حسن حردان
آثار الخلاف الحاصل حالياً بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، التساؤلات حول أبعاده الحقيقية.. لا سيما أنّ الخلاف ظهر إلى السطح، عبر إعلان البيت الأبيض تعليق شحنة من الأسلحة كانت سترسل إلى «إسرائيل»، على خلفية أمرين:
الأمر الأول، رفض نتنياهو مقترح للوسطاء القطريين والمصريين وشاركت في صياغته واشنطن ووافقت عليه حركة حماس، ينص على هدنة مستدامة وانسحاب الإسرائيلي من القطاع إلى غلاف غزة.
الامر الثاني، إقدام نتنياهو على البدء بعملية عسكرية واسعة في رفح تحت عنوان القضاء على كتائب حماس الأربعة في المدينة واستعادة الأسرى الصهاينة..
بدا واضحاً انّ إدارة بايدن رأت في رفض نتنياهو للاتفاق والقيام بعملية رفح، بمثابة تجاهل تامّ لموقفها، الذي يرى انّ الوقت قد حان لقبول «إسرائيل» اتفاق وقف النار، وعدم الذهاب إلى عملية واسعة في رفح، لن تؤدّي سوى إلى مزيد من المجازر، وتأليب الرأي العام الأميركي والعالمي وتصاعد انتفاضة الجامعات الأميركية والغربية ضد حرب الإبادة الصهيونية وسياسات الإدارة الأميركية الداعمة لها، مما يهدّد بالخطر، أكثر من أيّ وقت فرص نجاح بايدن في انتخابات الرئاسة التي ستجري نهاية هذا الصيف.. فيما باتت واشنطن على يقين بانّ اجتياح رفح لن يؤدي إلى القضاء على حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، ولا إلى استعادة الأسرى.. وان النتيجة عسكرياً لن تكون أفضل حالاً مما حصل في شمال غزة وخان يونس حيث المقاومة لم تضعف، ومُني حيش الاحتلال بخسائر فادحة بالأرواح والعتاد على نحو غير مسبوق..
فمنذ بداية الحرب على غزة كانت إدارة بايدن تؤيد عملية عمليات عسكرية وليس اجتياحاً واسعاً للقطاع بناء على خلاصات تجربتها الفاشلة في حربي العراق وأفغانستان.. الا انّ نتنياهو وحكومته الذين تلقوا للتو أقسى ضربة في تاريخ الكيان في 7 أكتوبر، لم يستمعوا للنصيحة الأميركية التي شرحها بالتفصيل القائد السابق للقوات الأميركية خلال حربي العراق وأفغانستان ديفيد بترايوس الذي حذر الجيش الإسرائيلي من التورّط في اجتياح غزة لأنه سيواجه هناك «الانتحاريين والعبوات الناسفة والكمائن وافخاخ الألغام.. والقتال بالنسبة له في شوارع المدينة سيكون أكثر صعوبة وتعقيداً».
ومع ذلك تجاهلت حكومة نتنياهو كلّ ذلك وأقدمت على تنفيذ عملية اجتياح واسعة لشمال ووسط غزة وخان يونس في الجنوب، لكن الإدارة الأميركية مع ذلك اكتفت بتوجه النصح للقيادة الإسرائيلية، وعمدت إلى دعم حرب الإبادة هذه والمشاركة فيها، وأقامت جسراً جوياً وبحرياً لمدّ الكيان بالسلاح، وحشدت أساطيلها في المنطقة لحمايته.. ووفرت له الغطاء السياسي..
لكن ماذا كانت النتائج؟
بعد سبعة أشهر، تبيّن انّ جيش الاحتلال الإسرائيلي نجح فقط في ارتكاب المجازر المهولة ضدّ المدنيين، وتدمير القطاع وتهجير سكان الشمال والوسط إلى منطقة رفح في الجنوب، لكنه فشل في تحقيق أيّ من أهدافه بالقضاء على المقاومة وتدمير قدراتها واستعادة أسراه بدون شروط، في حين غرق جيش الاحتلال في مستنقع من الاستنزاف نتيجة المقاومة الضارية التي واجهته، وأوقعته في كمائن وأفخاخ. وتحوّل جنود العدو ودباباته إلى شاخصات في حقول رماية يصطادها رحال المقاومة الذين برهنوا على مهارة قتالية منقطعة النظير، من نقطة صفر، وأظهروا كفاءة عالية في تدمير دبابات ومدرّعات العدو، وقنص جنوده.. مما أدى إلى تدمير مئات الآليات العسكرية الصهيونية ومقتل الآلاف من ضباط وجنود العدو وجرح عشرات الآلاف..
على أنّ حرب الإبادة هذه وفشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه العسكرية ولّد تداعيات وانعكاسات سلبية داخل الكيان الصهيوني وعلى الصعيد العالمي ولا سيما في الولايات المتحدة، وضع الإدارة الأميركية في حرج ومأزق كبيرين:
أولا، على صعيد الداخل الاسرائيلي، تصدّعت الجبهة الداخلية، وانفرط الإجماع خلف الحكومة لمواصلة الحرب، وبات هناك انقسام بين من يدعو إلى قبول صفقة لتبادل الأسرى مع حماس حتى ولو أدت إلى وقف الحرب، وبين من يرفض ذلك ويُصرّ على الاستمرار في الحرب.. حتى انّ آخر استطلاعات للرأي أظهرت انّ نحو 60 بالمائة من الإسرائيليين باتوا مع صفقة حتى ولو كان الثمن وقف الحرب، ما جعل نتنياهو وحلفاءه من الأحزاب اليمينية المتطرفة في مواجهة مأزق كبير وازمة داخلية وضغط متواصل من عائلات الأسرى للقبول بالاتفاق مع حركة حماس…
ثانيا، على صعيد الداخل الأميركي، اجتاحت التظاهرات المنددة بالحرب على غزة، والمؤيدة لفلسطين، والمستنكرة لسياسات إدارة بايدن الداعمة للحرب، اجتاحت المدن الأميركية، وتحوّلت اخيراً إلى انتفاضة تعمّ الجامعات الأميركية التي عكست تحوّلاً هاماً في وعي الجيل الجديد من الشباب الأميركي لصالح دعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.. مما أثار المزيد من القلق في دوائر صناع القرار في واشنطن، وزاد من منسوب القلق لدى إدارة بايدن من تأثير ذلك فعلياً على نتائج الانتخابات الرئاسية في حال استمرت الحرب ولم تضغط واشنطن لوقفها والحدّ من المعاناة الإنسانية لسكان غزة، بما يؤدي إلى امتصاص نقمة قسم كبير من الأميركيين، وخصوصاً الطلبة وأساتذة الجامعات الذين يطالبون الإدارة بالعمل على وقف الحرب..
أمام هذه التطورات وجدت الإدارة الأميركية، أنّ الاستمرار في الحرب لم يعد مجدياً، ودعمها في ذلك الخلاصة التي توصل إليها أركان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي اجتمعوا اخيراً بحضور وزير الدفاع ورؤساء هيئة الأركان والموساد والشاباك ومسؤول ملف المفاوضات وخلصوا إلى نتيجة تقول «إنّ الحرب وصلت إلى طريق مسدود في ضوء عدم دعم الإدارة الأميركية عملية في رفح، وذلك تزامناً مع عدم إمكانية التوصل لاتفاق بشأن جبهة الشمال بدون تهدئة بغزة.. وانّ الجيش لا يخوض حرباً فعلية في غزة ونتنياهو وبن غفير يتجاهلان هذه الحقيقة، وأنّ إسرائيل فقدت ميزتين اساسيتين هما الدعم الأميركي ووحدة الشارع». (صحيفة يديعوت أحرونوت الاسرائيلية).
من هنا ومن أجل العمل على امتصاص نقمة الشارع الأميركي ولا سيما طلبة الجامعات وتوفير مناخ مؤاتٍ لصالح حملة بايدن الانتخابية، وكذلك إنقاذ «إسرائيل» من مأزق الاستنزاف المتفاقم في غزة وعلى الجبهة الشمالية مع لبنان، ووضع حدّ للحصار الاقتصادي عليها في البحر الأحمر، وهجمات المقاومة العراقية، عمدت إدارة بايدن إلى تكثيف الجهود لأجل التوصل إلى اتفاق يوقف النار ويحقق تبادل الأسرى ويخفف من المعاناة الإنسانية في غزة..
لكن واشنطن أدركت في الوقت نفسه انّ ايّ اتفاق إنما هو انعكاس لنتائج الميدان، ولهذا ليس بالإمكان فرض اتفاق على حركة حماس وفصائل المقاومة بالشروط الإسرائيلية، خصوصاً بعد ان جرّب هذا الخيار ولم ينجح، وكادت المفاوضات تنهار، فأرسلت واشنطن مدير مخابراتها وليم بيرنز لهندسة اتفاق عبر قطر ومصر يستجيب لأهمّ مطالب حماس، من خلال إدخال بعض التعديلات على المقترح المقدّم لها، وخصوصاً لجهة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة، ووقف النار عبر صيغة مبتكرة تحت اسم «هدنة مستدامة»، يمكن أن ترضي «إسرائيل» ايضاً.. ولهذا جاءت موافقة حماس على المقترح المعدل لتشكل صدمة لنتنياهو، وتدفعه إلى الردّ بالرفض واعلان البدء بعملية رفح.. الأمر الذي فجّر الخلاف مع إدارة بايدن التي اعتبرت ردّ نتنياهو بمثابة محاولة واضحة تستهدف إحباط جهودها لإنجاز اتفاق لوقف النار وبالتالي الضرب بعرض الحائط مصالح «إسرائيل» لوقف حرب لم تعد مجدية، ومصالح إدارة بايدن الانتخابية لاحتواء غضب الرأي العام الأميركي.. ومع ذلك نجد أنّ إدارة بايدن ظلت تمارس سياسة محاولة إقناع نتنياهو والقول انها لا توافق على عملية واسعة في رفح، وأنه يمكن جسر الهوة بين «إسرائيل» وحماس..
ولهذا يُطرح السؤال… هل سيكون بايدن هذه المرة حازماً ويمارس ضغوطاً أكثر تأثيراً وينفذ تهديده بأن واشنطن «لن تزوّد إسرائيل بالأسلحة والذخيرة اذا اجتاحت رفح ودخلت إلى المناطق المدنية».
أم سيعود بايدن إلى انتهاج نفس السياسة وهي الاكتفاء بإبداء الاعتراض على سلوك نتنياهو الذي ردّ على بايدن بالإصرار على تنفيذ عملية رفح ولو اضطرت «إسرائيل» ان تبقى وحدها، وبالتالي تستمرّ واشنطن في دعم «إسرائيل» انطلاقاً من سياسة أميركية ثابتة؟
هذا ما ستجيب عليه الساعات والأيام القليلة المقبلة.
سيرياهوم نيوز1-البناء