علي عبود
لم نتفاجأ بموقف جنوب أفريقيا ضد عملية إبادة الفلسطينيين من قبل الصهاينة والأمريكان، فقد كانت “إسرائيل” تقف بكل قواها وإمكاناتها العسكرية والإعلامية والدبلوماسية مع نظام الأبارتيد “الفصل العنصري” السابق في جنوب أفريقيا.
كما لم نتفاجأ بوقوف الأنظمة العربية على الحياد علنا، ومع العدو سرا، وتحديدا مصر والأردن، في قضية اتهام إسرائيل بممارسة عمليات إبادة ضد الفلسطينيين أمام محكمة العدل الدولية، لكننا فوجئنا بعدم مساهمة اتحاد المحامين العرب مع فريق المحامين والقانونيين من دول أجنبية مختلفة الذين أنجزوا المرافعة القانونية في قضية إبادة الفلسطينيين في قطاع غزة.
ومع أن طلب جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية واضح جدا وهو اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل بسبب العمليات العسكرية التي تشنها في قطاع غزة، فإن الشغل الشاغل للأنظمة العربية منذ 7 أكتوبر هو التوصل إلى اتفاقية تُحقّق شروط إسرائيل دون أيّ إجراءات تحمي االفلسطينيين من الإبادة أوالتهجير!
نعم، جنوب أفريقيا اتهمت “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب “أعمال إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع عزة مصحوبة بالنية لتدمير فلسطيني غزة كجزء من المجموعة القومية والعرقية الأوسع (الفلسطينيين”، في حين أن الأنظمة العربية كان همها تحميل المقاومة مايحل بالفلسطينيين من مجازر وإبادة وتهجير!
وليس صحيحا مايدلي به بعض القانونيين العرب بأن أحكام محكمة العدل الدولية غير فعالة لأنها تفتقر برأيهم إلى آلية لتنفيذها، وبأن إسرائيل ستفلت من العقاب طالما تحظى بدعم أمريكي وغربي، فالقضية هذه المرة مختلفة تماما، لأن الإدارة الأمريكية متهمة أيضا بعملية إبادة الفلسطينيين أمام القضاء الأمريكي، لأنها شاركت ودعمت، ولا تزال تشارك وتدعم، بإبادة الفلسطينيين بالأسلحة الفتاكة والمحرمة دوليا!
لنفترض أن محكمة العدل الدولية تحررت من الضغوط الهائلة التي سيتعرض لها قضاتها الـ 15 وأصدرت حكمها ضد إسرائيل، فإن السؤال: ماذا بعد إصدار حكم قضائي يدين إسرائيل بفعل الإبادة؟
المحكمة ستحيل الحكم إلى مجلس الأمن الدولي لتنفيذه، وسيقدم العديد من أعضاء المجلس خلال جلسات المجلس وثائق جديدة تؤكد بأن ماقامت به إسرائيل خلال أكثر من100 يوم من مجازر ضد المدنيين وغالبيتهم من المسنين والنساء والأطفال يُدرج ضمن أعمال الإبادة، والمحرج هنا هي أمريكا أولا وأخيرا لأنها ستستخدم الفيتو حتما لتجنيب إسرائيل العقاب، وبالتالي ستظهر أمام العالم أنها تؤيد عملية إبادة الفلسطيننين!
طبعا، لن ينتهي الأمر بالفيتو الأمريكي، فحكم محكمة العدل الدولية سيحال إلى الجمعية العمومية وسينال تأييدا من الأغلبية الساحقة من دول العالم مقرونا بإجراءات وعقوبات ضد إسرائيل، وهذا يعني أن كيان العدو سيتعرض للمرة الأولى بتاريخه إلى عزلة دولية تشبه تماما عزلة نظام الأبارتيد السابق في جنوب أفريقيا، وهذا يُفسر الجنون الإسرائيلي الذي لم يتوقع حكامه يوما أن يخضعوا لمحاكمة دولية على جرائمهم في فلسطين المحتلة منذ عام 1948.
ولعل السؤال الذي يطرحه الكثيرون الآن: هل سيتجرّا قضاة محكمة العدل الدولية على إدانة إسرائيل التي تحظى برخصة أمريكية مفتوحة بلا قيود أوحدود لقتل وإبادة الفلسطينيين المدنيين؟
نعترف أن مهمة القضاة في محكمة العدل الدولية صعبة جدا أمام الضغوط، بل والتهديدات الأمريكية والصهيونية، والتي ستؤثر على مستقبلهم المهني والشخصي إن لم يرضخوا لها، لكنهم أمام الملف القانوني الموثق بالصور والتصريحات الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين، هم قطعا محرجين جدا، بل ومضطرين للتحرر من الضغوط الأمريكية والصهيونية لإصدار الحكم العادل والنزيه، والسؤال: لماذا سيضطر قضاة محكمة العدل الدولية إلى إصدار حكم يدين إسرائيل بفعل إبادة الفلسطينيين؟
لعل من محاسن الصدف، إن إسرائيل التي وصلت إلى الحد الأقصى من الغرور والصلف والعنجهية بسبب الحماية الأمريكية المطلقة ضد القوانين الدولية، لم تتوقف خلال الأشهر الماضية من التباهي والتفاخر بأنها تقوم بأعمال إبادة وتهجير ومجازر بأسلحة ومباركة ورخصة أمريكية، وبالتالي فالأدلة على ارتكابها لأعمال الإبادة موثقة، وليس بمقدور قضاة محكمة العدل الدولية تجاوزها وأبرزها: القتل دون تمييز من نساء وأطفال ومسنين، وحرمان الفلسطينيين من مستلزمات العيش، وهدم وتدمير منازلهم، ودفعهم للهجرة والنزوح..الخ
ويستند اتهام جنوب افريقيا لإسرائيل بأعمال الإبادة الجماعية أو الجرائم ذات الصلة إلى اتفاقية عام 1948 التي تتناول “منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، وتؤكد حكومة جنوب افريقيا إن هذه الجرائم قد ارتكبت وربما لا تزال تُرتكب في عمليات القتل المستمرة في غزة.
وقد يٍسأل البعض: لماذا جنوب افريقيا وليس أيَ بلد أخر تصدى لمحاكمة إسرائيل؟
ترى جنوب افريقيا انها باعتبارها إحدى الدول الموقعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ملزمة بمنع حدوث الإبادة الجماعية وخاصة أن تجربتها مع نظام الفصل العنصري السابق في بلادها لاتزال في الذاكرة، وقد شارك الصهاينة في دعم هذا النظام بلا حدود ضد الأفارقة.
الخلاصة: من صلاحيات محكمة العدل الدولية ليس إصدار حكم يدين حكومة إسرائيل بأعمال إبادة للفبسطينيين فقط، وإنما أيضا إصدار أمر قضائي (مؤقت فوري) استنادا لوجود حالة طارئة مثل تعليق العمليات العسكرية الإسرائيلية العلنية والسرية والأعمال التي ترقى لأن تكون إبادة جماعية ومنع تدمير الأدلة وضمان حرية وصول المنظمات الإغاثة الدولية للمنطقة.
والأهم من كل ذلك أنه للمرة الأولى أصبح من الممكن تصنيف ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين منذ عقود على انها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، أيّ أصبحت مصنفة علنا آخر نظام أبارتيد في العالم.
(خاص لموقع سيرياهوم نيوز)