رامي الشاعر
نهاية العام الماضي، وأثناء محادثته الهاتفية مع نظيره الأمريكي، جو بايدن، أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على المطالب الروسية بشأن الضمانات الأمنية الواضحة والمحددة من جانب “الناتو” والولايات المتحدة الأمريكية.
ورداً على حديث بايدن عن “العقوبات الموسّعة ضد روسيا”، حال “عدوانها على أوكرانيا”، أكّد بوتين بشكل واضح أن ذلك سيكون “خطأً كبيراً، من شأنه أن يدفع نحو قطع العلاقات بشكل كامل”. على أي حال تواعد الطرفان على استكمال المحادثات بعد عطلة رأس السنة.
لكن ما يبدو على الأرض هو واقع مغاير لما يُعلن في وكالات الأنباء، حيث يتجاهل “الناتو” بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية دعوات موسكو لتقليل كثافة المناورات العسكرية في أوكرانيا. يتضح ذلك فيما نراه من خطط أوكرانيا لإجراء مزيد من المناورات مع دول “الناتو” عام 2022. وإذا كان العام الماضي قد شهد 7 مناورات أوكرانية مشتركة مع “الناتو”، فسيشهد العام الحالي 10 مناورات، وسيتضاعف عدد الأفراد المشاركين تقريباً عن نظيره لعام 2021، ليصل إلى 64 ألفاً، وكذلك سيتضاعف عدد الطائرات والمروحيات المشاركة بثلاثة أضعاف، والسفن الحربية بأربعة أضعافتقريباً.
يبدو الأمر وكأن الولايات المتحدة الأمريكية تضغط عمداً على كييف لرفع تصعيدها ومواصلة النهج الاستفزازي لروسيا. حقاً أن “الناتو” لم يسيطر بعد على أوكرانيا بالكامل، لكنه يعزّز التعاون العسكري بوتيرة مزعجة ومثيرة للقلق، وهو ما تؤكده قائمة التدريبات والمناورات على الأراضي الأوكرانية، وكذلك دفعات الأسلحة والمعونة العسكرية المقدمة لأوكرانيا.
وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد صرح نهاية العام الماضي، خلال مقابلة مع وكالة “نوفوستي” الروسية، بأن الدول الأعضاء في حلف “الناتو” يعملون على نحو منهجي لتحويل أوكرانيا إلى “موطئ قدم عسكري ضد روسيا”، بما في ذلك استخدام الأراضي الأوكرانية لإجراء المناورات. وهي مناورات مرتبطة بتوجه مناهض للدولة الروسية، وعلينا أن نتفق على أن هذه الحقائق لا توفر مناخاً متفائلاً، بينما توفّر الولايات المتحدة دعماً لتطلعات كييف العسكرية”.
إن واشنطن إنما تسعى، من خلال تصعيد التوتر حول الحدود الأوكرانية، لتعزيز موقفها في المفاوضات المستقبلية بشأن الضمانات الأمنية، إلا أن الأهم والأخطر هو إمكانية تحول تلك المناورات بسلاسة وبسرعة إلى هجوم عسكري حقيقي.
ما تطلبه روسيا من “الناتو” والولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية تلتزم بها الأطراف جميعاً بمبادئ التعاون والمساواة في الأمن، وتتعهد بتعزيز الأمن للجميع، وليس لكتلة أو منظمة دولية أو تحالف عسكري أو دولة على حساب أخرى. الأمن لنا ولكم على حد سواء.
ما تطلبه روسيا هو حل الخلافات بالوسائل السلمية والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها بما لا يتماشى مع أهداف هيئة الأمم المتحدة.
ما تطلبه روسيا هو ضبط النفس في التخطيط العسكري، وفي إجراء المناورات العسكرية بغية التقليل من إمكانية وقوع حوادث خطيرة، والوفاء بمسؤوليات الدول بموجب القانون الدول بشأن منع وقوع الحوادث في عرض البحر خارج المياه الإقليمية وفي المجال الجوي والاتفاقات الخاصة بمنع ممارسة أنشطة عسكرية خطيرة.
ما تطلبه روسيا هو التنسيق بشأن التدريبات والمناورات العسكرية وبشأن البنود الرئيسية للعقائد العسكرية، وتفعيل كافة الآليات والأدوات الخاصة بإجراءات بناء الثقة بهدف ضمان شفافية الأنشطة العسكرية.
ما تطلبه روسيا هو ألا تضع الأطراف بعضها البعض في خانة “الأعداء”، وأن تعود لطاولة الحوار، وأن تعمل على تطوير الآليات الخاصة بمنع ممارسة أنشطة عسكرية خطيرة في عرض البحر وفي المجال الجوي، لا سيما في حوض البحر الأسود وبحر البلطيق.
ما تطلبه روسيا هو ألا تنشر أي من الدول، التي انضمت إلى الحلف بحلول 27 مايو 1997، أي أسلحة على أراضي دول أوروبية أخرى، ما عدا القوات والأسلحة التي كانت منتشرة هناك حتى الموعد المذكور، أو يتم النشر بموافقة جميع الأطراف في حالات مرتبطة بضرورة إزالة خطر أمني يهدد أياً من الأطراف.
ما تطلبه روسيا ألا تنشر الأطراف (جميع الأطراف، بما في ذلك روسيا، وليس “الناتو” وحده) صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في مناطق من شأنها أن تهدد بضرب أهداف على أراضي أي من الأطراف الأخرى.
ما تطلبه روسيا أن تمتنع دول “الناتو” عن ممارسة أي أنشطة عسكرية على أراضي أوكرانيا وغيرها من دول أوروبا الشرقية، وجنوب القوقاز، وآسيا الوسطى.
تلك هي المطالب الروسية، التي ثارت وفارت بشأنها الدول الأوروبية، وخرج المسؤولون من كل حدب وصوب، يتهمون روسيا بـ “العدوانية” وبإطلاقها “إنذارات” و”تحذيرات”.. لكن السؤال الأهم هنا، لماذا انتفض الدب الروسي وقرر اليوم أن يطالب بضماناته الأمنية المشروعة؟
لقد تأسس حلف شمال الأطلسي “الناتو” استناداً إلى معاهدة شمال الأطلسي التي تم التوقيع عليها في 4 أبريل عام 1949، وكان يضم حينها 12 دولة: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا وبلجيكا وأيسلندا ولوكسمبورغ وهولندا والدنمارك والنرويج والبرتغال، ثم انضمت بعد ذلك اليونان وتركيا عام 1952، وألمانيا عام 1955، وإسبانيا عام 1982. تجلس ثلاث دول من حلف “الناتو” أعضاءً دائمين في مجلس الأمن الدولي التابع لهيئة الأمم المتحدة وهي: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا. ويشكل “الناتو” نظاماً للدفاع الجماعي تتفق فيه الدول الأعضاء على الدفاع المتبادل رداً على أي هجوم من قبل أطراف خارجية، وظل الحلف يضم 16 عضواً حتى تفكك الاتحاد السوفيتي، لينشئ الحلف، عام 1994، ما سمي بمنظمة “الشراكة من أجل السلام” وهي منظمة تابعة له، تهدف إلى خلق الثقة بين الناتو ودول أخرى في أوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً، وضمت حينها 22 دولة (من بينها روسيا وأوكرانيا وبيلاروس!)، حتى حصلت بعض تلك الدول(14 دولة على وجه التحديد) على العضوية الكاملة في “الناتو” على خمس دفعات، أولها في 12 مارس 1999، وضمت: التشيك والمجر وبولندا، ثم في 29 مارس 2004، وضمت: بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، ثم في 1 أبريل 2009، وضمت: ألبانيا وكرواتيا، ثم في 5 يونيو 2017 وضمت جمهورية الجبل الأسود، ثم في 27 مارس 2020 وضمت مقدونيا الشمالية.
كذلك يتبنى “الناتو” برنامج “الحوار المتوسطي”، وهو منتدى للتعاون بين “الناتو” وسبع دول في البحر الأبيض المتوسط، ويهدف البرنامج المعلن إلى “إقامة علاقات جيدة وتفاهم وثقة متبادلين أفضل في جميع أنحاء المنطقة، وتعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين، وشرح سياسات وأهداف الحلف”. يضم البرنامج دول: مصر وإسرائيل وموريتانيا والمغرب وتونس والأردن والجزائر.
ذلك هو حلف “الناتو” الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها بشأن “السلوك العدواني” لروسيا، و”حشد القوات الروسية” على حدود أوكرانيا، و”التهديدات” الروسية لجمهوريات البلطيق وأوروبا الشرقية.. لقد تمدد “الناتو” شرقاً وضمّ زهاء 14 دولة خلال الفترة ما بين (1999-2020)، ليقف بعد ذلك السيد ينس ستولتنبرغ، أمين عام الحلف، ليتّهم روسيا مؤخراً بـ “نية استخدام القوة العسكرية ضد جيرانها”، مستنداً إلى ما أسماه “هيكلاً عسكرياً روسياً مهماً، يتم تجديده تدريجياً بوحدات قتالية ووحدات محمولة جواً وقدرات متنوعة للغاية”. بينما “لا يتكهن” سيادته بنوايا روسيا” إلا أنه “يعلم على وجه اليقين أن لديها القدرة على استخدام القوة العسكرية ضد جيرانها”.
أما “حلف وارسو”، الذي كان يعدّ العدو الأساسي لـ “الناتو”، فقد تأسس عام 1955، وعرف رسمياً بـ “معاهدة الصداقة والتعاون والدعم المتبادل”، وكان يضم 8 أعضاء هم: الاتحاد السوفيتي وجمهورية ألمانيا الديمقراطية “الشرقية”، تشيكوسلوفاكيا، بلغاريا، المجر، بولندا، رومانيا، ألبانيا. وتفكك الحلف عام 1991، وأصبحت جميع دوله، باستثناء الاتحاد السوفيتي، أعضاءً دائمين في “الناتو”.
اليوم، وقد مرّ على تفكك حلف وارسو 30 عاماً، وبعد أن التحقت جميع دوله بحلف “الناتو”، ولم يعد هناك تهديد يذكر للناتو، وبعد أن تمدد الناتو شرقاً، ونجح الغرب في ترتيب انقلاب عام 2014 في أوكرانيا التي تبعد حدودها عن موسكو 755 كيلومتراً فقط، ووضعوا حكومة عميلة تتلقى تعليماتها وسياساتها واستراتيجياتها من السفارة الأمريكية بكييف، وبعد أن حاول الغرب افتعال الأمر نفسه في بيلاروس، وبعد ما حدث ما بين أرمينيا وأذربيجان، وبعد ما اتضح في الداخل الروسي من وجود تمويلات أجنبية لعملاء ومجموعات ومؤسسات تعمل لحساب الغرب، وتنشر بين المواطنين روح التذمر والغضب وتحاول اختلاق احتجاجات وثورات ملونة من لا شيء. أليس من حق روسيا، بعد كل ذلك، أن تدافع عن نفسها، وعن وجودها، وعن كينونتها كدولة شاسعة المساحة مترامية الأطراف؟ وهل كانت الولايات المتحدة الأمريكية لترضى أن ينشر الجيش الروسي قواته في المكسيك على سبيل المثال لا الحصر؟ ألم يقرأ السادة المسؤولون في الإدارة الأمريكية الحالية أو السابقة تاريخ أزمة الصواريخ الكوبية؟ أم أن الشركاء الأمريكيين تعوّدوا على “روسيا أخرى” غير التي يرونها الآن؟
هذا هو بيت القصيد. فروسيا التي كانت يوماً تعجب الغرب، وتروق لـ “الناتو”، كانت روسيا الضعيفة، المنهكة، وريثة الاتحاد السوفيتي المتفكك لتوه، التي تلهث وراء الغرب في محاولة لاسترضائه، روسيا التي كانت تعجبهم هي روسيا يلتسين ووزير خارجيته أندريه كوزيريف، الذي يعيش الآن في الولايات المتحدة الأمريكية. روسيا التي كانت تعجبهم هي روسيا التي ترضى بالفتات، وتقترض من صندوق النقد الدولي، وتقف على حافة الانهيار والتفكك، مثل ما يحدث اليوم في أوكرانيا، التي تقف على حافة الانهيار والدولة الفاشلة، بعدما أغرقها الغرب بالديون، وأصبحت تبيع الأصول والأراضي للمستثمرين الغربيين.
أما روسيا القوية، التي تمكنت من الوقوف على قدميها، وسددت ديونها، ولم تعد تقترض من صندوق النقد الدولي، وأصبحت سيدة قرارها، وتقف أمام الغرب، حينما يقترب من حدود أمنها القومي، وتقف إلى جانب أهلها الروس في القرم، وفي الدونباس، تلك روسيا “العدوانية”، وروسيا التي “تسعى لإعادة بناء الاتحاد السوفيتي”، والحق أن روسيا لم ولا تسعى لذلك، وإنما هي بالفعل قبل القول دولة عظمى ذات سيادة وإرادة سياسية واضحة، لا تعتدي، لكنها لا تسمح بالعدوان على أراضيها أو على مواطنيها. لا تغتصب، وإنما تعاقب المغتصب شر عقاب، وتمحوه من الوجود. لهذا السبب يتكالبون على روسيا، ويرفضون أبسط مطالبها بالضمانات الأمنية.
لقد فعلت روسيا كل ما بوسعها لإنهاء أجواء الحرب الباردة والانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب يضمن الأمن والسلام للجميع، ويعزز من دور هيئة الأمم المتحدة، التي أنشأتها الدول على أنقاض أكبر حرب في تاريخ البشرية، إيماناً من روسيا بدور مجلس الأمن وأعضائه الدائمين في حفظ السلام والأمن الدوليين، وتعاونت روسيا مع جميع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وحاولت مراراً وتكراراً على مدار عشرين سنة مضت على أقل تقدير أن تنقل للشركاء الغربيين أن الدول سواسية أمام القانون الدولي، وأن الجميع سواسية أمام هيئة الأمم المتحدة، وأنه لا وصاية لأي من الدول على أخرى، وانتهجت روسيا دائماً مبدأ الحوار والتفاهم، واحترام سيادة الدول وإرادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. إلا أن الإجابات دائماً من ناحية الغرب كانت تدخلات وتوصيات وانتقادات لشؤون داخلية روسية، ومحاولات لإملاء الإرادة الغربية على روسيا ومحيطها، وكانت الدول الغربية، لسبب ما أعجز عن فهمه، تضع نفسها فوق القانون، وتملي على بقية الأطراف إرادتها السياسية، ووجهة نظرها. فكانت النتيجة أفغانستان وليبيا وغيرها من دول الشرق الأوسط التي تقف شاهداً على رداءة السياسة الخارجية، وسوء التقدير، والفهم، والهيمنة غير المبررة.
على الرغم من تفاؤلي المعتاد، إلا أنني لم أعد أحمل نفس التفاؤل فيما يخص حوار القيادة الروسية مع “الناتو” والولايات المتحدة الأمريكية، وأظن أن لغة اليوم ستكون عسكرية أكثر منها دبلوماسية، فلم يعد هناك مجال لإعطاء مزيد من الوقت، الذي لم يعد في صالح أي من الأطراف. حيث يجب أن تفهم دول حلف “الناتو” أن الهدف الحقيقي من هذه اللقاءات عملياً هو الاتفاق على الفترة الزمنية التي يحتاجها الحلف لكي يفكك آلياته العسكرية ويعيد انتشار قواته بحيث لا يهدد أمن روسيا، بعد أن ظل يتمدد شرقاً حتى بوابة روسيا الغربية والجنوبية، بل والشمالية كذلك، بعد تصريح رئيسة الوزراء الفنلندية، سانا مارين، أثناء تهنئتها للمواطنين بالعام الجديد، حينما أشارت إلى أهمية أن تحتفظ البلاد بحقها في “التقدم بطلب عضوية حلف الناتو، على خلفية تعزيز التعاون العسكري بين هلسنكي والاتحاد الأوروبي”.
فهل تعقل هذه التصرفات من أشخاص مسؤولين على هذا المستوى الرفيع في دولة حدودية مثل فنلندا؟ إنه الغرب.. يفعل ما يشاء، دون حساب وكأنه فوق القانون، ويحرك قفازاته بطول القارة الأوروبية وعرضها، لاستفزاز روسيا.
لم أعد أعتقد أن هناك حلاً للأزمة سوى حل حلف “الناتو” مرة وللأبد. فلم يعد أحد يحتاجه. ما نحتاجه اليوم، في ظل النظام العالمي الراهن، هو ضمانات أمنية لأمن القارة الأوروبية، وهو أمر سهل إلا أنه ممتنع.
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم