لندن | استقال هارتفيغ فيشر، مدير المتحف البريطاني، وكذلك فعل نائبه جوناثان ويليامز اعترافاً منهما بالتقصير بعدما كشف النقاب عن فقدان حوالي 2000 قطعة أثرية ثمينة تبيّن أن أحد موظفي المتحف قد باعها منفردةً طوال سنوات عبر موقع المزادات العلنيّة الشهير «إي بي» (eBay). ونقلت صحف لندن عن فيشر، مؤرخ الفن الألماني المولد الذي تولى منصبه منذ عام 2016، اعترافه بأن إدارة المتحف «لم تستجب كما ينبغي» لتحذيرات وردتها عام 2021 من قبل خبير آثار هولندي حول عرض قطع يفترض أنّها في حوزة المتحف للبيع على الإنترنت. ووصف فيشر الوضع بأنّه «في منتهى الخطورة»، معتبراً أنّه يتحمّل شخصياً المسؤولية كاملةً عمّا جرى وأنّه سيترك مكتبه بمجرّد تعيين إدارة مؤقتة جديدة.
من جهته، قال جورج أوزبورن، المستشار السابق لحزب المحافظين اليميني الحاكم ورئيس مجلس أمناء المتحف البريطاني (وهو منصب سياسيّ إلى حد كبير)، إنّ فيشر «تصرف بشرف» تجاه هذه الحادثة، وأنّه كرئيس لمجلس الأمناء، استدعى نايجل بوردمان المدير السابق للمتحف وكلّفه بتحديد مكمن الخلل، متعهداً بأن بريطانيا «ستقوم بإصلاح الخطأ الذي حدث»، و«ستتعلم من التجربة، وتستعيد الثقة، وتنال الإعجاب مرة أخرى».
تطورت القضية في أيّام قليلة إلى ما يشبه أزمة وجوديّة مفتوحة للمتحف الذي يمتلك أكثر من ثمانية ملايين قطعة أثريّة سرقت من بلادها الأصلية في مراحل مختلفة إبان عهد الإمبراطوريّة بعد تصاعد أصوات وصفته بأنه وصيّ غير موثوق فيه على حماية آثار تعد كنوزاً من التراث الإنساني عبر العصور، ودعم مطالبات حثيثة لدول عدة بإعادة القطع التي نقلت من أراضيها بطرق غير مشروعة. أمر لطالما تمنّعت بريطانيا عن فعله بحجة أنّ بعض تلك الدول لا يمكن الاتكال عليها في حماية تراثها الثقافي.

واعترف متحدث باسم المتحف بأنّ ما يراوح بين 1500 و 2000 من القطع الأثرية الثمينة التي كان يعتقد أنها كانت محفوظة بأمان في المخازن الضخمة، تبيّن أنّها «مفقودة أو مسروقة أو تالفة». وقد أقيل الموظف المتهم بالسرقة ويخضع حالياً للتحقيق. وتشمل القطع المفقودة مجوهرات ذهبية وأحجاراً كريمة وآنية من الزجاج يعود تاريخها إلى فترة تراوح بين القرن الـ 15 قبل الميلاد إلى القرن 19 الميلادي. وقد بدأت عمليّة خاصة لمحاولة استعادتها، لكن الأمر قد يستغرق عقوداً.
وكان خبير الآثار وتاجر الأعمال الفنية الهولندي إيتاي غراديل قد تواصل مع إدارة المتحف عام 2021 وأبلغها أن قطعاً يُفترض أنها في حوزة المتحف معروضة للبيع على الإنترنت. وادعى فيشر بداية أنّ غراديل لم يخطر المتحف البريطاني إلا بشأن «عدد صغير من القطع» وحجب عنه بقيّة المعلومات. لكن غراديل قال إن هذا الادعاء كان «كذبة صريحة» وإن إدارة المتحف اختارت إخفاء المسألة «تحت السجادة». وقد قدّم فيشر الأسبوع الماضي اعتذاراً علنياً، قائلاً: «لقد أخطأت في مضمون التصريحات التي أدليت بها في وقت سابق من هذا الأسبوع حول الدكتور غراديل، وأود أن أعرب عن خالص أسفي».

ويقول خبراء إن المتحف البريطانيّ ليس إلا أكبر مستودع للمسروقات الثمينة في العالم، وإن قطعاً لا تقدّر بثمن، نُهبت من جهات العالم الأربع مخزنةً بشكل سريّ، فيما يعرض أقل من 1 في المئة منها، وبعضها لم ير النور قط منذ قرن أو أكثر. وبينما لا يمتلك المتحف شيئاً يذكر من آثار بريطانيّة، فإن أهم مجموعاته أتت من العراق ومصر والصين وأفريقيا وسوريا الكبرى والهند وأميركا اللاتينية. وبحسب مطلعين على تفاصيل العمل في المتحف، فإن السرقة ليست إلا أقل التحديات التي تواجه إدارته.

واقترح أوزبورن قبل أيّام أنّه بحاجة فوريّة إلى مليار جنيه استرليني كحد أدنى لتنفيذ إصلاحات عاجلة في منشآت المتحف، وإعادة ترتيب غرف العرض المتقادمة. لكن الحكومة البريطانية التي سارعت إلى دفع ما يزيد على 2.2 مليار جنيه لدعم المجهود الحربيّ للنظام في أوكرانيا ولا تخصّص سوى 75 مليون جنيه سنوياً للمتحف، تقول بأنّها تواجه ضغوطاً مالية شديدة وتتوقع من إدارته إيجاد طرق بديلة للتمويل، وتحصيل الإيرادات. ويريد بعض عتاة اليمين البريطاني أن يلجأ المتحف إلى بيع بعض ما لديه من القطع الثانوية لتوفير التمويل اللازم، وهو ما أثار انتقادات حادة في الخارج.

أهم مجموعاته أتت من العراق ومصر والصين وأفريقيا وسوريا الكبرى والهند وأميركا اللاتينية

أتت هذه الحادثة المخجلة في وقت حساس بالنسبة إلى أوزبورن الذي كان يتفاوض طوال أشهر مع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بشأن الترتيبات المستقبلية لمنحوتات البارثينون الرخاميّة (تعرف باسم Elgin Marbles) التي سرقها البريطانيون من أثينا بالتآمر مع العثمانيين وتعتبر أثمن الآثار الإغريقيّة على الإطلاق. وجادل البريطانيون أنّهم لن يعيدوا تلك الشرائط المبهرة التي كانت تزين إفريز معبد البارثينون الشهير بشكل دائم، وتحدثوا بدلاً من ذلك عن مبدأ تبادل دوري لأجزاء مختارة منها مقابل «ارتهان» قطع من مقتنيات متحف أثينا، وعرضها في لندن.

ونقلت الصحف عن وزيرة الثقافة اليونانية، لينا ميندوني، قولها إن علامات الاستفهام الأمنية التي أثارتها حادثة المقتنيات المفقودة من المتحف البريطانيّ «تعزز المطلب الدائم والعادل لبلدنا باستعادة نهائية لرخام إلجين إلى البارثينون». كما علّقت ديسبينا كوتسومبا، رئيسة جمعية علماء الآثار اليونانيين، على الحادثة بقولها إن المتحف البريطاني «لا يمكنه الادعاء بعد الآن بأن تراث الثقافة اليونانية في أمان أكبر في عهدته».
واصطدمت السلطات البريطانية سابقاً مع الحكومة النيجيرية التي تطالب باستعادة مجموعة من التماثيل البرونزية (نقلها البريطانيون من مملكة بنين التاريخية التي تقع أراضيها الآن داخل نيجيريا) التي لا تقدّر بثمن إلى لاغوس، لكن لندن قالت حينها إنّها لا تعتقد بأنّ نيجيريا تتمتع بالقدرة على حفظ تلك القطع. وقد تجددت المطالبات النيجيريّة مجدداً.

يريد بعض عتاة اليمين البريطاني أن يلجأ المتحف إلى بيع بعض قطعه الثانوية لتوفير التمويل اللازم

ومن بكين، شنت صحيفة «غلوبال تايمز» الرسميّة الصينيّة التي تصدر باللغة الإنكليزية هجوماً شديد اللهجة على بريطانيا ضمن افتتاحية لها، وقالت إن المتحف المشهور «فشل بشكل ذريع في حماية الممتلكات الثقافية التي نقلتها من الدول الأخرى». ودعت الصحيفة بريطانيا إلى إعادة جميع الآثار الصينية لديها بصفة عاجلة، وبدون مقابل. ويمتلك المتحف البريطانيّ أكبر مجموعة من الآثار الصينية خارج الصين. ووفقاً لموقعه على الإنترنت، فإنه يحتفظ بأكثر من 23 ألف قطعة أثرية صينية من فترات عدة تراوح من العصر الحجري الحديث إلى وقتنا الراهن، وتشمل عدداً من اللوحات والمطبوعات، واليشم، والبرونز، والسيراميك. ولعل أشهرها لفافة قديمة تدعى «تحذيرات لسيدات البلاط»، وهي تحفة تعد علامة فارقة في تاريخ الفن الصيني.
وعلى الرغم من أن الحكومة الصينية لم تعلّق علناً على الحادثة بعد، إلا أنّ مواقع التواصل الاجتماعي في الجمهوريّة تناقلت افتتاحية «غلوبال تايمز» بكثافة، وانتشرت تعليقات وهاشتاغات تطالب المتحف البريطاني بإعادة آثار الصين وقال أحد أكثرها تداولاً: «الآن وبعدما أصبحت البلاد غنية وناسها أقوياء، فقد حان الوقت لإعادة كنوزنا إلى الوطن».
وبينما وصف تيم لوتون، رئيس مجموعة البرلمان البريطاني المعنية بالمتحف، هذه المطالبات الدّولية بأنها «انتهازية»، وأنّه بدلاً من أن «تمدّ بعض الجهات يد المساعدة لاستعادة اللقى المفقودة، تحاول استغلال الحادثة لابتزاز بريطانيا»، فإن الدول العربيّة التي نهبت المملكة المتحدة بعضاً من أهم آثارها ونقلتها إلى لندن، مثل العراق ومصر والأردن، التزمت الصمت التام.