م.حسان نديم حسن
في لحظة فارقة من التاريخ الفضائي الأمريكي يتطور خلاف شخصي وسياسي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب و رجل الأعمال إيلون ماسك إلى أزمة قد تهز أسس الأمن القومي الأمريكي. الصراع الذي بدأ كاختلاف في المصالح بات اليوم يشكل تهديدًا مباشراً للريادة الأمريكية في الفضاء ويثير تساؤلات جوهرية حول علاقة الدولة بمزوديها الاستراتيجيين من القطاع الخاص.
*بداية التحالف ونهاية الوئام
في السنوات الأولى اتخذت العلاقة بين ماسك وترامب طابعًا تحالفياً فرجل الأعمال الثري وجد في إدارة ترامب نافذة لتحقيق طموحات تكنولوجية بينما رأى ترامب في ماسك نموذجاً لنجاح الرأسمالية الأمريكية.
إلا أن هذا التوافق الهش سرعان ما انهار على وقع خلافات حول السياسات البيئية والدعم الحكومي لصناعة السيارات الكهربائية حيث شعر ماسك بأن مصالحه التجارية تتعرض للإضرار المباشر من قرارات البيت الأبيض.
سلسلة من التصريحات المتبادلة لاحقاً تخللتها اتهامات صريحة بالفساد وسوء الإدارة حولت الخلاف إلى مواجهة علنية تجاوزت الشخصين المعنيين إلى تهديد فعلي للبنية التحتية الحيوية في الدولة.
*ناسا تحت الضغط
تواجه وكالة الفضاء الأمريكية ضغوطاً غير مسبوقة إذ أصبحت تعتمد بشكل شبه كلي على مركبات “دراجون” التابعة لشركة سبيس إكس لنقل روادها إلى محطة الفضاء الدولية. هذا الاعتماد وإن كان قائماً على الكفاءة والريادة التكنولوجية إلا أنه بات يحمل في طياته مخاطر جسيمة لاسيما في ظل الأزمات الحالية.
فبعد الفشل التقني الأخير لمركبة ستارلاينر علقت إحدى بعثات رواد الفضاء في المدار ما أجبر ناسا على اللجوء إلى دعم سبيس إكس لإنقاذ الوضع.
وفي ذروة التوتر السياسي تداولت أوساط أمريكية حكومية نية ماسك التلويح بتعليق استخدام “دراجون” ما يعيد خيار التعاون مع روسيا إلى الواجهة في انتكاسة رمزية واستراتيجية لبرنامج الفضاء الأمريكي.
*ستارلينك… سلاح استراتيجي
الأزمة لا تتعلق فقط بناسا والبعثات العلمية فشبكة “ستارلينك” التي توفرها سبيس إكس أصبحت عنصراً أساسياً في منظومة الاتصالات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية، خاصة في مناطق النزاع. هذه الشبكة التي أثبتت فعاليتها الميدانية باتت حجر الزاوية في إدارة المعارك الحديثة. و أي إرباك في استمرارية خدماتها سواء بفعل قرار فردي أو نتيجة صراع قانوني قد يؤدي إلى فجوات كارثية في الأداء العسكري الأمريكي ويفتح المجال أمام خصوم الولايات المتحدة لتحقيق اختراقات أمنية غير مسبوقة.
*النشاط الروسي في المدار
يتزامن هذا الاضطراب الداخلي مع تصعيد مقلق في السلوك الفضائي الروسي. إذ قامت موسكو في الأشهر الأخيرة بتدمير أحد أقمارها الصناعية بصاروخ مضاد للأقمار الصناعية مولدة سحابة من الحطام تهدد أقمار التجسس الأمريكية إضافة لذلك فقد اقترب قمر صناعي روسي من أحد الأقمار الأمريكية بشكل اعتبره الخبراء عملاً استفزازياً ذا طابع عدائي.
هذه المؤشرات تؤكد أن الفضاء لم يعد ساحة للعلم والتعاون الدولي فقط بل أصبح ميداناً جديداً للصراع الجيوسياسي تستخدم فيه الأقمار الصناعية كأدوات ردع وهجوم.
*حين يتحول النزاع إلى خطر قومي
ما يبدو ظاهرياً كخلاف شخصي بين اثنين من أبرز الشخصيات العامة يخفي في العمق أزمة نظامية. فالولايات المتحدة بقوتها التكنولوجية والمؤسساتية باتت مهددة بفعل اعتمادها على أفراد يملكون أدوات استراتيجية دون ضوابط كافية تضمن استمرار الخدمات الحيوية بمعزل عن النزاعات الشخصية.
الكونغرس الأمريكي من جهته بدأ تحركاً لبحث تشريعات تفرض أطراً صارمة على الشركات التكنولوجية التي تقدم خدمات للجهات السيادية في محاولة للفصل بين المصالح الفردية والمصلحة الوطنية العليا.
*تفكك المركز وصعود الأطراف
في جوهر ما نراه اليوم ليس مجرد نزاع بين رئيس و رجل أعمال بل اختلال في البنية العميقة للدولة الحديثة. لقد بنيت فكرة الدولة القومية على احتكار وسائل العنف والتشريع والسيادة.
لكنها اليوم تجد نفسها في مواجهة كيانات لا تستمد قوتها من صندوق الاقتراع ولا تخضع للمحاسبة البرلمانية بل من قدرتها على التحكم بالبنى التحتية الحيوية للزمن الرقمي والفضائي.
فعندما يصبح الفرد لا المؤسسة هو الضامن للأمن السيبراني أو لعودة رائد فضاء إلى الأرض فإننا لا نشهد مجرد تحول تقني بل انهياراً بطيئاً لمركز السلطة كما عرفناه.
الصراع بين ترامب و ماسك في عمقه ليس سياسياً ولا حتى اقتصادياً بل هو تعبير عن عصر تتفكك فيه “السلطة المركزية” للدولة لصالح شبكات النفوذ غير الرسمية وعن لحظة لا تعود فيها الدولة قادرة على احتواء من يفوقها ديناميكية وتطوراً.
(موقع اخبار سوريا الوطن 2)