د. سلمان ريا
في زمنٍ تتبدّل فيه خرائط الاقتصاد العالمي؛ لم يعد النهوض يُصنع من المركز وحده، بل من الأطراف التي تكتشف ذاتها وتعيد بناء قدرتها على الحياة. من البلدة التي تستعيد ماءها، والحيّ الذي يزرع طاقته، والمدينة التي تبتكر تمويلها، يبدأ الطريق نحو تعافي الاقتصاد السوري. فاقتصاديات التنمية المحلية ليست بديلاً عن الدولة، بل قوة تصحيحية تعيد بناءها من الأسفل إلى الأعلى، حيث تكمن حيوية المجتمع وطاقته الحقيقية.
لقد أثبتت التجربة أنّ النموّ الموجّه مركزياً، مهما اتّسعت شعاراته، يظل هشّاً إن لم يستند إلى قاعدة محلية تشاركية. فالمجتمعات هي الخلايا الحيّة القادرة على ضخّ الدم في جسد الاقتصاد، متى امتلكت حرية القرار ووسائل التمويل، ومتى أُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة على أساس المشاركة لا التبعية.
إنّ التنمية المحلية ليست ورشة بنى تحتية فحسب؛ بل هي إعادة هندسة للعلاقة الاقتصادية والاجتماعية، تجعل من المواطن شريكاً في صنع مستقبله، لا متلقّياً للقرارات المركزية. ولكي يتحقق ذلك، لابدّ من أدوات تمويل جديدة تتجاوز البيروقراطية الموروثة، وتستنهض المدخرات الراكدة في الداخل والخارج، ضمن منظومة شفّافة ولامركزية.
هنا تبرز الصكوك البلدية وسندات الشتات كآليتين تمويليتين مبتكرتين يمكن أن تغيّرا المشهد الاقتصادي إذا طُبّقتا بمؤسسية ونزاهة. فالصكوك البلدية تتيح للمدن الكبرى تمويل مشاريعها الخدمية والتنموية – من الطاقة الشمسية إلى النقل العام – عبر طرح صكوك استثمارية مضمونة بأصول حقيقية، تُدار برقابة مستقلة، وتمنح المواطن عائداً ملموساً يرى أثره في حياته اليومية. أمّا سندات الشتات، فهي وسيلة ذكية لاستقطاب رؤوس أموال السوريين في الخارج، وربطها بمشروعات إنتاجية محدّدة ضمن إطار مؤسسي يضمن الشفافية ويحمي القيمة، لتتحول رؤوس الأموال المهاجرة إلى طاقة تنموية تعيد وصل المغترب بوطنه.
إنّ نجاح هذه الصيغ مشروط بثلاثة عناصر أساسية: الشفافية، واللامركزية المالية، وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع؛ فهي ليست مجرد أدوات مالية، بل بوابات لإعادة بناء العقد الاجتماعي الاقتصادي، حيث يصبح المواطن والمغترب شريكين في الإنقاذ لا متفرجين على الأزمة.
بهذا المعنى، فإنّ التنمية المحلية مشروعٌ وطنيّ بامتياز، يعيد تشكيل الدولة من داخل مجتمعاتها، ويستبدل منطق «الإنقاذ من الأعلى» بـ«التحوّل من الأسفل». فحين تستعيد البلدة الصغيرة قدرتها على الإنتاج، ويشتري المغترب أول سند في مدينته، يبدأ الوطن بالعودة إلى ذاته. تلك هي البذرة الأولى لنهضةٍ سوريةٍ حقيقيةٍ، تُبنى لا بالقرارات المركزية وحدها، بل بإيمان الناس بأنّ المستقبل يُصنع محلياً.
(أخبار سوريا الوطن-1)