كمال خلف
كان علي هذا اليوم وهو يوم استراحة من عملي ان ابتكر فكرة خلاص بدلا من الجلوس في قيظ الصيف في البيت ، وقد تحولت جدرانه الى افران تنفث اللهب، محدقا في السقف بلا كهرباء والعرق يتصبب مني وقد نفذت الطاقة من جهازي الخلوي ومن اللابتوب الصغير الذي اتابع من خلاله الاخبار وأصبحت معزولا عن العالم بعد ثلاثة أيام متواصلة من دون كهرباء ، اتخيل كأسا من الماء البارد يدخل جوفي او هواء عليلا يأتي من أي مكان .
هرعت مغادرا المنزل متفقدا الكمية الشحيحة من البنزين في سيارتي ، وقررت التوجه الى اقرب محطة للوقود واصطف بالطابور الطويل من السيارات ضاربا ثلاثة عصافير بحجر واحد . الأول هو امل الحصول على الوقود وملء خزان السيارة ، والثاني التمتع قليلا بهواء مكيف السيارة البارد ، والثالث شحن القليل من الطاقة في هاتفي .
وحالما وجدت دوري في اخر الصف الطويل تمنيت من الله ان الاقتتال على هذه المحطة يقتصر على الضرب فقط ، وليس اطلاق النار فهو اهون الشرين . اذ لا تخلو محطة وقود في لبنان من حروب وغزوات واقتتال تتنوع اشكاله ، وان كان حظك جيدا تصادف مشكلة من نوع التضارب بالأيدي فقط . اما ان كنت من أصحاب الحظ العاثر فستجد نفسك عالقا بين الرصاص . وكلما اقترب دوري كنت اشعر بسعادة ونشوة فقد اقتربت من تحقيق انجاز هام في هذا اليوم .
كانت محطات الراديو المحلية تضج بالشكاوى، والقاء اللوم على الطبقة السياسية الفاسدة والتهريب واحتكار التجار وغلاء الأسعار وتعطل المستشفيات عن العمل وفقدان الخبز والدواء ، والوقود ، وانخفاض قيمة العملة واذاعات تتناقل تفاصيل مملة عن مشاورات تشكيل الحكومة ، والزيارات المكوكية لرئيس الحكومة المكلف “نجيب ميقاتي” للقصر الجمهوري دون اية نتائج سوى كلام عام عن إيجابية وامتار قليلة للوصول للتوافق ومواصلة الجهود ، فالطبقة السياسية في واد ، والشعب المنكوب في واد اخر . فمن يكترث اليوم في لبنان لاخبار توزيع الحقائب وحصص الطوائف ، وأسماء الوزراء المرشحين . كل ما يهم اللبناني اليوم هو تامين مستلزمات الحياة . اما الحكومة فقد تجذب الانتباه من زاوية إمكانية الإنقاذ لا غير .
المذيعون في الراديو يكررون ذات الأسئلة بشكل متواصل وهي ذاتها التي سمعتها منذ أيام قبل انقطاع الكهرباء بشكل تام دون أي جديد . تمنيت لو اصطحبت معي كتاب للتسلية ، لكان هون علي التحديق المستمر في قفا السيارة الضخمة التي تقف امامي ويتاخر سائقها باللحاق بالدور الا ان اعجله بزمور يجلعه يصحو ويتقدم .
حالما بدا التعب والارهاق والملل يتسلل الى جسدي وراسي ، وبدأت اشعر بيباس بقدمي ، صعدت الى ذهني إشارات الندم ، وبدات افكر لو لجأت الى البحث في السوق السوداء عن غالونات بأسعار اعلى لوفرت على نفسي كل هذا الوقت والعناء والانتظار ، عدت وتذكرت الحر في المنزل وانقطاع سبل الحياة .
السوق السوداء لشراء الوقود في لبنان تحتاج الى معارف ووسيط تتصل به، وهو بدوره يعطيك رقم البائع لتتفق معه مباشرة ، او يعطيك الوسيط السعر وانت تقرر، عادة السعر في السوق السوداء اضعاف السعر الرسمي ، فاذا كنت مضطرا ستوافق، وعندها سيصل اليك الوقود وانت جالس في منزلك بالغالونات، وعليك بعدها ان تستخدم مهارتك في نقل البنزين الى خزان السيارة باستخدام القمع “بضم القاف” او بدلا عنه النصف العلوي من عبوة المياة المعدنية البلاستيك بعد قصها، او نبريش طويل تضع طرف في غالون البنزين والأخر في فمك وتشفط منه البنزين ثم تدخله بسرعة فتحة خزان السيارة ، قد تحتاج الى اكثر من محاولة وقد يتسلل القليل من البنزين الى حلقك اذا كنت مستجد غير محترف. الناس في الازمات مضطرين لاكتساب مهارات إضافية.
ثمة أسئلة اليوم في لبنان من الصعب الإجابة عليها. من قبيل هل الازمة فعلية او مفتعلة؟ من يفتعلها ولماذا؟ ما هو الهدف؟ من يسعى الى الفوضى؟ وماذا بعد الفوضى؟ هل هناك شح حقيقي للمواد الأساسية؟ ام ان الاحتكار والتهريب وقلة الضمير هي أسباب ندرة هذه المواد؟ هل الطبقة السياسية في لبنان منفصلة عن الواقع وجادة في صراعاتها حول الأسماء والحصص وحقوق الطوائف ولديها ترف النقاشات والاجتماعات لشهور طويلة لمجرد تشكيل حكومة ،لا يجب ان يستغرق إنجازها أسبوعا واحدا؟
وما ان اقترب دوري وبان لي محيا طرنبة الوقود ، وبدات اشاهد بالعين المجردة عامل المحطة ، حتى رن جرس هاتفي ، وكان احد الزملاء الأعزاء يطلبني للحضور للعمل بشكل طارىء وعاجل ، فقفرت عائدا متخليا عن دوري بعد ان صار محل حسد عشرات السيارات خلفي.
كاتب واعلامي فلسطيني
(سيرياهوم نيوز-رأي اليوم٢٠-٨-٢٠٢١)