آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » بدائل النظام العالمي المسيطر: الغذاء نموذجاً [3]

بدائل النظام العالمي المسيطر: الغذاء نموذجاً [3]

 

رأي فايز عراجي

 

تناولنا في مقالنا السابق «بدائل النظام العالمي المسيطر: الغذاء نموذجاً – النظام الغذائي الجديد) التحوّلات المتوقعة على النظم الغذائية للدخول في عصر النظام الغذائي الرابع. من المرتقب إعادة تشكيل السياسات الغذائية الدولية مع التأكيد على أولوية أسعار السوق في قرارات المنتج والمستهلك، فرض تحولات جذرية في النظم الغذائية بخاصة في ما يتعلّق بتنويع مصادر استيراد الغذاء وتنويع النمط الغذائي الفردي، رفع الدعم عن الوقود الحيوي وتعليق التفويضات، رفض استراتيجيات الاكتفاء الذاتي ومحاربتها، توطين الإنتاج وتنويعه في الدول المتقدمة، ودعم الابتكار والبحث العلمي. أدت التحولات المتلاحقة في النظم الغذائية إلى نتائج كارثية ليس فقط على مستوى دول الجنوب بل طاولت نتائجها الطبقات المتوسطة والفقيرة في دول الشمال أيضاً.

 

 

نتائج النموذج المسيطر

حذّر كارل ماركس في كتابه «رأس المال» (1867) مما سمّاه الصدع التفاعلي (Metabolic rift) بين الإنسان والطبيعة. واعتمد ماركس على أعمال الكيميائي الزراعي Justus Von Liebig عام 1859 حول «الزراعة العقلانية» لبناء نظريته حول التفاعل بين الإنسان والطبيعة حيث تتأزم هذه العلاقة كلما زاد نمط الإنتاج الرأسمالي. يؤدي التوسع اللانهائي في الإنتاج الزراعي والصناعي والاستخراج اللاعقلاني للمواد الخام ومصادر الطاقة إلى اختلال هذا التفاعل الواعي بين الإنسان والطبيعة بما يؤدي إلى الصدع التفاعلي وتدمير خصوبة الأرض وصحة الإنسان. يشير الصدع التفاعلي إلى خروج العمل البشري وانفصاله كلياً عن إمكانيات الموارد الطبيعية المحيطة به (1 و2). يعتقد خبراء الغذاء أن النظام الغذائي العالمي الحالي أصبح نظاماً سياسياً له علاقاته ذات التأثيرات الدولية. وقد أدّت سيطرة النموذج الحالي على النظام الغذائي إلى نتائج كارثية اقتصادية، اجتماعية، بيئية، صحية، زراعية وحتى ثقافية.

ad

 

 

 

(غولدن كوزموس)

 

تسليع الغذاء وتحرير تجارته

نجح النموذج الحالي المسيطر على النظام الغذائي بخلق علاقة عضوية بين الغذاء والرأسمالية بحيث أصبحت للغذاء قيمة تبادلية إضافة إلى قيمته الاستعمالية، وبات للنظام الغذائي في ظل الحداثة الرأسمالية بعد منهجي وآخر تاريخي. وأبرز مثال على ذلك هو سكر المائدة (Sucrose) الذي كان تاريخياً عنصراً لمضاهاة المكانة الاجتماعية، ثم وقوداً حرارياً للبروليتاريا الأوروبية، وحالياً مكوناً أساسياً في الوجبات السريعة. لقد أدى التحوّل التدريجي للمدخلات الزراعية من عضوية إلى غير عضوية (كيميائية)، وانخفاض إعادة تدوير المغذيات في التربة والمياه، وإدخال أساليب زراعية جديدة تعتمد على المواد الكيميائية وعلى الهندسة الوراثية (بذور معدّلة وراثياً) إلى إخضاع الزراعة إلى علاقات الإنتاج الرأسمالي (3 و4). باتت أولوية الإنتاج الزراعي هي التصدير وليس الإنتاج للأسواق المحلية فظهرت مفاهيم زراعية/اقتصادية جديدة مثل المحاصيل النقدية (Cash crops) والزراعة التصديرية (Agro-export). دفع تحرير تجارة الغذاء وتسعير المحاصيل بحسب ما يمليه السوق إلى تغيّر فكري وإنساني في مفهوم الغذاء فتحوّل من كونه حق إنساني يراعي صحة الإنسان، مغذّي، ملائم ثقافياً، ومتاح اقتصادياً إلى سلعة مصنّعة تحوي على الكثير من الدهون والسكريات والترسبات السامة (5 و6). دخل الغذاء في المؤشرات الاقتصادية فظهر على سبيل المثال مؤشر اقتصادي اسمه مؤشر «بيغ ماك» الاقتصادي Big Mac Economic Index. والبيغ ماك هو أحد أنواع الشندويشات التي تعرضها على زبائنها سلسلة مطاعم «ماكدونالدز» الأميركية الشهيرة للمأكولات السريعة. بات مؤشر «بيغ ماك» الذي أطلقته مجلة «ذي إيكونومست» عام 1986 لقياس القيمة الحقيقية للعملات العالمية والقدرة الشرائية للشعوب المختلفة، مؤشراً عالمياً مدرجاً في العديد من الكتب الاقتصادية وشكّل موضوعاً لعشرات الدراسات الأكاديمية (7).

ad

 

 

ارتفاع عدد الجياع وانعدام الأمن الغذائي

أدى تسليع الغذاء وتحرير تجارته إلى ارتفاع عدد الجياع حول العالم. وقد كشفت الأزمات المتلاحقة خلال السنتين الماضيتين (كورونا وأوكرانيا) عن هشاشة النظام الغذائي الذي نعيش في ظلّه. يفيد تقرير صادر عن الأمم المتحدة بأن العالم ابتعد أكثر فأكثر عن تحقيق هدف القضاء على الجوع وسوء التغذية بحلول العام 2030 (كما كان مخططاً له في أهداف التنمية المستدامة SDG 2030) حيث زاد عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع في العالم أكثر من 150 مليون منذ بدء جائحة كوفيد – 19، ليلامس عدد الجياع حوالي 900 مليون شخص حول العالم (حوالي 10% من سكان الأرض) وعدد الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي 2.3 مليار شخص (حوالي 30% من سكان الأرض) وعدد العاجزين عن تحمّل كلفة نمط غذائي صحّي 3.1 مليار (حوالي 40% من سكان الأرض) (8). وبالرغم من أن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة أفادت بأن نسبة الجياع في العالم انخفضت من 19% (1992) إلى 11% من سكان العالم عام 2015، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن الجهد الأكبر في خفض هذه النسبة العالمية يعود للهند والصين: انخفض مؤشر الجوع العالمي من 24.4 عام 2000 إلى 16.8 عام 2021، لكن في نفس الفترة الزمنية انخفض المؤشر في الصين من 13.3% إلى 2.5 وفي الهند من 38.8 إلى 27.5 (9).

ad

 

مع السيطرة المتلاحقة للنماذج المهيمنة على النظام الغذائي في العالم منذ القرن التاسع عشر، تتالت موجات ضحايا المجاعة في العالم وبخاصة في قارة آسيا وأفريقيا التي كانت في معظم بلدانها مستعمرات أوروبية غربية. ضربت «الهند البريطانية» مثلاً أكثر من 5 موجات من المجاعة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين إبان الاستعمار البريطاني مخلّفة أكثر من 30 مليون ضحية. كان أفظعها مجاعة البنغال بين عامي 1943 و 1944. خلال الحرب العالمية الثانية تدفقت القوات العسكرية البريطانية والأميركية إلى البنغال لشن عمليات عسكرية ضد اليابان. أصدرت الحكومة البريطانية المستعمرة مرسوماً يقضي بتغطية كامل تكاليف أنشطة الحلفاء في المنطقة من الموارد الهندية. وبما أن فرض الضرائب على الميسورين الهنود لا يشكل مورداً كافياً، وفي ظل عدم إمكانية فرض الضرائب على الفقراء الهنود خوفاً من الانتفاضات، نصح الاقتصادي المعروف جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes) رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل باتباع سياسات تضخمية متعمّدة (Inflationary policy) كضرائب غير مباشرة عبر طبع كميات كبيرة من العملة المحلية بحجة تغطية المصاريف العسكرية. على أثر ذلك انهارت العملة المحلية وأدى التضخم إلى ارتفاع أسعار الأرز 300% ففقد الهنود القدرة على شرائه بسبب النقل القسري للقوة الشرائية من الهنود إلى الجيش البريطاني والأميركي وأدى ذلك إلى مجاعة أودت بحياة 3 ملايين شخص. منذ العام 1765 وحتى العام 1938 استخرجت الحكومة البريطانية من الهند سلعاً بقيمة آلاف مليارات الدولارات مقارنة بقيمة العملة اليوم مكّنتها من تمويل بنيتها التحتية وتمويل الثورة الصناعية في غرب أوروبا المستعمرات البريطانية (10).

ad

 

 

تسليع الموارد الطبيعية

دفع تسليع الغذاء إلى إحكام قبضة الكيانات التجارية الكبيرة على الموارد الطبيعية من مياه عذبة وأراض زراعية وثروة نباتية وحيوانية. أصبحت الموارد الطبيعية تُصنّف «حاجات» لاستمرار الحياة وليست «حقوق» إنسانية. نتج من ذلك تشريد مجتمعات كاملة من أراضيها ومهنها التقليدية ودفعها للبحث عن عمل غير مضمون وغير آمن وبأجر ضعيف في أماكن أخرى. «وقد أدى ذلك إلى هجرة واسعة النطاق للأسر الزراعية والرعوية وصيد الأسماك، وخلق جيوب جديدة من الفقر وعدم المساواة في المناطق الريفية والحضرية، وتجزئة مجتمعات ريفية بأكملها» (11).

تشير الأرقام الرسمية إلى أن أكثر من 20% من سكان الأرض عام 2007 حُرموا من الوصول إلى مصدر مياه عذبة (Freshwater) صالح لاحتياجاتهم اليومية (12)، وأكثر من 2.6 مليار شخص يفتقرون إلى الصرف الصحي المناسب (13). «إن إمدادات المياه العالمية آخذة في الانخفاض بسرعة في الواقع بسبب سوء الاستخدام والتلوث والخصخصة الهادفة للربح» (14). حتى ما قبل التسعينيات من القرن الماضي، كانت المؤسسات العامة في معظم دول العالم مسؤولة عن تأمين خدمات المياه باستثناء فرنسا وبعض مستعمراتها السابقة حيث أُسندت عقود تأمين المياه في باريس إلى شركتي Suez وفيوليا Veolia. وقد أدت هذه الخصخصة إلى ارتفاع قُدّر بحوالي 30% أكثر من السعر المبرر اقتصادياً بحسب تدقيق أجري عام 2000. مع بداية التسعينيات، ضربت موجة من الخصخصة قطاعات المياه في العالم وبدأ النموذج الفرنسي بالتكرار خصوصاً في دول الجنوب وبدعم من البنك الدولي في مهمة هدفها توجيه الاقتصاد العالمي نحو اقتصاد السوق (15). في العام 2002، سيطرت شركات المياه المتعددة الجنسيات على 200 مليار دولار من أصل 800 مليار وهي قيمة السوق العالمية للمياه بالرغم من أن خدماتها لم تتجاوز 7% فقط من سكان الأرض (16). أدت خصخصة قطاع المياه العالمي إلى ارتفاع في الأسعار، زيادة في معدلات الفصل عن شبكة المياه، تدهور جودة المياه وفقدان الرقابة، والتحوّل إلى المياه المعبأة في الزجاجات (17). في العام 2015 اعترف البنك الدولي أن نسبة فشل مشاريع خصخصة المياه التي دعمها وصلت إلى 34%، وأعلنت مؤسسة التمويل الدولية IFC التابعة للبنك أنه لن يكون لديها مشاريع امتياز جديدة في قطاع المياه في أفريقيا وتعمل على تخفيض أعداد المشاريع في البلدان النامية. أدت النتائج السلبية في مجال خصخصة قطاع المياه إلى ظهور تيار استعادة القطاع من قبل البلديات خصوصاً في الدول الغربية، حيث استعادت منذ العام 2000 وحتى الآن أكثر من 94 بلدية كبرى في فرنسا و58 أخرى في الولايات المتحدة الأميركية قطاع المياه ضمن نطاقها الجغرافي (15). بقي أن نشير إلى أن 2.5% فقط من المياه الموجودة على الكرة الأرضية هي مياه عذبة صالحة للشرب وإنتاج الغذاء منها فقط 1% (1% من أصل 2.5) متاح لاستعمالاتنا والباقي (99% من المياه العذبة) متجمد في القطبين الشمالي والجنوبي (14).

ad

نجح النموذج الحالي المسيطر على النظام الغذائي بخلق علاقة عضوية بين الغذاء والرأسمالية بحيث أصبح للغذاء قيمة تبادلية إضافة إلى قيمته الاستعمالية

 

أعطى تيار حقوق الملكية في الولايات المتحدة الأميركية دفعاً قوياً لعقيدة خصخصة الأراضي الزراعية مع بداية ستينيات القرن العشرين. كانت هذه المدرسة فرعاً من الاقتصاد المؤسساتي الجديد في حينه. يعتقد أصحاب هذه المدرسة أنها الطريقة الوحيدة التي تحفزّ الاستثمارات في التحسينات (زراعة ومنازل وغيرها) بما أن المستثمرين واثقون أنهم سيحصلون على عائدات استثماراتهم (18). منذ ذلك الحين، عمل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي سوياً على تشجيع حكومات دول الجنوب والضغط عليها لتبني فكرة الملكية الخاصة للأراضي التي كانت سائدة في الغرب. دفع مفهوم «الاستخدام المُنتج» إلى التركيز على القيمة الاقتصادية وإهمال جميع القيم والاستخدامات التي تملكها المجتمعات المرتبطة بأقاليمها منها تفكيك أنظمة الحيازة العرفية والجماعية لمصلحة مزيد من الاستعمار واستغلال الأراضي والغابات من قبل الشركات المتعددة الجنسية (19). نتج من تبني فكرة الملكية الخاصة عملية استيلاء على الأراضي الزراعية تحت عنوان شراء الأراضي على نطاق واسع من أجل الاستثمار المالي، الزراعي، والصناعي. وبعد أن تأكد كبار المستثمرين من أن الاستثمار في الأراضي الزراعية هو استثمار آمن، سيطر 3% فقط من المالكين على 52% من الأراضي الزراعية في أوروبا، كما سيطر 20% فقط من المالكين على أكثر من 80% من الدعم المالي المرصود ضمن السياسة الزراعية المشتركة CAP للاتحاد الأوروبي. كل ذلك أدى إلى انخفاض عدد صغار المزارعين 30% في أوروبا وإلى توزيع الأراضي الزراعية بشكل غير متساوٍ حتى أكثر من الدخل، حيث سجّل مؤشر جيني GINI 0.3 للدخل بينما ارتفع إلى 0.82 لملكية الأراضي الزراعية (20 و21). كما في أوروبا كذلك في الولايات المتحدة الأميركية حيث يشير تقرير الائتلاف الوطني للمزارعين الشباب أن أبرز التحديات التي يواجهها المزارعون الشباب هو تأمين الأراضي الزراعية بسبب ارتفاع أسعارها حيث ارتفع متوسط سعر الأراضي الزراعية 75% خلال الـ 15 عاماً المنصرمة. زاد اهتمام المتمولين في الولايات المتحدة الأميركية بالأراضي الزراعية على اعتبارها استثماراً آمناً، فأصبح مثلاً الملياردير بيل غيتس، صاحب شركة «مايكروسوفت»، أول مالك للأراضي الزراعية، حيث يملك أراضي زراعية أكثر مما يملكه السكان الأصليون مجتمعين (22 و23). من ناحية أخرى، أدى انتشار خصخصة الأراضي إلى تغيير في السلوكية الاجتماعية/الاقتصادية، حيث أشارت دراسة في كينيا إلى انخفاض التعاون في العمل الزراعي الجماعي بنسبة 93% للأسر التي تملك صكوك ملكية أراض زراعية (24).

ad

 

مع توسّع النموذج الغذائي الصناعي وعولمته، انهارت مؤشرات التنوّع البيولوجي ومؤشر الكوكب الحي للثروة النباتية والحيوانية. فقدت حقول المزارعين في العالم نهاية القرن العشرين أكثر من 90% من أصناف المحاصيل بحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة FAO. دفع النموذج الزراعي المهيمن إلى خسارة أكثر من 75% من التنوع الوراثي للنبات حيث ترك المزارعون أصنافهم المحلية المتعددة واستبدلوها بأصناف موحّدة وراثياً عالية الإنتاج. بات 75% من غذائنا العالمي يُنتج من 12 نبتة و5 أنواع من الحيوانات فقط (25). فيما يتعلّق بالبذور، يهيمن على السوق العالمية البذور الصناعية/التجارية المحمية بموجب حماية الأصناف النباتية PVP أي حقوق الملكية الفكرية IPR . تتميّز البذور الصناعية/التجارية بإنتاجية مرتفعة لكنها تتطلب مدخلات زراعية من أسمدة كيميائية ومبيدات زراعية. يدفع استعمال هذه البذور بالمزارعين حول العالم إلى الاعتماد أكثر فأكثر على المدخلات الزراعية وشراء بذور جديدة سنوياً (26 و27). منذ العام 2013، تسيطر 6 شركات خاصة متعددة الجنسيات على 75% من أبحاث تأصيل النبات في العالم، وعلى 60% من السوق العالمية للبذور (3 شركات تسيطر على 50%)، وعلى 76% من سوق الأسمدة الكيميائية والمبيدات الزراعية (28).

ad

 

 

تدمير الأسر الريفية والقضاء على إمكانياتها المعرفية والمالية وحتى النفسية

بعد أن كان المزارع على مرّ العصور خزان المعرفة وحارس الثقافة الريفية وحارس الطبيعة ومواردها الإنتاجية، فقد كل أدواره المتعددة ليصبح فقط منتج سلع غذائية لا دور له إلا بقدر الجدوى المالية والاقتصادية لعمله. مع النموذج الغذائي المهيمن، تحوّلت القدرة على الإنتاج إلى اختيار ذي جدوى اقتصادية وليس حق من حقوق الشعوب الريفية. دمّرت سياسات النموذج الزراعي المهيمن، من إفراط في الإنتاج وإغراق السوق والاحتكار، كل القدرات المالية والاقتصادية لصغار المزارعين (5). امتصّت سياسات الإقراض الزراعي عبر المصارف التجارية القسم الأكبر من إنتاج المزارعين فانهارت قدراتهم المالية ووقعوا تحت عجز مالي دائم مما دفع كثيرين منهم نحو الانتحار. على سبيل المثال تقدّر ديون المزارعين في الولايات المتحدة الأميركية عام 2019 بحوالي 416 مليار دولار أميركي وما زالت ترتفع سنوياً بينما انخفض عدد المزارعين الإجمالي بين عامي 2011 و2018 حوالي 100 ألف مزارع (29). تشير دراسة أجرتها جامعة أيوا في الولايات المتحدة الأميركية عام 2017، إلى أن المزارعين والعاملين في القطاع الزراعي ما زالوا الأكثر عرضةً للانتحار، حيث كانت الوفيات بسبب الانتحار هي الأعلى في صفوفهم بالمقارنة مع المهن الأخرى: ثلاثة أضعاف ونصف عن بقية السكان (30). في أستراليا يسجل انتحار مزارع كل 4 أيام، وفي المملكة المتحدة مزارع كل سبعة أيام، بينما في فرنسا يسجل انتحار مزارع كل يومين. في الهند أعلنت السلطات رسمياً وفاة 270 ألف مزارع انتحاراً منذ العام 1995 والعديد من الجمعيات تُشير إلى أعداد أكبر من الأرقام الرسمية المعلن عنها. علماً أن السبب الثاني للوفاة في الهند هو الانتحار ويشكل الانتحار بين صفوف المزارعين النسبة الأعلى (31 و32). بالإضافة إلى الأراضي الهامشية والديون للمصارف التجارية والتقلّب الدائم في أسعار المحاصيل النقدية، يعاني مزارعو دول الجنوب من دعم القطاع الزراعي في دول الشمال. يقدّر تقرير للأمم المتحدة أن حجم الدعم العالمي لقطاع الأغذية والزراعة بلغ 630 مليار دولار عام 2018، غالبيته في دول الشمال ولشريحة محددة من المزارعين هم كبار المزارعين. يلقي التقرير الضوء على أن القدر الأكبر من الدعم يؤدي إلى تشويه أسواق المنتجات الزراعية، إلحاق الضرر بالبيئة، كما أنه «لا يشجع على إنتاج الأغذية المغذية التي يتألف منها النمط الغذائي الصحي» (8).

ad

 

 

تغيير النمط الغذائي للشعوب

تُعرف الأطعمة التقليدية على أنها محاصيل أساسية مغذّية ولها تراكم ثقافي تاريخي. تعتبر المحاصيل المحلية التقليدية حجر الزاوية في النظام الغذائي التقليدي وهي متأقلمة بشكل ممتاز مع بيئتها المحلية حيث تُظهر دائماً قدرة على تحمّل الضغوطات المناخية في إقليمها. غالباً ما تكون الأطعمة المحلية المعروفة بقيمتها التغذوية العالية، ذات أهمية كبرى للاقتصاد المحلي، وهي تشكل عامل استقرار اقتصادياً وغذائياً للمنتجين والمستهلكين (33). أدت موجات الاستعمار والثورة الخضراء بدءاً من أربعينيات القرن العشرين إلى اختفاء الأطعمة التقليدية حيث ركّزت القوى الاستعمارية على الزراعة التصديرية في الدول المستعمَرة (محاصيل للتصدير) مما أدى إلى انهيار المحاصيل المحلية وبالتالي الأطعمة المحلية (أو المطبخ المحلي) وفقدان المعرفة الأصلية لإنتاج المحاصيل والأطعمة التقليدية (34). خلال التاريخ البشري خضع النظام الغذائي والحالة التغذوية للإنسان إلى سلسلة من التحولات الرئيسية بين الأنماط الواسعة من استخدام الطعام انعكست في تغيير قامته وتكوين جسمه وأنواع أمراضه. اليوم أدى النموذج المهيمن على النظام الغذائي العالمي إلى تحوّل عالمي ملحوظ نحو نظام غذائي غني بالدهون والأطعمة المصنعة وقليل الألياف، مع زيادة واضحة في الأمراض التنكسية التي تؤدي إلى تراجع وظيفة أو بنية الأنسجة أو الأعضاء المصابة وتسير بها نحو الأسوأ مع مرور الوقت. ارتفعت نسبة الوفيات بالأمراض غير المعدية إلى 70% خاصةً في الدول النامية وأدى تغريب Westernization نمط الحياة والنظام الغذائي في مجتمعات السكان الأصليين إلى زيادة انتشار الأمراض المزمنة. كان الطعام أداة أساسية في عملية الاستعمار التي أدت إلى تغييرات عنيفة في حياة المستعمَر، حيث ينفق الفقراء في الدول النامية – المستعمرات السابقة – أكثر من 80% من دخلهم على الغذاء ولذلك غالباً ما يعانون من سوء التغذية بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى الغذاء أو على الوصول إلى الغذاء الصحي (35). في العام 2018، سجّل المتوسط العالمي للغذاء الصحي البديل في 185 بلداً حول العالم ما معدّله 40.3 مع معدّلات أدنى في دول أميركا اللاتينية ودول الكاريبي (30.3) وبقي دون 45 في دول جنوب آسيا (يتراوح المؤشر بين 0 و100 التي تشير إلى غذاء صحي بالكامل) (36).

ad

 

 

أدت موجات الاستعمار والثورة الخضراء بدءاً من أربعينات القرن العشرين إلى اختفاء الأطعمة التقليدية حيث ركّزت القوى الاستعمارية على الزراعة التصديرية في الدول المستعمَرة

 

توجيه الأبحاث العلمية الزراعية

يهيمن نموذج نقل التكنولوجيا Transfer Of Technology (TOT) على البحوث الزراعية الوطنية والدولية. في نموذج البحوث هذا، تؤخذ كل قرارات البحوث الرئيسية من قبل «العلماء» أحادياً ومن دون مشاركة غيرهم من مزارعين أو مستهلكين أو مستفيدين آخرين. تُجرى هذه البحوث في المحطات البحثية أو في حقول المزارعين في ظروف مبسّطة خاضعة للرقابة، ويتم بعدها تعميم نتائج هذه البحوث عبر جهاز إرشادي لتطبيقها من قبل المزارعين. يميل البحاثة المتخصصون إلى اعتماد معيار واحد أو اثنين لقياس الأداء في أبحاثهم منها الإنتاجية أو مقاومة الآفات على سبيل المثال. لكن المزارعين القيّمين على نظام معقّد ومعرّض للمخاطر يعتمدون على معايير مختلفة ومتعددة أكثر في اختيار أنواع محاصيلهم أو تقنيات الزراعة أو إدارة مستجمعات المياه. ما زالت معدّلات الفشل مرتفعة في التقنيات الزراعية ضمن إطار نموذج الأبحاث TOT: غالباً ما تكون التقنيات غير مناسبة وغير مستدامة وحتى غير عادلة بسبب التركيز على شراء المدخلات والمكننة المكثفة خاصةً في بيئات فقيرة الموارد، أو أن الأصناف المحسّنة لم تأخذ في الاعتبار إلا الإنتاجية والآفات وأغفلت معايير أخرى مثل المذاق أو صفات الطهي أو غيرها من المعايير مثل تعقيد وتنويع المزرعة بغية تقليل المخاطر. خدم هذا النموذج TOT بشكل ممتاز الزراعة الصناعية والثورة الخضراء وأدت هذه البحوث الاختزالية وحزم المدخلات المكثّفة إلى رفع الإنتاج لكل وحدة من الأرض، لكن هذا النموذج فشل بالتوفيق بينه وبين أولويات واحتياجات الشرائح الفقيرة في المجتمع الريفي. لا يزال هاجس تسويق السلع يهيمن بقوة على البحوث الزراعية بدل المعارف البيئية والاجتماعية التي تسعى إلى التخفيف من احتياجات المدخلات (37). على صعيد المراكز البحثية، تسيطر المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية CGIAR على الأبحاث الزراعية العالمية وهي تضم أكثر من 15 منظمة بحثية دولية متخصصة حول العالم منها منظمة إيكاردا ICARDA التي كانت إدارتها العامة سابقاً في حلب. تمّ إطلاق هذه المجموعة في ستينيات القرن العشرين بهدف الترويج لـ«الثورة الخضراء» من بذور وأسمدة ومدخلات كيميائية. بحسب الموقع الرسمي، تقدّر محفظة الأبحاث السنوية للمجموعة CGIAR بحوالي 900 مليون دولار أميركي مع أكثر من 9 آلاف موظف يعملون في 89 دولة حول العالم. تُموّل المجموعة من قبل الحكومات الوطنية، منظمات التنمية والمؤسسات الخاصة، وهي تركّز أبحاثها بحسب ما تورد في «استراتيجية البحث والابتكار 2030» على تحوّل الأنظمة، مرونة أنظمة الأغذية الزراعية، والابتكار الوراثي. تقوم مؤسسة بيل وميليندا غايتس BMGF وهي مؤسسة «خيرية» تعود لبيل غايتس، بتمويل بعض نشاطات مجموعة CGIAR. تفيد مؤسسة BMGF بأن مجموعة CGIAR هي أكبر متلق في مؤسستها التي تبلغ قيمة محفظتها منذ إنشائها عام 2000 حوالي 40 مليار دولار أميركي مموّلة بالكامل من بيل غايتس وصديقه الملياردير وارن بافيت. منحت BMGF ما مجموعه 1.4 مليار دولار أميركي (23% من موازنتها) إلى مجموعة CGIAR منذ العام 2003 وحوالي 638 مليون دولار أميركي (11% من موازنتها) إلى منظمة «التحالف من أجل ثورة خضراء» في أفريقيا AGRA منذ العام 2006 وهي تعمل، أي BMGF، على دعم أبحاث «الثورة الخضراء». يمنح هذا الإنفاق المالي الكبير مؤسسة BMGF تأثيراً كبيراً على البحث الزراعي وبرامج التنمية وحتى على سياسات الدول. ويزداد الجدل العالمي حول نشاطات هذه المؤسسة من دعمها لبرامج الكائنات المعدّلة وراثياً، إلى تصنيف بيل غايتس شخصياً كأكبر مالك للأراضي الزراعية في الولايات المتحدة الأميركية، إلى إطلاق معهد بحثي Gates Ag One تابع لمؤسسة BMGF عام 2020 يدّعي تطوير البذور والمواد الكيميائية لإيصالها إلى المزارعين في أفريقيا، إلى زيادة في مؤشر نقص التغذية بنسبة 30% (بحسب منظمة الأغذية والزراعة FAO) في البلدان الأفريقية التي تدخلت فيها منظمة AGRA الممولة من BMGF، إلى الضغط باتجاه التقيد ببراءات الاختراع على البذور كشرط لتمويل المشاريع الوطنية، إلى الادعاء بمحاربة الجوع في دول الجنوب لكن عبر منح 80% من تمويلها إلى منظمات أوروبية وأميركية (38 و39).

ad

 

هذه أبرز نتائج سيطرة النموذج الحالي المهيمن على النظام الغذائي العالمي ويمكن إضافة العديد من النتائج أيضاً مثل ربط الغذاء بالوقود الأحفوري أو سيطرة الزراعات الأحادية أو هيمنة التصنيع الغذائي التجاري أو «دمقرطة الغذاء» أو غيرها من النتائج الكثيرة التي لا مجال لتفصيلها بالكامل في نص واحد.

 

…يتبع: بدائل النموذج المهيمن على النظام الغذائي العالمي

* أستاذ جامعي وناشط اجتماعي

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بعد الفيتو الامريكي على وقف القتل: خطوتان مجديتان

  ا. د. جورج جبور       الخطوة الأولى: *انتقال صلاحيات مجلس الأمن الى الحمعية العامة بموحب قرار التوحد من أجل السلم. يتخذ قرار ...