن وقت دفع الفاتورة آت لا محالة طال الوقت أم قصر، وعلى ضفاف الجوار كانت السياسات التركية تمضي إلى خلق مزيد من العداء لم يكن مسبوقاً منذ قيام الدولة التركية الحديثة، والطيف هنا سيمتد من الجوارين السوري والعراقي، مروراً بالجوارين اليوناني والقبرصي، وصولاً إلى مصر وباقي دول الخليج باستثناء قطر، قبيل أن يحط رحاله مؤخراً في جنوب القوقاز التي شكل اندلاع الصراع الأخير فيها، والمآلات التي ذهب إليها في تشرين الثاني المنصرم، حدثاً بدا وكأنه قد “راكم مكاسب تركية” على المدى القصير، لكن المشهد كان خادعاً بالتأكيد، فهو -أي الحدث- كان قد أدى من حيث النتيجة إلى مراكمة المزيد من الأعداء، فموسكو التي قبلت وقف إطلاق النار في “ناغورني قره باغ” قد لا تكون راضية عن الاتفاق الذي أفضى إليه، لأنه يعني ببساطة لعباً بالنار التي لم تخبُ على حدودها، ولذا فإنها باتت في وضعية من يتحين الفرصة لجعل أردوغان يدفع الثمن -حسب إجماع المحللين- ثم إن إيران التي كانت تراقب عن بعد ما يجري، لن تتوانى عن محاولة وقف التمدد التركي في منطقة شديدة التعقيد تقع على الجوار من حدودها.
هذا المشهد المعقد كانت له تداعياته على الداخل التركي، ففي غضون عام واحد خسر حزب “العدالة والتنمية” ثلث ثقله بانشقاق كل من أحمد داود أوغلو وعلي باباجان القياديين السابقين في الحزب، ثم ذهابهما لتأسيس حزب مستقل لكل منهما على انفراد، هذا يشير إلى تململ داخل أوساط الحزب الذي باتت شرائح وازنة فيه ترى أن “المحرك” ومعه “أجهزة نقل الحركة” قد باتا عاجزين عن أداء مهامهما، والمؤكد هو أن أردوغان كان أول من تلمس ذلك الاستعصاء، الأمر الذي ظهر عنده بالتركيز على أهل الأرياف الذين يشكلون القوة الرئيسية للجيش التركي الآن، كرد فعل على تركيز الانشقاقين السابقين على النخب المدنية من جهة، ومن جهة أخرى فإن هؤلاء، أي أهل الأرياف، يرون في أردوغان “خليفة عثمانياً”، ويرون أيضاً وجوب محاربة كل الأحزاب العلمانية بما فيها الجزء المنشق عن حزب “العدالة والتنمية”، بل جزء ممن تبقى داخل الحزب وهو يرى أن العلمانية لا تزال تشكل حلاً لمشاكل تركيا التي تراكمت في الآونة الأخيرة بشكل لم تشهده هذه الأخيرة على امتداد قرن منصرم.
أردوغان اليوم بات يشعر بعبء استمرار حكمه من خلال حزب “العدالة والتنمية”، ولربما تشير بعض التصريحات وكذا القرارات التي يتخذها إلى أنه ماض نحو تهميش دور هذا الأخير، وهذا سيفتح الباب أمام صراعات داخلية متعددة عرقية وقومية وطبقية وسياسية، والراجح هو أن تلك الصراعات ستبرز إلى الواجهة بشكل مفاجئ من دون مقدمات، حيث لتدهور الاقتصاد هنا دور ترجيح كفة هذا البروز، لكن الأخطر من كل ذلك، هو أن نظام أردوغان يقف اليوم على أعتاب مرحلة حساسة في علاقة شائكة مرتقبة مع إدارة جو بايدن الذي توعد باقتلاعه من السلطة حال وصوله إلى البيت الأبيض.
في الأفق التركي نذر كثيرة، وسحبها كلها تنبئ بأن العام 2021 قد يكون عام أردوغان الأخير في الحكم، الأمر الذي إن حصل فإن الأخير سيكون على موعد مع مصير شبيه بمصير سلفه عدنان مندريس 1961، أما بلاده فستمضي نحو تطورات يصعب التنبؤ الآن بمآلاتها.
(سيرياهوم نيوز-تشرين)