الرئيسية » شخصية الأسبوع » جميلة بوحيرد مسار نضالي ورمز ثوري

جميلة بوحيرد مسار نضالي ورمز ثوري

ا. د. أحسن تليلاني

تتحدث آخر الأخبار من الجزائر عن إصابة المجاهدة الكبيرة جميلة بوحيرد بوباء كورونا، و دخلولها للعلاج بمستشفى مصطفى باشا بالجزائر العاصمة ، و ما يلاحظ هو وجود حملة تضامن كبيرة مع هذه المجاهدة القديرة التي ارتبط اسمها برمزية الثورة الجزائرية، بل إن بعض الكتابات و التحاليل تذهب في اتجاه مطالبة السلطات الجزائرية بضرورة معالجتها في أرقى المستشفيات العالمية كاعتراف و لو بسيط بتضحياتها الجسيمة في سبيل تحرير الجزائر من ربقة الاستعمار الفرنسي. و نظرا لترد إسم هذه الشخصية البطلة في مختلف وسائل الإعلام، ارتأيت أن أقدم عن حياتها هذه النبذة التعريفية المأخوذة من كتابي(الثورة الجزائرية في المسرح العربي- مسرحية مأساة جميلة لعبد الرحمن الشرقاوي نموذجا) و هو كتاب فائز بالجائزة العربية مصطفى كاتب للدراسات و الأبحاث المسرحية عام 2008. جميلة بوحيرد هي بالفعل أسطورة أبدية خالدة، فنضالها وصمودها وتضحياتها الخارقة زمن الثورة التحريرية ثم صمتها واحتجابها عن الظهور بعد الاستقلال وحضورها الرمزي الكبير في الإبداع الفني كل ذلك جعل منها أسطورة، والغريب أنه لم يحدث عبر التاريخ أن تأسطرت حياة إنسان وهو ما يزال على قيد الحياة مثلما حدث مع البطلة جميلة بوحيرد، إنها تجمع بين بساطة الناس، وهالة المجاهدين، وقداسة الشهداء. إن جميلة بوحيرد الشهيدة الحية، والأسطورة الجزائرية الخالدة هي واحدة من بين ثلاث جميلات أنجبتهن الجزائر المجاهدة، ليكن شهادة حق على عظمة الثورة التحريرية… إنهن ثلاث جميلات حرات صنعتهن الحوادث فصنعن تاريخ الجزائر الحديث… إنهن ثلاث نساء جزائريات المنبت صنعن الوطن المفدى وخضضن العالم أجمع. إنهن جميلة بوحيرد وجميلة بوعزة وجميلة بوباشا… أما جميلة بوعزة فهي من مواليد العفرون ولاية البليدة عام 1937، وانخرطت في الثورة التحريرية عام1956 وهي طالبة آنذاك في الثانوي، فعملت ضمن صفوف المجموعات المسلحة بالعاصمة حيث أوكلت لها مهمة وضع القنابل إلى أن اعتقلت في أفريل1957، وأودعت السجن وفي غياهبه عذبت حد الجنون ولم يطلق سراحها إلا عشية الاستقلال عام1962، هي أم لثلاثة أطفال. وبالنسبة لثانية الجميلات فهي جميلة بوباشا وقد ولدت عام1938 بالجزائر العاصمة، وانضمت إلى الثورة عام1955 وهي لم تزل تلميذة بعد في المدارس، فأسند لها مهمة نقل الأدوية والوثائق وإيواء الثوار إلى أن اكتشف أمرها فاعتقلت يوم09-09-1960، وتعرضت للسجن والتعذيب الوحشي ولم يطلق سراحها إلا سنة1962، وبعد الاستقلال اشتغلت عضوا في المجلس التنفيذي لمنظمة المجاهدين، هي أيضا أم لثلاثة أولاد. أما ثالثة الجميلات فهي أكبر الجميلات سنا وأكثرهن شهرة، إنها الشهيدة الحية والأسطورة الأبدية: جميلة بوحيرد التي فتحت عينيها عام1935، بالجزائر العاصمة، في بيت يعشق أهله الوطن، فاكتسبت النضال بالوراثة كيف لا وهي تنتمي إلى عائلة عريقة في النضال الوطني حيث يوجد معظم أفراد عائلتها سواء من جهة الأب أم من جهة الأم ضمن صفوف الحركة الوطنية حتى أن أحد أبناء عمومتها قد سجن و عذب و لم يكن يبلغ من العمر سوى ستة عشر سنة فقط ، ووسط هذا الجو العائلي الموسوم برفض الاستعمار و مقاومته نشأت جميلة فرضعت حب الوطن و تشربت قيم الفداء، فكان التحاقها بصفوف الثورة التحريرية عام 1956 عن طريق إحدى الصديقات المناضلات، التحاقا مصيريا و اختيارا لا رجعة فيه، فتركت معهد الخياطة- الذي كانت إحدى طالباته، لتلتحق بصفوف الثورة و لما يتجاوز عمرها آنذاك العشرين عاما. في بداية مسارها الثوري كلفها عمها المجاهد (مصطفى بوحيرد) بالسهر على إطعام و خدمة رفاق السلاح بالقصبة و هم: ياسف سعدي و علي لابوانت و عليلو و في مرحلة لاحقة تم اعتمادها كفدائية جريئة و متمرسة، مهمتها أن تقض مضاجع الأعداء، و تدك إقامات راحتهم في معاقلهم المحصنة، و ذلك بوضع القنابل التي كان منزلها بحي القصبة ورشة لصناعتها و إعدادها حيث كانت تلك القنابل تحمل عادة في القفاف المهيأة للخضر و الفواكه، و كانت أهم عملية فدائية قامت بها جميلة بوحيرد هي تلك التي استهدفت الملهى الفرنسي المعروف أنداك باسم ميلك بار يوم 26 جانفي 1957 إنها العملية التي أرعبت المستعمرين و جعلتهم يضعون جميلة على رأس قائمة المطلوبين حية أو ميتة. ليتم القبض عليها يوم 09 أفريل 1957 و ذلك بعد تعرضها لإصابة بالغة الخطورة في رجلها إثر عملية مطاردة رهيبة من طرف المظليين الفرنسيين في شوارع حي القصبة، و قد عثر بحوزتها على وثائق سرية هامة تخص مخططات جبهة التحرير الوطني، ووثائق أخرى موجهة إلى المجاهد القائد عبان رمضان مع مبلغ مالي يقدر بــ: 800.000 فرنك فرنسي. و مند اعتقالها، بدأت مأساة جميلة – و لما تكن من قبل تعني للعالم شيئا- فقد تعرضت لأبشع ألوان التعذيب، وأشدها إيلاما، و أكثرها استفزازا، حيث تقول: لقد تعرضت في 29 أفريل 1957 إلى استنطاق، و تعذيب متواصلين، وذلك في المشفى العسكري بمايو، لقد قاسيت لمدة 03 أيام عذابات الضرب العنيف، و الكهرباء، إلى أن أغمي علي فصرت أهذي… و لما استنكرت ضربوني على جرح يدي، و أبقوني هكذا أتعذب كل يوم بل كل ساعة، و لم يجلبوا لي طبيبا ليكشف علي إلا بعد أشهر، فأعطى تقريرا خاطئا عن إصابتي رغم وجودها ووجود آثرها . و لم يكتف زبانية الاستعمار بتعذيبها عذابا منكرا، بل تجاوزوا ذلك إلى درجة التحرش الجنسي و النيل من شرفها باستباحة عفتها من طرف أحد السينغاليين المنضوين في الجيش الفرنسي المعروف باللفيف الأجنبي و ذلك على مرأى و مسمع من الجميع. لقد تعرضت إلى شتى أنواع الضغوط الجسدية و النفسية والتي طالت حتى اعتقال إخوتها و بخاصة أصغرهم المدعو إلياس عل ذلك يجعلها تستسلم فتعترف بمكان وجود شركائها و رفاقها في الكفاح أمثال ياسف سعدي، و علي لابوانت و نظرا لأن كل أنواع التعذيب و الضغط لم تجد معها نفعا، إذ لم يتمكن الجلادون من انتزاع سر واحد منها يخص الثورة و الثوار، فقد صدر الحكم بإعدامها مع زميلتها جميلة بوعزة و هذا يوم 13 جويلية 1957 و لكن الحكم لم يعلن إلا يوم 15 من الشهر نفسه بسبب عطلة 14 جويلية ذكرى الثورة الفرنسية ذات الشعارات البراقة ( العدالة و الإخاء و المساواة )، و في وصفها لذلك اليوم تقول جميلة بوحيرد: كان أجمل يوم في حياتي لأنني كنت مقتنعة بأنني سأموت من أجل أروع قصة في الدنيا… و ما زلت أذكر أننا عدنا من قاعة المحكمة إلى السجن، و صرخ الإخوة المساجين يسألوننا عن مضمون الحكم… أجبنا بالنشيد الذي ينشده المحكمون بالإعدام و مطلعه: (الله اكبر تضحيتنا للوطن ) كنت أنا و جميلة بوعزة …و كانت لحظة مؤثرة فآلاف و آلاف الأصوات رددت معنا النشيد محاولة تشجيعنا. لقد كان من الممكن أن يمر قرار إعدام جميلة مثلما مرت إعدامات كثيرة في حق الجزائريين بدءا بالشهيد أحمد زبانة، و لكن المقادير قيضت لجميلة و مسارها النضالي ظهور رجل في حياتها وفي مسار الثورة الجزائرية ليجعل من صمودها تاريخا خالدا في الوجود المقاوم، إنه أحد أشهر محامي العالم: السيد جاك فارجاس * ليتولى بصميم الدفاع عن جميلة، رغم أن المحكمة رفضت اعتماده، و تعرض لمحاولة اختطاف و اغتيال، إلا أن تصميمه و إيمانه بعدالة قضية جميلة و أمثالها مكنه من المرافعة خاصة و أن جميلة قد ساعدته هي الأخرى برفضها الإجابة عن أسئلة المحكمة في غيابه. كل هذه الحوادث المتشابكة و التعقيدات القضائية أعطت إلى قضية جميلة بوحيرد ورفيقاتها الأربع زخما إعلاميا و بعدا دوليا تكفلت به المنظمات الإنسانية العالمية التي جرمت الاستعمار الفرنسي و أجبرت محكمته على إلغاء حكم الإعدام في سبيل تهدئة الأجواء و تحسين الصورة المشوهة أمام العالم، و هو ما جعل جميلة و رفيقاتها ينقلن إلى أحد سجون باريس بفرنسا إلى غاية الإفراج عنهن عشية استقلال الجزائر عام 1962. و يبدو أن قصة حب جميلة قد نشأت و نمت بين جميلة بوحيرد و محاميها جاك فارجاس الذي أعلن إسلامه قبل أن يقع الزواج بينهما. بعد استقلال الجزائر عام 1962 تم استقبال جميلة بوحيرد في أغلب الدول العربية التي عشقتها شعوبها دون أن تراها، فمن مصر إلى الأردن والكويت كانت جميلة معبودة الجماهير، و هي تعتبر مواطنة شرف في العراق وفي سوريا حيث تحمل أيضا رتبة شرفية في الجيش السوري . أما في الجزائر فقد كانت جميلة ولا تزال ترفض التكريمات الرسمية والظهور أمام الأضواء باستثناء ظهورها الرمزي هذا العام في بعض المناسبات . إن المسار الحياتي لجميلة بعد الاستقلال يؤكد أن هذه المجاهدة الفذة والأسطورة الخالدة قد قررت منذ 1963 نكران ذاتها إذ تنازلت عن حقها المشروع في كرسي النيابة بالبرلمان لمن هو أكفأ منها على حد تعبيرها مفضلة أن تكون ضميرا وعينا راصدة للجزائر، فلم تتأخر في الوقوف مرات كثيرة في وجه الرئيس أحمد بن بلة بسبب الاعدامات التي تمت بعد الاستقلال، خصوصا عند قراره بإعدام حسين آيت أحمد، كما أنها تدخلت لدى الرئيس هواري بومدين لطلب العفو عن الضابط الذي أطلق عليه النار لاغتياله، فاستجاب الرئيس لرغبتها. ولم تتأخر عن المواعيد المصيرية في حياة المجتمع الجزائري كتاريخ 1982 الذي شهد مظاهرات عارمة للمرأة الجزائرية واحتجاجها على قانون الأحوال الشخصية الجائر في حقها كإنسان وكإمرأة، كما أنها لم تتأخر عن إبداء رغبتها في المشاركة في الثورة الفيتنامية ضد الامبريالية الأمريكية، ونسجل لها أيضا رغبتها في الدفاع عن فلسطين المحتلة، لكن الجميع من أحرار العالم قدروا فيها مساعيها النبيلة لأنهم كانوا يدركون ما بقلبها من عواطف وأحاسيس تحررية. ختاما لهذا المسار الحياتي والنضالي لجميلة بوحيرد نشير إلى ظهورها عام (2007) في ثلاث مناسبات متتالية، حيث نزلت في الأولى ضيفة على المسرح الوطني الجزائري وحضرت عرض مسرحية النهر المحول في أكتوبر 2007، وفي الثانية شاركت إلى جانب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الاحتفالات المخلدة لذكرى اندلاع ثورة نوفمبر في 01 نوفمبر 2007، وفي الثالثة شاركت رفقة وزيرة الثقافة السيدة خليدة تومي مراسيم افتتاح الأسبوع الثقافي الليبي بقصر الثقافة مفدي زكرياء منتصف شهر نوفمبر 2007 . وتقول آخر أخبارها أنها تقيم مثل عموم الشعب الجزائري في الطابق الثامن بإحدى عمارات حي حيدرة بالجزائر العاصمة . لكنها في الواقع تسكن في قلوب الملايين إنسانة وأسطورة جديرة بالحب والتقديس لأنها تمثل رمز الحرية والعطاء الذي يمنح ولا يأخد، ويضحي دون أن ينتظر المقابل الرخيص. لقد تأسطرت حياة جميلة بوحيرد، فكانت ومازالت موضوع كتابات كثيرة شعرا ونثرا… كما أنتجت لها السينما المصرية فيلما- يحكي بطولاتها. والحقيقة أنه لا يوجد في تاريخ الجزائر رمز احتفى به الإبداع العربي مثل رمز جميلة بوحيرد، فقد اختصرت في أبعادها رمزية الثورة التحريرية ذاتها. أستاذ جامعي و كاتب من الجزائر

(سيرياهوم نيوز-رأي اليوم2-5-2021)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

النائب البريطاني جورج غالوي

  كتب د. المختار   قال النائبُ البريطاني جورج غالوي في محاضرةٍ ألقاها على مدرجِ مكتبةِ الأسدِ بدمشقَ في يومِ الثلاثاءِ 29 آب/أغسطس 2006م، وكنت ...