رأي وليد الخالدي
لمّا كان الرئيس الأميركي جو بايدن يعدّ نفسه من دهاة الشؤون الدولية، يبزّ فيها سائر أسلافه، لربما باستثناء روزفلت وأيزنهاور وبوش (الأب)، فقد صمّم على تتويج سيرته السياسية بمشروع عتيد في هذا المضمار يكون بمثابة نصب تذكاري يخلّد ذكراه وإرثٍ دائمٍ لبلاده، وجعل بايدن الشرق الأوسط ركيزة مشروعه هذا، بينما انتقى شريكاً رئيسيّاً له فيه: رفيق الدرب وصديقه الحميم لعقود طوال بنيامين نتنياهو.ويشاء القدر أن يسدي علجٌ غملاج صفيق، غرّ خال الذهن خلواً مُحكَماً في مجال تخصص بايدن، من حيّ كوينز في نيويورك، صدمة صاعقة لأحلام يقظة صاحبنا، بل إن ما زاد من وقع الصدمة إيلاماً على بايدن أن من تواطأ مع المدعو دونالد في ما حصل لم يكن سوى بيبي نتنياهو إيّاه.
وهكذا فقد واجهت بايدن لدى تولّيه الرئاسة إشكالات جسام في تنفيذ مشروعه، موجزها الآتي:
– بينما مال بايدن كل الميل إلى تأييد التطبيع الإبراهيمي، نفر كل النفور من السير على خطى سلفه ترامب.
– بينما رغب بايدن في استقصاء إمكانات التقارب مع إيران، لم يكن هدف التطبيع الإبراهيمي سوى محاربة طهران.
– بينما كان في الاحتمال غفران بيبي على خيانته في التواطؤ مع ترامب، فكيف السبيل إلى استيعاب محمد بن سلمان شريكاً مستقبلياً لا غنى عنه في خدمة التطبيع الإبراهيمي وتطويره بعد وصمه الحاسم الجازم الناجز بـ«المنبوذ» في أعقاب تقطيع أوصال الخاشقجي؟
أخذت الأجوبة على هذه الإشكالات تظهر قبل نهاية عام 2021 فحواها كما يأتي:
– يحافظ على فكرة التطبيع الإبراهيمي في مشروع بايدن العتيد ولو كان ترامب أول من نفّذ الفكرة.
– تشكل الفكرة نواة مشروع بايدن، ولكن المشروع سيضعها في إطار عالمي واسع يحوّلها جوهرياً بحيث يمنحها طابع بايدن الخاص وبصمته.
– يتم التخلّي عن محاولة التقارب من إيران.
– يسعى إلى تأهيل محمد بن سلمان وردّ الاعتبار إليه.
ولقد ساهمت الحرب الأوكرانية في بلورة هذه الاتجاهات.
هنا يدخل المشهد محمد بن زايد، وهو من كان للتوّ قد نفض عن نفسه مراس العروبة والدين وتعهدات والده الجليل الراحل تجاه فلسطين ومقدساتها، ليزهو صفاقةً بانضمامه إلى التطبيع الإبراهيمي، وهو من ظلّ يعاني من ملل معالجة شؤون بلده القروية وانتشى من تملّق مستثيبي بلايينه وأدمن عليه وسعى إلى مزيد منه، وحيث كان قد نما جناحاً غرباً صوب أوروبا والولايات المتحدة عبر التطبيع مع إسرائيل أدار وجهه الآن شرقاً صوب الهند وزعيمها ناريندرا مودي. وحيث كان المذكور من طغاة الهندستانيين وأشدّهم عداوة وعتوّاً على رعاياه المسلمين، فقد رحّب بمبادرة ابن زايد كل الترحيب ووجد فيه الشريك المثالي ضد عدوَّيه اللدودين: الصين الشيوعية وباكستان الإسلامية، ومنجماً لا قعر له للدولارات افتقرت الهند إليها ذاك الافتقار، وإذ فجأة تولد فكرة التطبيع الهندي الإبراهيمي (Indo-Abrahamic) لتكون توأماً للتطبيع العربي الإسرائيلي الإبراهيمي على ما في هذه الفكرة الهندية من تناقض مطلق كامل في مكوناتها.
وكانت الهند سابقاً قد نمت جناحاً شرقياً لها عام 2007 في ما سمّي مجموعة الحوار الرباعي Quadrilateral Dialogue (باختصار QUAD) ضمّها إلى كل من الولايات المتحدة وأستراليا واليابان، فما كان من القسيس أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركية، في أعقاب إعلان مشروع التطبيع الهندي الإبراهيمي، إلّا أن أشرف على معمودية الوليد الجديد وتسميته باسم آبائه I2 U2 (أي الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات). ومما زاد في الطين بلة أن أعلن المشاركون أن غاية التنظيم الجديد I2 U2 إنما هي «التعايش بين الأديان» مع ما في ذلك من احتقار للبداهة البشرية.
لن يخفى على من يتأمّل هذا المشروع بتواصله المخطّط أنه إنما يحمل في طيّاته عواقب زلزلية
وإِثر ما سلف، وبعدما تزعّم بايدن الاتحاد الأوروبي متصدّياً للرئيس الروسي بوتين في أوكرانيا، رأى نفسه يشرف على منظومة عالمية تبشّر بتجلّي مشروعه العتيد، ينقصها تفصيل مهم هو مقام محمد بن سلمان فيها وهو المنبوذ رسمياً (من قبله هو – أي بايدن). ولم يلبث أن لاح المخرج لهذا الإشكال باقتراب الانتخابات الأميركية للكونغرس (Mid term elections) وارتفاع أسعار البترول إلى 135 دولاراً للبرميل الواحد والتضخم المالي المرافق لذلك، فكانت جميعاً مبررات لبايدن للقيام بزيارة رسمية للمملكة العربية السعودية، وهو ما حصل. بيد أن العائلة المالكة لم ترقص هذه المرة طرباً لزيارة رئيس الولايات المتحدة، ولم يكن الملك ولا وليّ العهد في استقبال بايدن في المطار، واستعيض عن المصافحة اليدوية مع محمد بن سلمان بمصافحة القبضة وفسرت حاشية البيت الأبيض ذلك، تدليساً، بأنه بدافع احترازي بسبب “الكوفيد”. وعندما سأل الصحافيون بايدن ماذا سيقول لأرملة الخاشقجي عن زيارته للمملكة، كذب بايدن على رؤوس الأشهاد مصرّحاً: «جئت إلى المملكة لمقابلة أعضاء مجلس التعاون وليس لمقابلة وليّ العهد».
نعم، قابل بايدن أعضاء مجلس التعاون في المملكة وبحث معهم أكلاف البترول، غير أن الحدثين الأخطر في المملكة أثناء زيارة بايدن كانا:
أولاً: بيان صدر افتراضياً (Zoom) عن أربعة زعماء: بايدن (الولايات المتحدة)، ابن زايد (الإمارات)، لابيد (رئيس الوزارة الإسرائيلية) والهندستاني مودي، يباركون فيه قيام مجموعة I2 U2 التي أشرف القس أنتوني بلينكن على معموديتها كما سلف.
وثانياً، والأخطر: قمة ثنائية مطوّلة بين بايدن وابن سلمان.
أمّا الأولى، فخطورتها، على الرغم من افتراضيتها (أي صفتها على الزوم Zoom)، تكمن طبعاً في أنها حدثت أصلاً، وأنها حدثت في المملكة بالذات وبحضور ابن سلمان وإن لم يكن بمشاركته الجسدية.
أمّا القمة الثنائية بين بايدن وابن سلمان، فحدّث عنها ولا حرج، وحريّ بالقارئ أن يراجع بنفسه نصوصها الأصليّة في وثيقتين صادرتين عن البيت الأبيض، عنوان الأولى «سجل بحقائق» (A Fact Sheet)، وعنوان الثانية «بلاغ جدة المشترك» (Jeddah Joint Communique).
وتبيّن الأولى الكمّ الهائل من المشهيّات المادية التي يقدّمها بايدن لابن سلمان لإغرائه بالالتحاق بقافلة التطبيع الإبراهيمي مع إسرائيل، ضارباً عرض الحائط بأشلاء الخاشقجي ويتامى اليمن.
ويُلاحظ لدى مراجعة النصَّين تقبّل ابن سلمان الضمني لتوجهاتهما مع استدراك له بخصوص فلسطين يعكس لفظاً مشروعَي سلفَيه الملك فهد والملك سلمان. ولعل إعلان المملكة إثر القمة الثنائية عن فتح أجوائها للطيران الإسرائيلي لأول مرة منذ 1948 مؤشر على نياتها في صدد التطبيع الإبراهيمي.
بقي لبايدن إيجاد السبيل لتحقيق الإمكانات السياسية الكامنة في البيان الافتراضي السالف الذكر والصادر عن القادة الأربعة (I2 U2) في مشروعه العتيد، ولم يلبث أن قرر أن يتمّ ذلك في اجتماع الدول الأعضاء في مجموعة G20 الذي انعقد في نيودلهي في الهند في 9 أيلول/ سبتمبر برعاية مودي الهندوستاني، وكان أهم المشتركين في هذا الصدد بايدن ورئيسة الاتحاد الأوروبي وابن سلمان وابن زايد، فماذا كانت حاصلة هذا الاجتماع؟ كانت الحاصلة ولادة مشروع عابر للقارات يربط الهند بالسفن والسكك الحديدية والكابل بالشرق الأوسط (عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل) ويربط إسرائيل عبر ميناء أثينا في اليونان بأوروبا وعبر أوروبا بالولايات المتحدة، ويحمل هذا المشروع اسم «ممر الهند والشرق الأوسط» Middle East India Corridor (MEIC)… وصاح بايدن: «هذه صفقة كبيرة… هذه صفقة كبيرة حقاً»، وتجاوب نتنياهو فوراً عبر الفيديو: «إن مشروع السكك والسفن يشكل اختراقاً ضخماً سيحوّل المنطقة تحولاً كاملاً».
وبعد، فلن يخفى على من يتأمّل هذا المشروع بتواصله المخطط أنه إنما يحمل في طياته عواقب زلزلية؛ منها:
• التصدي لمبادرة الحزام والطريق الصينية ومحاولة احتوائها.
• الحدّ من اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية.
• تأبيد الخلاف السني الشيعي وجعله صراعاً وجودياً بين الطرفين.
•احتضان الدولة اليهودية الأشرس منذ قيامها عداوةً للفلسطينيين وللمقدسات الإسلامية تحت سيطرتها في حلف إسلامي سني برئاسة خادم الحرمين.
• عزل إيران وردعها واحتواؤها ومعاداتها و«أذرعها» الشيعية في البلاد العربية.
• تهميش تركيا لدعمها جماعة الإخوان المسلمين.
• تأييد الهنود «الحريديم» الهندوس ضد مواطنيهم المسلمين.
• عزل باكستان، خصم مودي اللدود، وتهميشها.
وهكذا أشرف جو بايدن زاهياً على مشروعه العتيد الذي اكتملت معالمه اكتمال مفاتن آلهة الحبّ فينوس عند ظهورها من البحر في الأسطورة الإغريقية، وقرّت عينه بامتداد هذا المشروع عبر الكون من مقرّه في البيت الأبيض عبر الاتحاد الأوروبي وكل من الاتفاق الإبراهيمي التطبيعي والهندي الإبراهيمي ومجموعة (I2 U2) وممر الهند والشرق الأوسط (MEIC) ومشروع الحوار الرباعي (QUAD) إلى أقاصي آفاق المحيط الهادي…
وإذ بحلول 7 تشرين الأول/ أكتوبر… ودخول لاجئ ابن لاجئ، خريج 22 سنة في سجون إسرائيل معظمها في زنزانة فردية، اسمه يحيى السنوار.
وهذا، سيداتي سادتي، ما يفسّر غضب جو بايدن الجنوني الذي لا يهدأ وحربه الإبادية ضدّ غزة هاشم ولاجئيها، بمن فيهم أولاد إسماعيل هنية وأحفاده، وضد يحيى السنوار بالذات.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية