رأي نبيه عواضة
عندما همّ أحمد غندور للخروج من بوابة سجن عسقلان، التفت صوب أصدقائه متوعّداً إيّاهم بالحرية. بضع سنوات على وصوله غزة، التي كان قد سبقه إليها محرَّران آخران رفاق يحيى السنوار، وهما أحمد الجعبري ومروان عيسى، حتى كان إلى جانبهما في التخطيط والمشاركة في تنفيذ عملية «الوهم المتبدد». ففي 25 حزيران من عام 2006 وعند الساعة الخامسة والربع صباحاً، تسلّلت مجموعة من المقاومين عبر نفق إلى تخوم معبر كرم بو سالم شرقي قطاع غزة وهاجمت أحد المواقع العسكرية. استفاقت يومها «فرقة غزة» التابعة لجيش الاحتلال على إعلان «أبو عبيدة»، الناطق العسكري لـ«كتائب عز الدين القسام»، أن المقاومة نجحت بقتل جنديين وجرح خمسة آخرين، إضافة الى وقوع الجندي جلعاد شاليط في الأسر. أبو عبيدة لخّص الأمر: «لن يتم الإفراج عن الأسير شاليط إلا عبر تبادل للأسرى». رئيس الحكومة آنذاك، إيهود أولمرت، مدفوعاً بمحاولة البحث عن «دور نظيف» بعدما بدأ الهمس عن فساده يزداد في أروقة مبنى شارع بلفور في القدس المحتلة، رفض عرض المقاومة وأعطى الأوامر لجيشه لشن هجوم عسكري على قطاع غزة في محاولة لاستعادة جنديّه.
بعد ثلاثة أسابيع من المعارك والقصف ومحاولات التوغل الفاشلة، أتاه خبر صاعق آخر، وهذه المرة من الشمال، قوة مقاتلة من حزب الله تمكّنت في 12 تموز من تجاوز الحدود عند نقطة عيتا الشعب اللبنانية، وهاجمت دورية إسرائيلية والحديث يدور عن أسر جنود. على عجل، استدعى أولمرت الكابينيت، وبينما كان منعقداً لتقييم الموقف كان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله يعلن عن مطلب «عملية الوعد الصادق» كشرط للإفراج عن الأسرى الإسرائيلين لديه: «تفاوض غير مباشر وتبادل».
بعد تخبّط ونقاش عاصف نتيجة صفعتَي «الوهم المتبدّد» و«الوعد الصادق»، رست المداولات التي يبدو أنها تجاوزت المنطقة على الآتي: أوقف الاحتلال مؤقتاً عدوانه على غزة، وأعلن عن شن حرب على لبنان استمرت 33 يوماً ولم يتمكّن، رغم كل الدمار والاجتياح، من استعادة جنوده. أذعن بعد فشله في الحرب إلى التفاوض غير المباشر وإبرام صفقة تبادل للأسرى. انطلق التفاوض مع غزة بوساطة مصرية- أوروبية على وقع انتصارات جبهة لبنان. تعزّزت أكثر مع إنجاز حزب الله التفاوض بوساطة ألمانية عام 2008.
أزاح نتنياهو، في 31 آذار 2009، أولمرت عن رئاسة الحكومة وحلّ مكانه. بعد ثلاثة أشهر من فشل الأول في تحقيق إنجاز الضغط عسكرياً على غزة عبر عملية «الرصاص المصبوب» (2008-2009)، وبعد أسبوعين من فشل المفاوضات في مدينة العريش المصرية، التي حضر فيها عن الجانب المصري اللواء محمد إبراهيم والعميد وائل الصفتي، بينما ضم وفد «حماس» القياديين محمود الزهار، نزار عوض الله، أحمد الجعبري، ومروان عيسى. أمّا عن الجانب الإسرائيلي، فقد حضر إلى غرفة مجاورة، يوفال ديسكين، رئيس جهاز «الشاباك» آنذاك، وعوفر ديكل، النائب السابق لرئيس جهاز «الشاباك» الأسبق. يومها، أصرّت المقاومة على مواقفها وشروطها، الأمر الذي دفع بأولمرت ورئيس جهاز «الموساد» مائير داغان إلى إعلان فشل مفاوضات العريش.
مع مجيء نتنياهو إلى السلطة، أدخل حجاي هداس إلى الوفد المفاوض كمندوب عنه إلى جانب ديسكين وعوفر. كلّف نتنياهو هداس بالسفر إلى ألمانيا للقاء رئيس الاستخبارات الألمانية أرنست أورلاو، وطلب منه الدخول كوسيط. في المقابل، قلّصت «حماس» وفدها إلى ثلاثة قادة، هم: الزهار ومرزوق وعوض الله، إضافة إلى الجعبري وعيسى. دخل الألماني على خط التفاوض عبر المسؤول في الاستخبارات الألمانية جيرهارد كونراد، الذي توجّه إلى غزة وعقد جلسة سرّية في منزل الزهار، حضرها الجعبري. وأجرى كونراد جولات مكوكية بهدف الوصول إلى الصفقة.
على خط موازٍ، كلّف نتنياهو عوفر ديكل الضغط على الأسرى في السجون. طلب منه التوجّه إلى مصلحة السجون لتأمين لقاء له مع قيادات من «حماس» في سجن هداريم بهدف الضغط على قيادات الخارج. التقى المسؤول الأمني بالأسرى توفيق أبو نعيم ويحيى السنوار وعبد الناصر عيسى. بعد أيام قليلة على هذا اللقاء الذي تردّدت أصداؤه في السجن ونُقل عن طريق إدارة السجن إلى السجون الأخرى، أقدمت مصلحة السجون على نقل كل قادة «حماس» في السجون، وعلى رأسهم السنوار، وجميع أعضاء المجلس التشريعي المعتقلين لديها، إلى سجن النقب الصحراوي. سلّمت إدارة سجن النقب الأسرى جهازاً خليوياً وطلبت منهم الاتصال بالخارج من أجل تليين موقفهم لقاء الإفراج عنهم جميعاً كدفعة أولى. تنبّهت قيادة الأسرى للفخ الذي أراده الإسرائيلي والبلبلة التي أراد حصولها في أوساط الأسرى، وخاصة أولئك المحكومون مدى الحياة، ناهيك بالمرضى وكبار السن والأطفال والنساء. إذ إن فصائل المقاومة، في كل عمليات التبادل التي تجريها، تحرص على أن لا يختصر الإفراج على عناصر محددة ومن نفس اللون الحزبي، إنما تهدف، بدرجة أساسية، إلى أن تكون عملية التبادل عمليةً تطال بكل مراحلها كل تصنيفات الأسرى من كل الحالات والتنظيمات.
قامت قيادة الأسرى بتسليم إدارة السجن الهاتف وأبلغتهم موقفها وشرطها: أن يتم الإفراج حصراً عن يحيى السنوار وتأمين إيصاله إلى قطاع غزة من أجل التباحث مع القيادة بملف التبادل. بالطبع رفض ديكل عرض السنوار الذي أفشل خطته. وفي أقل من ساعة أعادت مصلحة السجون توزيع الأسرى على السجون التي تجمّعوا منها.
تجمّدت المفاوضات طوال عام 2010، وخاصة أن السنوار قد علم بتفاصيل ما كان يحدث من تفاوض. فالصيغة التي قدّمت في منزل الزهار حصل اعتراض كبير عليها من قبل السنوار بعد أن علم بها عن طريق المحامي الذي زاره في السجن. الصيغة تضمنت استثناء أعداد كبيرة من الأسرى الكبار، وخاصة الذين قاموا بتخطيط وتنفيذ أهم العمليات، ومن بينهم حسن سلامة وعبدالله البرغوثي وإبراهيم حامد.
عبر هاتف مهرّب إلى سجن بئر السبع، ومن الغرفة رقم 11 تحديداً، أجرى السنوار اتصالاً بالزهار أبلغه فيه موقفه والأسرى الرافض لمشروع الصفقة، ثم أجرى اتصالاً آخر بالقيادي خالد مشعل، وأبلغه اعتراضه وكل الأسرى، وقد وعد مشعل السنوار بإيقاف الصفقة وهذا ما حصل.
وقبل إعادة تفكيك الهاتف وتخبئته تجنباً لاكتشافه، أجرى السنوار اتصاله الأخير بشقيقه محمد السنوار قائلاً له: «سلّم على الحاج (قاصداً رفيقه السابق في الزنزانة أحمد الجعبري) وقل له أن الأمانة التي عنده ما تطلع (قاصداً الأسير شاليط)».
حدّد السنوار من داخل سجنه ثمن الافراج عن جلعاد شاليط وهو ما تحقق في 11 تشرين الأول عام 2011 بإعلان نتنياهو موافقة حكومته على صفقة التبادل مع «حماس» والتي قضت بالإفراج عن 1027 أسيراً ومن بينهم يحيى السنوار.
* كاتب وأسير لبناني محرّر من سجون الاحتلال الإسرائيلي
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية