نعم، لم تكن أسطورة،كما يحلو للبعض أن يصفوها، إلا بالمعنى العابر المتعارف عليه، فهي في الحقيقة، مثال ناصع ومضيء، للجهد والمعاناة والمثابرة الدؤوبة “كهاوية” تريد أن تتعلم وتتطور من دون كلل أو ملل ، بالرغم من كل النجاح الابداعي والجماهيري، الذي أحاط بمسيرتها الفنية المميزة، فبعد مرور سنوات على رحيلها، تبقى أم كلثوم، الفنانة الأكثر شهرة والأكثر مبيعاً لأغانيها التي شكلت ورفدت الوجدان العربي، بأصول الغناء المتقن، الذي وضع أصوله وقواعده، موسيقار العصر العباسي الأشهر “اسحاق الموصلي” حين قال :”الألحان نسجٌ يُنشئها الرجال ويجوّدُها النساء” وهكذا كان، فقد لحن لها كماهو معلوم، كبار الموسيقى العربية، وفي كافة القوالب الموسيقية، من موشحات وقصائد وأدوار وطقاطيق ومواويل، وغيرها واضعين أسس جديدة ومعايير ثابتة، في طرق ومسارات الأداء والتعبير الدرامي والتصوير الوجداني، الذي نقلته هذه الفنانة القديرة، عبر إحساسها العظيم بالجمال التعبيري الذي تختزنه موسيقانا العربية، كما في قدرتها المدهشة في اختزان أسس التجويد الذي تأسست عليه في مراحلها الأولى، بمامنحها ميزة طلاقة نطق الحروف بشكل سليم ودقيق، في غنائها للقصائد العربية، ساعدها في كل ذلك وجود صحبة فنية من الصعوبة بمكان أن تتكرر، شعراً وتلحيناً وعزفا وتوزيعا، “أحمد شوقي، بيرم التونسي، أحمد رامي، إبراهيم ناجي، صلاح جاهين، أحمد شفيق كامل، عبد الفتاح مصطفى، عبد الوهاب محمد.. شعراً، محمد القصبجي، محمد عبد الوهاب، زكريا أحمد، رياض السنباطي، محمد الموجي، بليغ حمدي، كمال الطويل، وغيرهم تلحيناً، محمد عبده صالح، أحمد الحفناوي، سيد سالم وغيرهم من أساطين العزف، وقائمة لاتنتهي من مبدعي ذلك الزمن الجميل، الذي يبقى علامة مضيئة في تاريخ الفن الموسيقي المعاصر، لتبقى أم كلثوم، صاحبة أكبر رصيد من الإبداع والفن الأصيل المتجدد، الذي لن تمحوه أو تنال منه السنين.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذه الفنانة القديرة، لم تصل الى مجدها الفني، بين ليلة وضحاها، بل تعثرت وعانت كثيراً، ولم يشفع لها وجود هذه الصحبة، لولا موهبتها العظيمة وخزينها الابداعي الذي تحصلّت عليه، منذ أن بدأت رحلتها الطويلة في عالم الغناء المتقن، وهي تجوب الأرياف تلتقط تلك الأناشيد والمواويل والموشحات الدينية الصوفية، والغناء الريفي المشبع بتقنيات الأداء الشعبي الذي يبقى بمثابة روح وفلسفة الشعب، وتحتفظ بهذه التقنيات في وجدانها وذاكرتها العجيبة، التي كرستها أيضا كفنانة متمكنة، في فن الارتجال، ذلك الفن الأصعب الذي كان لايقاربه، إلا من امتلك ناصية اللحن وإمكاناته التعبيرية، والأهم القدرة على التصرف والانتقال الحر بين المقام الموسيقي وتفرعاته النغمية، وهو ماكانت رائدة ومجددة فيه الى أبعد الحدود ، كما ينبئ عن ذلك أكثر نتاجها الإبداعي المميز، وحفلاتها المسرحية الشهيرة، التي أطلقت فيها كل كوامن الإبداع والأداء المعجز بحق. كمثال “رق الحبيب، رباعيات الخيام، الأطلال، الآهات، ياظالمني، شمس الأصيل، أغداً ألقاك، هذه ليلتي، للصبر حدود، فات الميعاد، سيرة الحب، وغيرها من شدو وعذوبة هذا الصوت الساحر بحق.
نعم، تبقى أم كلثوم، الفنانة الأكثر قدرة على إدهاشنا وإمدادنا على الدوام “بجرعات” الطرب النفسي التعبيري، خاصة في زمن العتم والعقم الابداعي الذي يحيط بفن الغناء العربي اليوم، لأسباب باتت معلومة للجميع، حيث أحابيل وهرطقات شركات الإنتاج والنشر والإعلام الأصفر، تفرض اللحن التجاري الذي تريد، الذي يعود بالأرباح الطائلة عليها، عبر القفز عن كل هذا الإرث الإبداعي الأصيل، الذي اجترحته هذه الفنانة الكبيرة وغيرها من مطربات ومطربين، استحقوا هذا الاسم عن جدارة واستحقاق وتميز.
شجرة هذا الفن ستبقى باسقة، أنتجت لنا مع هذه الفنانة وغيرها ثماراً طيبة وقطوفاً دانية من إبداعات الزمن الجميل الأصيل، الذي نعود اليه، كلما ضاقت بنا السبل، نستكين لجمالياته المائزة، علّه ينقذنا من وحشة الحياة وعصر تسليع الفنون، مدركون تماماً، أن هذا الزمن الابداعي، لن يتكرر ولن يعود أبدا، لكنه يعود بشكل أو بآخر، عبر ماتبقى لنا من تسجيلات وحفلات وأفلام وغيرها تحتفظ بها ذاكرة هذا الفن من حسن الحظ، نتلمس تلك القدرة العجيبة في صوتها المبهر الذي قاربت مساحته الديوانين، بقوته وصفاء ذبذباته، والأداء التعبيري المذهل الذي امتلكته منذ مراحل التأسيس الأولى بفضل أساتذتها الكبار. الذين اجترحوا لنا وللأجيال كل هذه الموسيقى العظيمة وكل هذه الألحان الأصيلة التي تتناقلها الأجيال بكل محبة وتقدير في دلالة قوية على أن الفن الأصيل الملتزم لايموت أو يذوي مهما طال الزمن.
يقول الموسيقار الكبير “محمد عبد الوهاب” الذي لحن لها مجموعة من التحف الموسيقية النادرة أنت عمري، وأمل حياتي، وفكّروني، هذه ليلتي، ودارت الأيام، وأغدا ألقاك، وغيرها من روائع خالدة :”إن فيها ملامح عصر في طريقة الغناء والسلوك والشخصية والخلق وقدمت فناً بلا ابتذال، وسمت بأخلاق المهنة، إن فيها عشر مغنيات معاً. فكل ميزة تجعل منها مطربة كبيرة. من أهم ميزاتها التعبير :بالجسم، باليدين، بالحركات، بالإيماء، بالوجه، بالعبوس، بالضحك، كانت ممثلة، ولا أعني أنها كانت تفتعل، بل كانت تُحس، وهذه سمة الفنان العظيم، تُحس الغضب أو الفرح أو العتاب، فتؤديه، كانت مجموعة عجيبة من عطايا الله السخية، أما الصفة العظيمة فيها، فهي أنها ظلت هاوية حتى آخر رمق فيها. وكانت مستمعة من الطراز الأول، فتبكي حين تتأثر بأغنية تعجبها، ولو لم تكن مستمعة عظيمة، لماكان في مقدورها أن تكون مطربة عظيمة.
علي الأحمد
سيراهوم نيوز 6 – الثورة أولاين