د. ذوالفقار علي عبود :
يعيش نحو 75% من الفقراء في المناطق الريفية، ويعتمد أغلبهم على الزراعة و/أو الأعمال المرتبطة بها كسبيل لكسب العيش، وتؤدي الحروب والصراعات إلى تعميق أزمة هذه الفئات الريفية التي تعيش في مناطق منكوبة.
إن الاقتصادات الزراعية الشاملة يمكن أن تخلق فرص عمل وأن توفر مصادر للدخل وتقضي على الجوع في المناطق الريفية، ما يتيح للفقراء فرصة لإطعام أسرهم والعيش دون إهدار لكرامتهم.
وتعتبر التشريعات والقوانين بمثابة العمود الفقري لتحسين سبل معيشة فقراء الريف، وتساعد سياسات الحكومة في مجال الخدمات والزراعة الفقراء على تحسين وتمكين وضع سبل العيش من خلال تحقيق الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة (القضاء على الفقر) والهدف الثاني (القضاء على الجوع) معاً، وتشمل هذه السياسات العمل على تعزيز التحول الهيكلي الشامل، وزيادة فرص الحصول على الأراضي والموارد، وتنويع مصادر الدخل، وتوفير الأعمال، والمساواة بين الجنسين، وتعزيز المؤسسات الريفية، وتمكين الحماية الاجتماعية لفقراء الريف.
في البلدان منخفضة الدخل، يكون أثر الاستثمار في الزراعة على الحد من الفقر أعلى من أثره في القطاعات الأخرى، حيث إنه يمنح سكان الريف فرصة مباشرة للاستفادة من أصولهم الرئيسة أي الأرض والعمالة، وبالتالي يعد الاستثمار في الزراعة الأسرية الصغيرة وفي صيد الأسماك والرعي، خطوة نحو الحد من الفقر بصورة مستدامة.
وعلى الرغم من ذلك، لا يعد دعم قطاع الزراعة كافياً للقضاء على الفقر، فهناك عدة نُهج سياسية أساسية لتحقيق ذلك، وتتمثل في تعزيز السياسات الاجتماعية، وتعزيز الاتساق بين الزراعة والحماية الاجتماعية، وتعزيز قدرة المؤسسات المنتجة والريفية، وزيادة الاستثمار في البنية التحتية الريفية، والبحوث والخدمات لخلق فرص جديدة لتوليد الدخل لفقراء الريف من خارج المزرعة.
لذلك لا بدّ من التنسيق بين السياسات الرامية للحد من الفقر في الريف، وأن يدعم بعضها بعضاً في مختلف الوزارات الحكومية، بما فيها وزارات الزراعة والبيئة والشؤون الاجتماعية والعمل والصحة والتربية والتعليم العالي والمالية وهيئة التخطيط والتعاون الدولي.
إن نسبة 60% من النساء العاملات على مستوى العالم يشتغلن في القطاع الزراعي، لذلك يجب أن تراعي سياسات الحد من الفقر في الأرياف المساواة بين الجنسين ومراعاة الفروق بينهما، وأن تسعى لتمكين الريفيات من الناحية الاقتصادية.
فالفقر هو داء اجتماعي، وهو ظاهرة اقتصادية مرتبطة بالتنمية، التي يجب أن تهدف لمعالجة ظاهرة الفقر، وتضييق مسببات زيادة أعداد الفقراء، إضافة إلى أنه في اقتصاد يعاني من تزايد أعداد الفقراء، وتنتشر فيه تجمعاتهم فى القرى وأحزمتهم فى المدن، ستعاني خططه وبرامجه التنموية من قيود تحد من فاعليتها، وستزداد مشقة الطريق الموصل لهذه التنمية.
تشير أدبيات مكافحة الفقر إلى مسؤولية السياسات المالية والنقدية الحالية فى تعميق ظاهرة الفقر في الأقاليم الحضرية والريفية، ومسؤوليتها كذلك عن تدهور أحوال الطبقات الاجتماعية، وخصوصاً الطبقة الوسطى، فالحكومة مطالبة بمد مظلة برامج الحماية الاجتماعية لتشمل فئات جديدة من فقراء المدن والأرياف.
وهناك ثلاثة أسئلة يمكن طرحها حول مشكلة الفقر في سورية:
هل هذه المشكلة آخذة فى التفاقم فى الوقت الراهن؟
هل من سبيل لحل هذه المشكلة غير السبيل الحالي للحكومة؟
وما هي أنسب السبل لمساندة فقراء سورية؟
هل هو سبيل الدعم النقدي المباشر، أم هناك سبل أخرى يمكن للسياسة الاقتصادية أن تسلكها؟
رغم أن آراء أغلب الباحثين تتفق على تفاقم مشكلة الفقر في سورية من حيث عدد الفقراء القابعين تحت «خط الفقر»، إلا أن نوع الفقر هو الذي يتفاقم وليس حجمه. فالتقارير التي تبحث في تطور ظاهرة الفقر، تركز كل اهتمامها على مقارنة الدخل الفردي والأسري مع سلة الحد الأدنى للكفاف (السلع والخدمات الضرورية اللازمة ليحافظ الإنسان على حياته)، وبالاعتماد على هذه المقارنة، تحدد هذه التقارير عدد الذين لا تمكّنهم دخولهم من شراء هذه السلة، وتدرجهم ضمن الأفراد والأسر التي تعيش دون خط الفقر، غير أن تنميط السلوك الاستهلاكي لملايين الأسر هو عملية مشوبة بالقصور، وتعتريها العديد من المشكلات المنهجية، وحتى لو جاز تنحية الملاحظات التي تخصّ أسلوب التقرير في قياس حجم ظاهرة الفقر (مثل مدى كفاية عدد الأسر المشمولة بالبحث والاستبيان، وافتراض وجود خط واحد للفقر، والتركيز على الإنفاق المترتب على الدخل دون الثروة، والاعتماد على الدخل المعلن من المبحوثين… إلخ)، وسلمت بصحة ما توصل إليه من نتائج كمية تقول بزيادة أعداد الفقراء، فلن يصح معه اعتبار جميع الأسر كما لو كانت نسخا مكررة من بعضها وهي تقوم بنشاط الاستهلاك.
وبما أن الأسر لا تتشابه فى أنماط الاستهلاك، فإنه ليس من المنطق السليم أن نهتم بتطورات حجم الأسر الفقيرة ونهمل نوعيتها، لأن ذلك سيقودنا لرسم صورة مغلوطة وغير واقعية عن ظاهرة الفقر.
على أن التباين بين حجم ظاهرة الفقر وبين نوعية الفقراء، هو السبب الذي جعل البعض يقلل من حجم هذه الظاهرة، وجعل آخرين ينكرون وجودها من الأساس، إذ عندما شاهد هؤلاء أسواق السلع في القرى الفقيرة والمناطق العشوائية بالمدن تعج بالبائعين والمشترين، تكونت لديهم قناعة بأن الفقر كظاهرة لم يعد موجوداً، أو أنه بات في أضيق حدوده، فها هم الفقراء يبيعون ويشترون باستمرار، وحركة الأسواق تثبت أنهم قادرون على إشباع حاجاتهم الأساسية، لكننا نعتقد أن قناعتهم تلك ستزول إذا ما علموا أن الفقر نفسه قد تطور ــ بشكل مطلق ونسبي ــ مثلما تطورت حاجات الإنسان، وكما تطور باقي مظاهر حياته، وأن الفقر لم يعد كما كان على صورته فى السابق، فمن نصنفه فقيراً اليوم، يمكن أن يحمل هاتفاً محمولاً، أو يحوز بيته على صنوف من الأجهزة الكهربائية الحديثة، أو قد يحقق، بطرق شتى، اكتفاءه الذاتي حتى دون الحصول على دعم الحكومة. ورغم كل ذلك، يندرج تحت مظلة الفقراء بشكلها المطلق؛ لكونه لا يمتلك ترف الحصول على تعليم جيد، ولا يستفيد من خدمات صحية متطورة، وقبل كل ذلك يستهلك نوعية رديئة من السلع. كما أن نوعية الفقر قد تطورت بشكل نسبي مقارنة بتطور نوعية الثراء والغنى، فأغنياء اليوم ليسوا كأغنياء الماضي، لا من حيث المظهر ولا من حيث الجوهر، وإذا تمكنا من تثبيت الفجوة بين الفقر والغنى، يمكننا أن نرى كيف تطورت مظاهر من نعدهم من الفقراء إذا ما قارناهم مع من نحسبهم أغنياء، ولكل ذلك، فإن نوعية الفقر تستحق اهتماماً فائقاً من التقارير التي تدرس هذه الظاهرة، حتى يمكنها أن تفرق بدقة بين التغيير في حجم الفقراء، وبين التغيير في الفقر ذاته؛ بين «الفقر القديم» و«الفقر الحديث»!
من جانب آخر، هل يندرج العاملون في اقتصاد الظل ضمن قوائم الواقعين تحت خط الفقر ضمن المنطق ذاته؟، من المؤكد أن هؤلاء يحصلون على دخل غير مسجل يبلغ أضعاف قيمة خط الفقر، ألا يمكن لانتشار هذه النوعية من الفقراء أن تقلل من جودة هذه البحوث والتقارير، وتجعل نتائجها في وادٍ، والواقع الفعلي في وادٍ آخر؟ وإذا كانت نتائج هذه البحوث والتقارير هي التي تعتمد عليها الحكومة في رسم سياسات مكافحة ظاهرة الفقر، أليس من المتوقع أن تذهب جهود الحكومة سدى، وتضمن من لا يستحقون الضمان، أو ترعى من لا يحتاجون الرعاية؟!
لقد ذكرنا أن تحديد نوعية الفقر المحتاج لرعاية ودعم، يتفوق، من حيث الأهمية والأثر، على التحديد الكمي للفقراء، ويتساوى مع التحديد الجغرافي والمكاني لهم، فمن خلال هذا التحديد النوعي للفقر، وبعد تحديد تجمعاتهم ومناطق انتشارهم، يمكن تطوير حزم حكومية لدعم الفقراء، ويمكن تحديد أنسب الطرق لتحسين دخولهم لتتماشى مع تطور احتياجاتهم، أما تقديم الدعم للمستفيدين الذين لديهم دخل مسجل، فسيصطدم بكثير من العراقيل التي تحول دون الاستهداف الصحيح لنوعية الفقراء المحتاجين لهذا الدعم، ولكل ذلك، فإن الطريقة الحكومية الحالية للدعم المباشر ينقصها أن تعرّف بدقة نوعية الفقراء الواجب دعمهم، وألا تكتفي بوضع عدد من الشروط الكمية لاستحقاق مبلغ الدعم، فنوعية الشروط المطلوبة يجب أن تراعي نوعية الفقر المستهدف، كي تتحقق الاستفادة القصوى من هذه البرامج الحكومية.
وإذا كان من الممكن أن يحدث قصور في آليات الاستهداف للبرامج الحكومية، فماذا يمكن أن نفعل إزاء هذا القصور، حتى تنخفض التكاليف الكلية لدعم الفقراء؟ أعتقد أنه ليس بوسعنا أن نصلح هذا القصور دون العمل على محور تنظيم الاقتصاد غير المنظم، فمن دون هذا التنظيم، ستظل الهوة متسعة بين الدخل المسجل والدخل الحقيقي، وستعجز الإجراءات الحكومية عن وضع تعريف دقيق للفقر، وستفشل في تحديد نوعية الفقراء المستهدف مساندتهم.
ولكي لا تصبح برامج الدعم الحكومي كمن يعطي للمحتاج سمكة ولا يعلمه كيفية صيدها، فإننا نعتقد أنه من الضروري زيادة درجة التنسيق والتكامل بين برامج التدخل الاجتماعي، وبين السياسات النقدية التي تستهدف الفقراء، فإذا كانت لدينا الآن سياسة نقدية تحاول تقديم حزم تمويلية لتشجع استثمارات الفقراء، فإن معيار النجاح الأول لها يجب أن يكون مدى قدرتها على خلق تجمعات استثمارية للفقراء؛ لتكون قادرة على تلبية احتياجاتهم بشكل مستدام، ولتكون خالقة لفرص عمل تلائم ظروفهم، والمعيار الثاني لنجاح هذه السياسة هو أن ترفع المستفيدين منها فوق خط الفقر، كي لا يحتاجون لمساندة إضافية من البرامج الحكومية.
سيرياهوم نيوز 6 – الثورة