علي الراعي:
تنتمي الفنانة التشكيلية ليلى طه إلى طائفة الفنانين السوريين الذين كرّسوا نتاجهم الفني للاحتفاء بذاكرة المكان، وتبنّوا شعرية العمارة القديمة في المدن السورية العتيقة، في لوحاتها يتقاطع المعماري بالطبيعي، والواقعي بالتجريدي، في توليفة لونية كثيفة تستدعي الذاكرة قبل أن تخاطب العين. أعمالها لا تُقرأ كمشاهد ساكنة، بل كفضاءات نابضة بالحياة، تتراكم فيها الأزمنة وتتداخل الحكايات، فتغدو اللوحة نصاً مفتوحاً على تأويلات متعددة.
حكايا النوافذ
أبرز ما يميز أعمال طه هو الاحتفاء بالمكان، حيث يتجلى الحضور الطاغي للعمارة: نوافذ، شرفات، جدران قديمة، وأصص زهور تتدلى في مقدمة المشهد، المكان عندها ليس توصيفاً عمرانياً محايداً، بل كيان حيّ يحمل آثار البشر ودفء عيشهم اليومي، رغم غيابهم الجسدي عن اللوحة، النوافذ تتكرر كعنصر بنيوي ودلالي، فهي حدّ فاصل بين الداخل والخارج، بين الخاص والعام، وبين المرئي والمتخيَّل. حضور الأشخاص مضمر في كل تفصيلة: الستائر، النباتات، الضوء المتسلل عبر الزجاج.

شعرية مزج المدارس
تعتمد طه أسلوباً يجمع بين الانطباعية والتجريد التعبيري، حيث تتخلى عن الدقة الفوتوغرافية لصالح الإحساس العام بالمشهد. ضربات الفرشاة واضحة وكثيفة أحياناً ومتكسرة أحياناً أخرى، ما يمنح السطح التصويري طاقة حركية عالية. هذا التوتر بين البناء المعماري الصارم والسيولة اللونية الحرة يخلق مفارقة بصرية جذابة. اللون عندها غواية فنية، حيث تهيمن الألوان الدافئة: الأحمر، البرتقالي، والبني، إلى جانب الأبيض والرمادي والأزرق، في توازن مدروس لا يخلو من الجرأة.
زهور بيضاء وعمارة
في إحدى لوحاتها، تفيض الأصص بالزهور البيضاء، احتفاءً بالطبيعة كفعل مقاومة صامت، الزهور ليست مجرد عنصر تزييني، بل قوة ناعمة تكسر قسوة الحجر وتعيد التوازن للمكان، الأبيض هنا ليس لوناً محايداً، بل ضوء كثيف يوحي بالنقاء والأمل، أما الألوان الداكنة في الخلفيات المعمارية فتستحضر ثقل الزمن ومروره.
الشرفات والبعد الاجتماعي
في لوحة الشرفات والملابس المعلّقة، يتجلى البعد الاجتماعي بوضوح، الغسيل المتدلي علامة على الحياة المستمرة والحميمية الشعبية للمكان، الألوان أكثر صراحة وتبايناً، تعكس حيوية المشهد وصدقه، الفوضى الجميلة التي تتركها الفنانة في اللوحة تمنحها صدقاً وقرباً من المتلقي.
ذاكرة جماعية
تميل طه إلى بناء اللوحة عبر تكديس الطبقات اللونية، ما يضفي ملمساً غنياً وعمقاً بصرياً يوحي بزمن طويل من العمل، أعمالها محاولة لتثبيت لحظات عابرة أو إنقاذ مشاهد مهددة بالزوال، وتحمل سمات المدن السورية القديمة: الأزقة الضيقة، البيوت المتلاصقة، الشرفات المليئة بالنباتات، والواجهات التي تشهد على تاريخ طويل من العيش المشترك. بذلك تمنح أعمالها طابعاً جمعياً يتجاوز الذات الفردية للفنانة، ليمس ذاكرة جماعية يشترك فيها كثير من المتلقين.
في مجمل أعمالها، تقدّم ليلى طه مشروعاً تشكيلياً يقوم على المصالحة بين الشكل والإحساس، بين الذاكرة واللحظة الراهنة. لوحاتها لا تفرض معنى واحداً، بل تفتح باب التأمل، وتدعو المشاهد إلى الدخول في حوار هادئ مع المكان واللون، في محاولة لإعادة اكتشاف الواقع من زاوية أكثر شاعرية وصدقاً.
syriahomenews أخبار سورية الوطن
