القاهرة | فيما تُسابق الحكومة المصرية الزمن لتحقيق استقرار مالي، قُبيل الانتخابات المقررة العام المقبل، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي، مطلع هذا الأسبوع، رفع الحدّ الأدنى الشهري للأجور للقطاع العام وقطاع الأعمال (من دون العاملين في القطاع الخاص) إلى ما يعادل 130 دولاراً، إلى جانب رفع علاوة غلاء المعيشة وإعفاء ضريبي إضافي لشريحة الموظّفين الدنيا، فضلاً عن توسيع المستفيدين من برنامج «تكافل وكرامة» الخيري لدعم الشرائح الأفقر إلى 5 ملايين شخص.

توقيت القرار وإعلانه في افتتاح إحدى القرى المحدَّثة ضمن برنامج «حياة كريمة» لتنمية البنية الأساسية، في محافظة بني سويف في صعيد مصر ذي الأغلبية الفقيرة، حيث ينحدر مئات العمال المصريين من ضحايا كارثة درنة الليبية، يعكس مساعي لتبريد استياء شعبي تجاوزت مؤشراته وسائل التواصل الاجتماعي، لتُظهره آراءُ ومواقفُ عدّةِ مؤيّدين تقليديين لجهاز الدولة، وشرائح تستنزفها مواجهة أسعار السوق العالمي، وسط غياب إنتاج محلّي يحفظ قيمة العملة ويكبح التضخّم (المستورد).

بالتوازي، يتواصل الضغط على الحكومة المصرية من جانب «صندوق النقد الدولي»، الذي أُجّلت مراجعته مرّتَين وستُجرى الشهر المقبل، للتحقّق من الالتزام المصري بطرح أصول الدولة للمستثمرين، مقابل تسليم باقي دفعات القرض، بشراكة «الضامن الإقليمي» الخليجي المتمثّل في الإمارات والسعودية، علماً أن الأولى اقتنصت موقع أكبر المستفيدين من الطروحات، بمسلسل شراء واستحواذٍ على أسهم وأصول عالية الربحية بأسعار منخفضة.

وفيما تجاهد القاهرة لتأمين الدولار، جمّدت إدارة جو بايدن 85 مليون دولار من معونة «كامب ديفيد» المرتبطة بملفّ «حقوق الإنسان»، بعد هجوم جديد شنّه السيناتور الديموقراطي، كريس مورفي، على الإدارة المصرية، عبر إفادة قدّمها أمام الكونغرس حول حالة «حقوق الإنسان والحريات السياسية» في هذا البلد. إلّا أنه بعد بضعة أيام على التجميد، حضر وزير الدفاع المصري، الفريق أول محمد زكي، وقائد المنطقة المركزية الأميركية، مايكل كوريلا، ختام مناورات «النجم الساطع» التي استضافتها مصر بمشاركة 19 دولة، والتي طالما مثّل إجراؤها أو عدمه انعكاساً لمدى استقرار العلاقات الثنائية أو اضطرابها. الجدير ذكره أن إدارة بايدن تعتمد سياسة فصل ملفات ومسارات متوازية مع مصر – تساوقاً مع إستراتيجيتها التي تقوم على أولوية تطويق الصين وضغط الخصوم الأصغر من دون فتح مواجهات – ولا سيّما وسط تقادم علاقة المؤسّستَين العسكريتَين الأميركية والمصرية تحديداً، واستقلالية البنتاغون نسبياً عن الرئاسة، واعتماده إستراتيجية يجدّدها دورياً، وبمحدّدات معيّنة لا تطابق بالضرورة محدّدات المؤسّسة السياسية.

في هذا الوقت، باتت واشنطن تلتمس المناورة الإستراتيجية المصرية الممتدّة إلى توسعة العلاقات مع روسيا، كما يظهر مثلاً عبر مشروع مفاعل «الضبعة» النووي الذي تعوّل عليه مصر لتوليد طاقة كهربائية للسوق المحلّي، وتوفير استخدام الغاز الطبيعي لتصديره إلى الخارج. وفي ما يبدو أشبه بانتهاج سياسة العصا والجزرة حيال تلك المناورة، أتى الإعلان عن مشروع «الممر الهندي» الاقتصادي، لربط جنوب آسيا بأوروبا عبر الهند وشبه الجزيرة العربية وفلسطين المحتلّة، والذي تجاهل مصر أو ربّما استبعدها، وفي الوقت نفسه، حديث نائبة المساعد لوزير الدفاع الأميركي، دانا سترول، عبر إحدى القنوات المخصصّة لمصر في شبكة «إم بي سي» السعودية، بخطاب تقليدي ونبرة معتدلة، لا يعكسان سخطاً أميركياً بشأن «حقوق الإنسان» قدْر الدعوة إلى توثيق التعاون وتحديثه.
داخلياً، تزايدت الأصوات المتناغمة مع آراء الرموز الليبرالية، والمطالِبة بإتاحة الترشّح أمام السيسي، وفتح المجال السياسي العام، والملمّحة إلى رفض ترشّحه – وبالتالي، بقائه رئيساً حتى 2030 -، وسط تعداد لأوجه الإخفاق (الاقتصادي تحديداً)، وتجاهل الدولة قواعد المنافسة مع القطاع الخاص في الأعوام الأخيرة.

لا تزال السلطة تتجاهل مطلب «الضمانات» بنزاهة الانتخابات، والذي يحظى بإجماع المعارضة على تعدّد كياناتها

ومن الخارج، غرّد محمد البرادعي، مؤسس حزب «الدستور» والمدير السابق لـ«الوكالة الدولية للطاقة الذرية» بأن الموقف يحتاج إلى «توافق وطني تفصيلي» مدني عسكري – ليبرالي – إسلامي، وفق تعبيره. وترافق تصاعد هذه النبرة مع محاكمة الرئيس لمجلس أمناء «التيار الليبرالي الحر»، هشام قاسم بتهمة سبّ عناصر شرطة أثناء استجوابه في دعوى أقامها ضدّه وزير القوى العاملة السابق، كمال أبو عيطة، بعد تغريدة شككت في نزاهة الرئيس وأحد مساعديه في ملفّ الإعلام.
وتحت عنوان «نداء من أجل الوطن»، وجّه المتحدّث باسم «التيار الحر» وعضو مجلس النواب، عماد جاد، دعوة «شخصية»، إلى تولّي مستشار الرئيس لـ«التخطيط الإستراتيجي وإدارة الأزمات»، الفريق محمود حجازي الرئاسة باعتباره «الرئيس الأمثل»، لما وصفه بـ«فترة انتقالية آمنة إلى السوق الحر الحقيقي»، عبر إنهاء تداخل مؤسسة الجيش بالاقتصاد وتعدّد المؤسسات ذات الأدوار الاقتصادية، على نحو تدريجي، بقيادة «أحد عناصر دولاب الدولة» – عسكري سابق أو رئيس محكمة -، ما يوفّر الثقة والتفاهم مع الجيش بشأن تصفية شركاته. والجدير ذكره أن جاد هو أستاذ العلوم السياسية وأحد أبناء مؤسسات الدولة البحثية والأكاديمية، وهو يمثّل اليمين الإصلاحي التقليدي الذي يرفع صوته الآن ضدّ الاستبعاد في الاقتصاد والسلطة، وبات يقرّ برنامج الليبرالية الجديدة ضمنياً، برفضه الدور الاقتصادي للدولة، ومطالبته بأن تغذّي تصفية أصولها وإخراجها من الملكية والسوق القطاعَ الخاص، بمعزل عن المسؤولية الاجتماعية، ووسط تركّز حاد للثروة والأعمال يخدم الشرائح الأضيق المقرّبة من النظام. أمّا حجازي، فهو صهر الرئيس، الذي تولّى منصب رئيس الأركان ومدير الاستخبارات العسكرية سابقاً، فيما أتى تقليده منصب الاستشارية ووسام الجمهورية من الطبقة الأولى كـ«ترضية» وفق ما ردّد مراقبون، بعد إقالته من منصبه، إثر هجوم إرهابي أسفر عن مقتل العشرات من قوات الشرطة في الصحراء الغربية، عام 2017.

قوبلت هذه التحركات بصمت تام من السلطة عن مطلب «الضمانات» بنزاهة الانتخابات، والذي يحظى بإجماع المعارضة على تعدّد كياناتها، ويطرحه خطابها بصفته شرطاً للتعاطي مع الانتخابات من الأساس، ووُثّق في مخرجات «الحوار الوطني» التي تلقّاها الرئيس منذ أسابيع. في كلّ الأحوال، يبدو أن الدولة تمرّست في جمع الأصوات الانتخابية، بتفعيل شبكة علاقات اجتماعية وروابط تقليدية وجِهَوية، وآلية توزيع معونات عينية، تتكامل وشبكات مصالح صغيرة، وسيطرة الأمن السياسي، ونشاط كبار التجار ورجال الأعمال المقرّبين من السلطة. بالإضافة إلى أحزابها الجديدة، المتّصلة بنفوذ «الحزب الوطني» المنحلّ، وكيانات مثل «التحالف الوطني للعمل الأهلي»، الذي دعم 30 مليون مستفيد العام الماضي بعمل خيري مستقلّ، تحمّله معادلة الشرعية بعداً سياسياً، بضمان الدولة توفير السلع الأساسية الأكثر حيويةوتوزيعها.

عام 2014، بلغ عدد سكان مصر 95 مليون نسمة، شاملاً كتلة تصويتية بلغت نحو 53 مليونا، فيما بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية 47%، أي 25 مليوناً، وسط الزخم الذي عكسه الظرف آنذاك، وجهود جهاز الدولة التي أثمرت أوسع تحالف اجتماعي استطاع حشده، فحصد السيسي 23.4 مليون صوت مقابل نحو مليون صوت باطل، ونحو نصف مليون لمرشح المعارضة الذي أقرّ ضمنياً بأن مشاركته كانت لتجنيب البلاد تداعيات محتملة لغياب الشقّ الدولي لشرعية الحكم. ولاحقاً، في انتخابات 2018، عندما كان التعداد السكاني حوالي 103 ملايين نسمة، شكّلت الكتلة التصويتية نحو 59 مليوناً، لكنّ نسبة المشاركة انخفضت إلى 41%، بإجمالي 24 مليون صوت، 21.5 مليون منها للرئيس، بينما زادت الأصوات الباطلة إلى 1.5 مليون، بانحسار الزخم وزوال ضرورة «إنقاذ الاستقرار والدولة» عند قطاعات تقليدية شكّلت أعمدة شعبية لتحالف «30 حزيران»، وبعودة البديهة المستقرّة بأن الصندوق الانتخابي مَظهر إجرائي، يرتّب الحكم نفسه بَعده في أماكن أخرى.