أحمد الدرزي
كان من المتوقع بعد انتهاء الحرب أن تتجه الولايات المتحدة من جديد إلى إعادة محاولاتها لبناء “الشرق الأوسط الكبير”، انطلاقاً من الجغرافيا السورية.
سبعة عشر عاماً مضت على اندلاع حرب تموز، التي عايشناها كسوريين لحظة بلحظة، كشركاء فيها عسكرياً بشكل غير مباشر، وإنسانياً واجتماعياً عبر العمل على استيعاب اللبنانيين الذين نزحوا في اتجاه سوريا التي تشكِّل لهم قاعدة خلفية آمنة، فكانت التجربة الأهم في تاريخ سوريا المعاصر منذ أن تحدَّدت بجغرافيتها الحالية، بعد ما دفع البريطانيون والفرنسيون إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية المتآكلة.
وعلى الرغم من أن هذه الحرب كانت بين حزب الله و”إسرائيل” ظاهرياً، فإنها في واقع الحال، كانت مواجهة بين نظامين متناقضين، في مرحلة من أصعب المراحل في تاريخ المنطقة المعاصر، بعد اجتياح الولايات المتحدة للعراق عام 2003 في إطار إعادة تشكيل المنطقة، ضمن سياقات جديدة تُثبِّت عبرها واقعاً جديداً بالتعريف الذي عبَّرت عنه وزيرة الخارجية الأميركية حينها كونداليزا رايس بقولها: “نحن نشهد ولادة شرق أوسط جديد”، وهو المشروع الذي اطَّلع عليه رئيس الوزراء التركي آنذاك مباشرةً، من الرئيس الأميركي جورج بوش الابن خلال رحلته الشهيرة إلى واشنطن، مع أكبر وفد تركي، في 28 كانون الثاني / يناير 2004، بعنوان “الشرق الأوسط الكبير”، الذي يمتد من إندونيسيا إلى المغرب مروراً بآسيا الوسطى والقوقاز، وذلك في خطوة استباقية لمنع الصين وروسيا من تصاعد مكانتهما الدولية، ومحاصرة إيران، التي تشكل الموقع الجيوسياسي الأهم لنجاحها في ذلك.
كانت هناك جملة من الدوافع لاختيار الولايات المتحدة هذه البقعة من العالم للبدء ببناء “الشرق الأوسط الكبير”، فرهانها على إسقاط العراق ثم التمدد نحو سوريا تعثر بعد نجاح المقاومة العراقية في استنزافها بشرياً وعسكرياً ومالياً، وهي التي اعتمدت على سوريا وإيران، كقاعدتين أساسيتين لنجاحها واستمرارها، وهي إن استطاعت الانتصار في هذه المواجهة، فإنها ستضمن السيطرة على المنطقة الممتدة من أفغانستان على حدود الصين وآسيا الوسطى وصولاً إلى شرق المتوسط، بالإضافة إلى دفع إيران للعودة إلى اصطفافها، مرغمةً، تحت مظلة السيطرة الأميركية، وهذا ما دفعها إلى منع توقف الحرب بعد أسبوع من اندلاعها، رغم إدراك الإسرائيليين بأن مسارات الحرب ليست لصالحهم، ورغم ما تسبب به استمرارها من تآكل هيبة القوة والردع لـ”الجيش” الإسرائيلي.
كان من المتوقع بعد انتهاء الحرب أن تتجه الولايات المتحدة من جديد إلى إعادة محاولاتها لبناء “الشرق الأوسط الكبير”، انطلاقاً من الجغرافيا السورية، التي لعبت عبر التاريخ وما تزال، الدور الأهم في تحديد القوى الإمبراطورية المهيمنة منذ بداية تشكل الإمبراطوريات، وهي بواقعها المعاصر تُشكِّل الحلقة الأضعف في المحور الجغرافي، الممتد من إيران إلى شرق المتوسط، كما أن بنيتها الاجتماعية والسياسية تجعلها قابلة للتدخل الواسع، اعتماداً على هوية الجماعات الفرعية، دينياً وطائفياً وإثنياً، وامتداداتها الإقليمية.
اتخذت السياسات الأميركية مسارين، الأول إغراء سوريا بالانفتاح على تركيا (العمود الفقري للشرق الأوسط الكبير)، بالإضافة إلى قطر، وهما البلدان اللذان لعبا دوراً هاماً في الانفراجات الاقتصادية والسياسية الإقليمية والدولية لسوريا، ولكن هذا المسار أَسقط بعد رفض مرور أنابيب الغاز القطرية في اتجاه أوروبا، عبر سوريا وتركيا، لإسقاط سلاح الغاز الروسي في أوروبا.
المسار الثاني البديل حال فشل المسار الأول، هو اعتماد مقررات لجنة حكماء “الناتو”، برئاسة مادلين أولبرايت، والتي تم تشكيلها بعد مؤتمر “الناتو” في ستراسبورغ شباط/ فبراير 2009، وأُخذ بخطتها، بعنوان “الباب المفتوح” في مؤتمر “الناتو” في لشبونة تشرين الثاني/ نوفمبر 2010، والذي كُلِّفت فيه كلٌ من تركيا وفرنسا بالإشراف على تطبيق الخطة في سوريا كمسار نهائي في المنطقة العربية، ابتداءً من تونس في شمال أفريقيا، كنقطة بداية لانتقال الحراك الإسلامي المسلح نحو العراق وبقية الدول للوصول إلى شمال غرب الصين، حيث ينشط المسلمون الإيغور، وإلى القوقاز وعمق روسيا باستقطاب المسلمين وخاصةً من الإثنية التركية.
على العكس من حرب تموز، التي انحصرت فيها المواجهة بين حزب الله و”إسرائيل”، فإن الحرب في سوريا كانت أوضح بمعالمها، بفعل العدد الكبير للدول التي تدخلت فيها، وكان واضحاً أن الولايات المتحدة هي من تقودها عبر حلف “الناتو”، وفي طليعته تركيا المسؤولة عن أكثر من 70 % من الأعمال العسكرية، بدعمها المباشر للمجموعات الإسلامية المسلحة بكل عناوينها، وهذا ما دفع بإيران وروسيا إلى التدخل العسكري المباشر دفاعاً عن أمنهما القومي، بالإضافة إلى الصين التي تدخلت سياسياً مع روسيا في مجلس الأمن الدولي لمنع إعطاء الشرعية القانونية لحلف “الناتو”، لتكرار تجربة سقوط ليبيا.
كما تختلف الحرب في سوريا عن حرب تموز بامتدادها الزمني الطويل الذي تجاوز اثني عشر عاماً، وتداخلها مع الحروب الاقتصادية المستندة إلى عقوبات غربية واسعة جداً، تزداد حدَّة مع كل فشل لخطة “الباب المفتوح”، وخاصةً بترافقها مع غياب شبه كلِّي لدورة الإنتاج الاقتصادي الطبيعي، وحلول الاقتصاد الموازي المُرهِق، كبديل عنه، ما زاد من الضغوط المعيشية على السوريين، فارتفع مستوى الفقر إلى أكثر من 90 % من السوريين.
قد لا تبدو هناك ملامح لنهاية هذه الحرب بأبعادها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، فالصراع الدولي على طبيعة النظام الدولي لمّا ينتهِ بعد، وقد يأخذ متسعاً من الوقت أكثر من قدرة السوريين في الداخل والخارج على تحمله، وهذا الأمر يحتاج إلى التعاطي معه من زاوية مختلفة، تدفع في اتجاه سياسات داخلية لا تنسجم مع السياقات السابقة، التي لا تصلح مع طبيعة الصراع غير المحدود.
سيرياهوم نيوز-الميادين1