والجواب يكمن، في قراءة واعية ومتبصرة لتجارب الشعوب الموسيقية، التي تؤكد على عالمية الموسيقى، انطلاقاً من تراثها وتقاليدها الوطنية، بماتملك من خصوصية وفرادة، هي نتاج عبقري لمبدعيها الأوفياء لهويتهم الوطنية، التي لطالما أمدوها بعوامل بقائها ومكانتها، في موقع وسفر الحضارات الموسيقية على مر التاريخ.
وفي حقيقة الأمر، فإن مفهوم الموسيقى كلغة عالمية، يحتاج إلى تحليل معرفي دقيق، وهو على كل حال، مفهوم ملتبس، خلق آراء متناقضة بين هذا الموسيقي أو ذاك، لكن من الثابت هنا، أن الموسيقى تصبح عالمية، عندما تكون تمتلك العوامل لأن تصبح هكذا، بدءاً من القيمة والجودة التي تمثلها، وصولا الى خصوصيتها وتفرد تقاليدها الوطنية الموروثة، والتي تكون بمثابة خيط في نسيج اللغة الموسيقية العالمية، بفلسفتها الجمالية وأصالة بيئتها الوطنية التي انتجتها، وانتمائها بالمحصلة، الى مسار ومسير الثقافة والفكر العالمي،أي أن تكون رافداً مهما من روافد الإبداع في ثقافتها المحلية والإنطلاق منها نحو آفاق عالمية تضيف الى موروث الموسيقى العالمية، بماتملك من خصوصية وفرادة، على مستوى التأليف والممارسة، من نظام موسيقي مائز، وآلات لها طبيعتها وقيمها الصوتية والتعبيرية، كما بطبيعة الحال طرق الأداء سواء تعلق الأمر بالموسيقى الفنية العالمية، أو بالموسيقى الشعبية بمدلولاتها الثقافية، التي تعبر عن حكمة وفلسفة الشعب الذي أبدعها على مر الأزمنة وغيرها من امور ، والتي تختلف بطبيعة الحال، مابين شعب وآخر. أما مسلك التقليد واستنساخ الغير، موسيقياً بدعوى عالمية الموسيقى، فهذا لايعني سوى أمر وحيد، وهو التبعية والدونية والتصاغر في حضرة هذا الآخر المغاير، وليس الإبداع من الداخل، كما فعل مبدعون كبار في كافة موسيقى الشعوب، ومن بينها موسيقانا العربية.
فلو تمعّنا ملياً، في التجربة الغنية لمبدع موسيقى “الراجا” الهندي ” رافي شنكار” وابنته الجميلة “أنوشكا شنكار” وتحقيقهم العالمية بمعناها الثقافي النبيل، ، لوجدنا كيف أنهم قدمو للعالم، موسيقاهم الهندية الغنية والتي تمثل روح وفلسفة الهند العظيمة، ونفس الأمر ينطبق على الموسيقار الذي رحل مؤخرا” محمد رضا شجريان ” الذي قدم روح وتراث الموسيقى الفارسية، بمدلولاتها الثقافية والحضارية، ونفس الأمر نجده عند المبدع “نصرت فاتح علي خان” حين قدم فن “القوالي” الباكستاني، مبرزاً جمالية وعذوبة هذا الفن للعالم، وفي موسيقانا العربية تبرز تجربة المبدع الراحل “منير بشير ” كأهم تجربة برأينا نقلت إبداع العود وجمالية موسيقانا العربية الى العالم، لتصبح مع هذا الفنان لغة عالمية انطلاقاً من موروثها وعناصر الإبداع في هويتها الثقافية الدالة، وكذلك فعل الكبير صباح فخري، حين قدم موسيقاه وأغنيته العربية من موشحات وقدود وموايل، عبر مسارح العالم، ناقلاً إبداع الهوية الموسيقية العربية إلى ثقافات العالم، وكما فعل ايضاً، الرحابنة، وعمر خيرت، وغيرهم، بالطبع هناك الكثير من الموسيقيين العرب، ساروا فيما بعد على هذا الطريق، في سبيل تقديم إبداع الموسيقى العربية بتقاليدها الأصيلة، حيث تعرف العالم على كنوز هذا الفن، وعلى خصوصيته وفرادته المائزة، ولو حاولنا تعداد الأسماء التي شاركت في إبداع الموسيقى العالمية لاحتجنا الى مجلدات، حيث تخبرنا كما أسلفنا تجارب الشعوب عن معنى ومغزى عالمية الموسيقى، وموقعها في ثقافات الشعوب.وهذا هو الفرق البيّن، بين مفهوم عالمية الموسيقى وعولمة الموسيقى، أي جعل موسيقات العالم تذوب وتتلاشى في ثقافة هذه المنظومة من دون إدراك معرفي لخصوصياتها وتقاليدها الروحية الموروثة لدى هذه الشعوب، ولعل التجربة المعاصرة تقدم لنا الدليل القاطع، على تناقض هذين المفهومين، وذوبان وتشتت التجربة الموسيقية المعاصرة في متاهة هذه المنظومة التي أثرّت بشكل كبير وعميق، في غنى وخصوبة موسيقات الشعوب، بفعل هيمنتها على الانتاج والإعلام العالمي حيث تجتاح قيمها الثقافية التجارية جغرافية هذا الفن في طوفان مرعب من الفن السلعة وقيم الاستهلاك السفيه على حساب روحانية هذه الموسيقات التي نجحت في الوصول الى العالمية انطلاقاً من موروثها وعناصر الإبداع في هويتها الثقافية الوطنية . يقول الباحث الدكتور ” محمود قطاط” في بحثه القيم “الهوية والابداع في الموسيقى العربية” حول هذه القضية الهامة :”… فإن الموسيقى في جوهرها تمثل ظاهرة أساسية لا في تحديد الهوية فحسب، بل كذلك في إبراز الذوق والقدرة على الابداع والابتكار. ولهذه الأسباب أيضاً، فإن الموسيقى، على العكس من الاعتقاد الشائع، ليست لغة عالمية، وإنما هي لغات ولهجات مختلفة باختلاف الشعوب والمجتمعات.
وإذا كانت من حيث أساسها واحدة في كل مكان باعتبارها “فن تنسيق الأصوات لصورة محببة للأذن” وإذا كانت من حيث أصولها مرتبطة بمعتقدات البشر وطباعهم وهي لغة الروح والخواطر، بل هي نبض الحياة، فانها بالنظر إلى شكلها – كماهو الحال بالنسبة للغة التخاطب – تنقسم إلى عدة عائلات مختلفة من حيث نوعية اصواتها وايقاعاتها وتقنياتها الفنية، ومن حيث أدواتها ومفاهيمها الجمالية ووظيفتها الاجتماعية، وذلك بما يتماشى مع عبقرية وخصوصية كل شعب ومايتناسب مع حاجاته الحقيقية.
علي الأحمد
سيرياهوم نيوز 6 – الثورة أون لاين