آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » الأديب الشاعر عبد اللطيف محرز القروي الذي سكنت الطبيعة قلبه

الأديب الشاعر عبد اللطيف محرز القروي الذي سكنت الطبيعة قلبه

بقلم : الدكتور علي عقلة

عرسان هذا القروي الذي سكنت الطبيعةُ قلبَه وسكنها قلبُه، يخفق بجناحيه في فضاءات مفتوحة، ويشده عزمه وطموحه فيذهب بعيداً في تحليقه، ولكنه يعود بعد كل صولة إلى فضاء الريف والقرية التي أحبها وشهدت تفتح طفولته وفجر صباه، وتأصلت فيها علاقاته وعاداته وقيمه، يعود وفيه شوق العاشق وفروسية الشاعر وشيء من افتتان الفنان بذاته، يتيه على الكون الجميل بما صنع من جمال، ويدل على الطبيعة بمحاسن طبيعة الريف التي ألهمته الكثير وانغرست في نفسه عميقاً: ” يا ربيع الكون خذ من ريشتي بعض الجمال” أنا ريفٌ، نسمة خضراء، تسمو للأعالي. عتّقتها، في دماء الشعر، صهباءُ الدوالي. يا ربيع الكون، خُذْ من ريشتي بعض الجمال. لا تخفْ من قلة الزاد، وفكّرْ في مَقالي. أنا للريف ابتدائي. ووجودي،( ) في ديوانه الأخير يقدم الشاعر عبد اللطيف محرز مسار حياته وتضاريس مشاعره وشذرات من مواقفه ورؤاه في مدوَّنة شعرية هي أقرب إلى سجل الرؤى و النظرات والمبادئ منها إلى التاريخ والسرد. ويصف تلك المدونة بقوله: ” إنّه، ديوانُ شاعرْ، بعضُهُ يعتمد الوزنَ، وتعلو، جانحيه قافيَهْ بعضه، غنّى كما يهوى، ولكنْ،( ) وفي هذه المدونة وقفت على عصامية مما زخرت به سورية السياسية في القرن العشرين، حيث شق الكثيرون من أبنائها طرقهم الوعرة إلى الحياة والنجاح والتحصيل العلمي بالكثير من الجهد والمشقة والصبر والاعتماد على النفس، في ظروف بالغة الصعوبة يأتي على رأسها الفقر والاستعمار وتحكم الإقطاع بالكثير من مفاتيح العيش والعمل؛ ولكن عصاميّنا هذا يجعل من طريقه تلك طريقاً مبدئية تشكل اختيار نمط سلوك وحياة، ويرى نفسه في هذا المنظار ومنه كلما مر خطب وألمَّت به وبوطنه محنة أو مر بامتحان، ويقدم نفسه وطريقه في مقطعين من شعره في المدوَّنة، يقول في الأول: ” ذا قلمي، والمعولُ عليهما، أعوّلُ. من قبلةٍ بينهما( ) ويعزز في الثاني هذه الرؤية لتصبح اختياراً وسبيلاً وعدة في الحياة ومستنبَت أمل: “عُدّتي في الحياة، إن عَبَسَ الدهرُ، ضميرٌ، وساعدٌ مفتولُ. عدتي في الحياة: فكرٌ عميقٌ، وسراجٌ معطرٌ، وفتيلُ. عدّتي في الحياة: خَصْبُ خيالٍ، يتربّى في حضنه المستحيلُ. وسأبقى في الساح، وهجَ جراحٍ، ليضيءَ الحياةَ،( ) إنه التفاؤل البناء الذي يزرعه في نفس الريفي: جردٌ وسهل، حرٌ وقر، فقرٌ وصبر، ومحراث يشق الأرض ليبذر بذوراً ينتظر الفلاح إنتاجها عاماً أو بعض عام وقد يذهب كل إنتاجها بددا، ولكنه مع ذلك يعاود العمل والأمل ويشق الأرض ويبذر البذور من جديد. وقد شدني الشاعر إلى الماضي وأعاد الكثير من صور معاناة أبناء ريفنا إلى صفحة ذاكرتي وأنا أقرأ مدونته وأتوقف عند الكثير من مقطوعاته الشعرية الجميلة التي تقدم مشاعره ورؤاه وتأملاته ونظراته السريعة للعابر والغامر والغابر من المشاهد والصور، وتقدم أيضاً مواقفه من أمور وقضايا اجتماعية ووطنية وقومية كثيرة ما زالت تفري الكبد وتورث الكمد وتثير في نفوس الحريصين ما تثير من عواصف وأعاصير داخلية: “ما لقومي!! على الدروب حيارى!!. ضيّعوا.. في ضحى الشموس، النّهارا. ما لهم!! كلّما أضاء صباحٌ، ملؤوا، أعين الصباح،غبارا وبدا لي أن الروح الوطنية والقومية في شعره يطغى على الكثير من مشاعره واهتماماته الأخرى، فهو ينبجس كينابيع الطبيعة من طبيعة وتكوين يعبران عن وجودهما عفوياً، ويجهد نفسه ويجتهد ليقيم في النفوس صرح مشاعر طيبة ويخلق بيئة نفسية منيرة، ويقدح زند إرادة خيرة: “أَشْعلِ الشعر شعوراً. واملأ الأرض حبورا. وانثرَنْ دقّاتِ قلبٍ. في ثرى الحقّ بذورا واطلب النعمةَ من ربٍّ، ولا تمضغْ قشورا واجعلَنْ من أحرف الروح، إلى الغيب، جسورا كلُّ نورٍ، لا يضيئ القلب حباً،( ) ولا يمنعه أي حال من أحوال التردي القومي من أن يمتشق مع القلم بندقية ويمشي في دروب القتال الساخن دفاعاً عن حق وهوية وانتماء، وتعلقاً بعدل وثوابت ومبادئ يرى أنها مما ينذر الإنسان نفسه له في الحياة ويشكل شرف الإنسان والإبداع: “ضمَّ للصدر بشوقٍ قامةً، من بندقيَّهْ وتهجّاها حروفاً. وتملاّها قضيَّهْ لا يصونُ الحقَّ في عالمنا الأرضيّ، إلاّ. كلماتٌ من رصاصْ. لا حياةٌ، أَبداً.( ) ولا يكون ذلك حاله فقط حين تتعرض الأمة إلى تهديد وعدوان بل حين يقع ظلم على الناس ويستدعي وضعُ الضعيف والمظلوم موقفاً وقوة تسندانه وتنصفانه، فهو سيف مشهر ضد الطغيان والعدوان والظلم، وكل ذلك يقع منه موقع المهماز في الخاصرة، وهو صوت للمستضعفين في أي مكان وزمان، “فسياطُ الظلم، تُحيي الصبحَ، في قلب العبادْ” ( ) وهو في هذا يرى للظلم محاسن كان قد تعرف عليها من خلال أستاذه حنا الطيار الذي وضع بين يدي تلميذه كتاباً حمل عنوان: [حسنات الاضطّهادْ]. وها هو يعيد اكتشاف تلك الحسنات ويقدمها لمن يهمه الأمر: “إنّ للظلم محاسنْ. طالما، يشحذ في المظلوم، سيفاً، لا يهادنْ. قبل أن يكسر للظالم نابَهْ( ) ويرسم لنا الشاعر الذي يراه أنموذجاً في صورة القابض على الجمر، مصوراً ثباته على المبدأ ورفضه للفساد والإفساد، وتحمله ما يطاق وما لا يطاق في سبيل شرف الكلمة ونصرة العدل والحق: ” يُشْرَقُ الشاعرُ المكافحُ، بالجمر. ولا ينحني، وليس يُحابي. هَمُّهُ: أن يطالَ مائدةَ الشمس. بعيداً،( ) ولكن هذا النفس الذي قد يبعث في الخطاب حماسة ومباشرة لا يأتي على شعرية المقاطع، ولا يحجب ما لدى الشاعر من رهافة حس وعمق تجربة عاطفية ونظرات جمالية يظهر منها في مدونته ما يشبه قمة جبل الجليد، في شعر يلمِّح إلى مفاصل من عشقه وإبداعه في عمره المديد. وفي تلك الملامح يلخص ما استغرق قلبَه ورافقه مشوار حياته ورسم في مقلتيه صور العناقيد اليانعة التي تتلفَّع بورق الدوالي خوفاً من الانكشاف. إنه لم يغادر تربة تجذَّر فيها وكان بعض نبتها وثمرها وجمالها، تربة متكاملة تماهى إبداعه معها فأصبح كما قال: “هو شمس ومرايا في أراجيح الضياء هو ماء يرتدي، ( ) ولا عجب في ذلك من شاعر: “قلبُهُ حبّةُ قمحٍ، في أصيصٍ، من حَبَقْ. يرتدي، إشراقةَ الصبح،( ) يحب شاعرنا الريف وقريته الجميلة من بين قراه، وتراه يرفرف في سماء صافيتا بين الحصن والغصن ويترنح نشوة من تألق البحر في الغروب الشفيف فيؤوب إلى عشه بين الخضرة والماء من دون أن يتعب له جناح. وحين يشده العمل إلى ضفاف الفرات يبقى تعلقه بالأرض والإنسان وتداً يشده إلى بيئة ارتبط بها وبأهلها من شفة البحر الأجاج إلى ذراع النهر الفرات. وهناك يتماهى مع وظيفة المعلم ويكاد لا يفطن للشاعر بين جنبيه. عبد الطيف محرز تنقل بين مدن وقرى سورية فكان يجد لكل مكان طعمه الخاص ويبقى في نفسه منه شيء، ولكن كما قال شوقي: قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا فهل غلبه على أمره زمان ومكان محددان؟! ربما إذ يبدو أن سنواته الثلاث في حلب زاحمت صافيتا والقرية الجميلة والريف المستحب، وبقيت في الذاكرة ذات سحر وتأثير؟ وهذا معروض بوضوح في قوله: ” “وستبقى أيامه في ربا الشهباء في حقل عمره أغناها”. ولكنه، كما قال أيضاً: “ألِفَ المدينة، دون أن ينسى، ملاعبه الأصيلَهْ وسرى بضوء الكهرباء، وفي، بصيرة عينهِ،( ) لقد قاتل شاعرنا من أجل وطنه لا في القطر العربي السوري فقط وإنما في المكان الذي فرضته واقتضته المعركة القومية، ووضعته الوظيفة في بلد أجنبي فكان قلبه في الوطن وجسده في الغربة تنوشه جوارحها وتستنزف منه ما تستنزف. إنه من ذلك الجيل الذي يتعلق بأرضه ووطنه ولا يطيق لهما فراقاً. عرفته في اتحاد الكتاب زميلاً ورئيساً لفرع طرطوس وقد كان نعم الرجل في صدقه وأدائه وإخلاصه للعمل، كانت رغبته واضحة في أن يقدم المزيد من الخدمة للموقع الذي هو فيه وللناس الذين أحبهم. وجدته في يوم من الأيام مشدوداً مثل وتر حزين تحكي عيناه ما لا يتحرك به لسانه، كأنما في يديه قيد وفي صدره حرج، فيه توق إلى شيء توفره القرية!! ولكن خلف ذلك التوق قراءة لصفحة بدا لي فيها نقشان بارزان على أرضية يجلوها قوله: ـ ” حين لا تستقيم حرية الإنسان درباً( ) وفي النقشين: ـ ضيق ببعض ما في الحياة والأحياء من جفوة وشقوة ولدد في الخصام. ـ وتعلق بشيء من زهد المتصوفة كان فيما يبدو بين الضلوع يخمِّر شيئاً في النفس، وذات يوم: “فوق أشلاء حصير( ) وذكرني ذلك بقول صوفي من القرن الرابع الهجري يعرف الحرية: ” الحرية أن تكون لله عبداً ولكل مَن دونه نداً “. وعدت أتصفح بعض صفحات ذلك الفلاح الذي عشق الطبيعة ووجدت أنهما صنوان أو أنهما تقتربان من ذلك: الطبيعة والحرية. .. إنه يريد أن يعيش في الريف الذي أحب بعيداً عن الضجيج، وأن يمسك ما تبقى من نور قلبه، وأن يكون حراً حتى بالمعنى الذي يقترب من الحرية الطبيعية وليس الوضعية، ذلك الفوز الذي يرى أن الفوز الحق: “فازَ مَنْ عاش إلى، رحمة مولاه، فقيرا. يحرق الأنفاسَ في مجمرة الحق، بخورا. ليس للفلاح أن يُبحرَ في الغيب،( ) وكان له ما أراد.. وبهدوء وصمت عاد لينشد على هواه في حضن الطبيعة ـ الحرية، وينضج ما في العقل من آيات، ويتلمس الصبح ويعيشه على نحو ما قبل أن يقدمه حلماً للناس، إذ: ” لا صباحٌ قبل أن نحياه في الليلِ، ونستنبتُ في العقلِ،( ) لقد رافقت ريفياً أصيلاً في رحلة عمر توقف بي في بعض محطاتها، وأسعدتني صحبته، ولكن كان علي أن أعود إلى طين كثيف يستنزف مني وقتاً وجهداً، فباركت جهده، وتمنيت له الخير وتركته مع رأسماله وأنا أتلفت إليه في أثناء ابتعادي، ويتفلَّت مني شيء يمضي نحوه يتدثَّر بأوراق شجر غابة تظله، وهو غارق في تأمل، يرشقني بنظرات ذات مغزى، ويخبرني قارئاً مقطوعة من مدونته يقول: “من خلال الوجود، أُدركُ نفسي. وبنفسي، أعي جميعَ الوجودِ. فالنفوسُ الأجزاءُ، ليستْ فُرادى. هي خمرٌ، يضيءُ في عنقودِ، لا بريقٌ للحرف، إلاّ إذا صار، لهيباً،( )

(سيرياهوم نيوز-صفحة ادب عبد اللطيف محرز2-5-2021)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

“التراث الأثري السوري تحت تهديد العقوبات”… ندوة في جامعة جينوا في إيطاليا ضمن مشروع “الوردة الشامية في سانريمو

قدمت اليوم ضمن فعاليات مشروع الوردة الشامية في سانريمو 2024 بإيطاليا الذي تقيمه الأمانة السورية للتنمية بالتعاون مع منظمة سانتاغاتا لاقتصاديات الثقافة ومؤسسة فيلا أورموند والمعهد ...