آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب الأسبوع » “دراسات في الأدب والترجمة” لانطون بافلوفيتش تشيخَف

“دراسات في الأدب والترجمة” لانطون بافلوفيتش تشيخَف

 

 

د.ابراهيم استنبولي

 

لقد تَزامنَ إِبداعُ الكاتب الروسي الكبير أنطون بافلوفيتش تشيخَف مع نهاية القرن التاسع عشر. فقد وُلِد تشيخَف في عام 1860، أي إنَّ ولادته تطابقت عملياً مع إصلاح عام 1861، الذي تمَّ بموجبه إلغاء نظام القنانة في روسيا القيصرية وما رافق ذلك الإصلاح من مفاعيل اجتماعية عميقة؛ بكلمة أخرى، لقد تبلورت شخصية الكاتب في حقبة ما بعد الإصلاح، تلك الحقبة التي نجح تشيخَف في تصوير ما يجري فيها من أحداث وتحولات بشكل رائع.

وإنه لمفيد حقاً أنْ نتتبَّعَ مسيرةَ الشخصيات في قِصصه، مسيرة أبطالها المُضحكين والتراجيديين، الفرحين والمُتْعَبين، الأغنياء والفقراء. وما يثير الدهشة ذلك التنوع الشديد في نماذج الشخصيات والمواقف الحياتية التي استطاع الكاتب أنْ يعكسها. كما إنَّ لغةَ تشيخَف تختلف جذرياً عن لغة الكُتَّاب الآخرين. فلغتُه جميلة لكن أهم ما فيها أنها لغة مفهومة واضحة وسهلة على المتلقي، وهي لغة تكشف على الفور عن هدف الكاتب. لكن بساطةَ الكلمة ووضوح اللغة يشيران في الدرجة الأولى إلى التجربة الحياتية العظيمة للكاتب، الذي عَكَسَ بشكل رائع خصال الشعب بكل فئاته وشرائحه ابتداءً بالأقنان وانتهاء بالأشخاص المُقرَّبين من البلاط.

وهنا يلتقي تشيخَف في موضوعات إبداعه مع الكتاب الروس الآخرين، خصوصاً مع دَسْتَييفسكي وتورغينيف واستروفسكي.. لكن تشيخَف ينفرد بأسلوبه وبوجهة نظره إلى درجة عميقة جداً. إنه كاتب درامي عظيم.

ثمة قصص للكاتب يحبُّها القارئ ويعتبرها أكثرَ قرباً إليه ويفهمها أكثر من غيرها: “وفاة مُوَظَّف”، “إيونيتش”، “مرآة المَسخَرة”، “العروس”، “عن الحبِّ”. أمَّا قصة “موت موظف” فتُعتَبر من أروع القصص وأحبها إلى قلوب القراء.. وفيها تنتصر عِبادةُ الرتب على حياة الموظَّفِ. قد يكون ثمة مبالغة فيها بعض الشيء ولكنها ليست بعيدة عن الواقع كثيراً، كما إنَّ أخلاقَ الموظفين آنذاك كانت قريبة من ذلك.

أما في قصة “العروس” فيكشف الكاتبُ عن وضع المرأة في المجتمع.. فالعروس ناديا ضَمَنَتْ لنفسها حياةً رغيدة بزواجها من رجل هادئ وذكي وميسور الحال، لكنها تتساءل في سرِّها باستمرار: “وماذا بعد؟”. إذْ بعد ذلك ستبدأ حياة مُمِّلة بدون أفق. فتقول لها أمُّها: “لن تلاحظي كيف أنَّكِ نفسك أصبحتِ عجوزاً وأنَّ لديك ابنة عنيدة مثلما عندي”. فَتُصابُ ناديا بالذعر من هذه الفكرة وتختار متابعة التعلُّم والدراسة وأنْ تُبرهن على جدارتها في المجتمع.

حقاً، ثمة الكثير مما هو مشترك بين موضوعات قصص تشيخَف وبين الموضوع المتعدد الوجوه لراوية دسْتَييفكسي “الجريمة والعقاب”. فهنا وهناك يجري تصوير مصائر الناس “المُهانين والمُضطَهَدين”، كما يتمُّ الغوصُ في العلاقات بين الناس وفي موضوع الحب وتشكّل الشخصية، إلى جانب وضع المرأة في المجتمع وغير ذلك من المسائل الأخلاقية.

أما مسرحية “بستان الكرز” فتناقش مسألة اجتماعية في غاية الأهمية: على مَن يقوم مستقبل روسيا؟ فهذه طبقة النبلاء تتخلى عن كونها الطبقة القائدة، لكن مستقبل روسيا لا يمكن أن يقوم على أكتاف لوباخين، أحد أبطال المسرحية الذي يقيِّم نفسَه كما يلي: “أبي كان فلاحاً، غبياً وأبله… لم يهتم بي وبتعليمي بل كان يضربني بالعصا وهو ثمِل. ومن حيث الجوهر، أنا أيضاً مثله بليد وأبله..”. فهؤلاء الناس جَهَلة على الرغم من كونهم عمليين، ولذلك لا يجوز السماح لهم بالوصول إلى المناصب العليا.

وأمَّا قصة “العنبر رقم 6” فعمل إبداعي عميق. كما إنَّ المسألة التي تناقشها قاسية – إنها مسألة الفَقْرِ المُدقِع في روسيا والبؤس المنتشر بين الناس، ومسألة المصائر المحطّمة للمرضى العقليين، الذين لم يصبحوا بالطبع مرضى بسبب معيشتهم الجيدة.

من الصعب جداً أنْ نتخيِّل المسرح الروسي من دون مسرحيات تشيخَف: “الشقيقات الثلاث” و”البجعة” و”بستان الكرز”- فهذه الأعمال المسرحية الكلاسيكية معروفة في جميع أنحاء العالم.

لا جدال أبداً في أنَّ قصص ومسرحيات انطون بافلوفيتش تشيخَف تحتفظ براهنيتها وبدورها التنويري الرفيع. ونحن نتعلَّم الحياة على أساس تجربته الإنسانية العميقة التي عكسها بصورة رائعة في كتاباته.

إنه كاتب من مجموعة الكُتَّاب الرائعين الذين نحبُّهم ونحتاجهم باستمرار. مثله مثل بوشكِن ودَسْتَييفسكي وبونين وبولغاكَف وغيرهم.

 

من كتاب “دراسات في الأدب والترجمة”

صادر عن دار الأمل الجديدة في دمشق عام ٢٠٢٢

(موقع سيرياهوم نيوز1)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

“فلسطين قضية وطنية”.. كتاب يصون ذاكرة المغاربة في دعم فلسطين

“دار الملتقى” في المغرب تصدر كتاب “فلسطين.. قضية وطنية”، الذي يوثّق كتابات ومواقف أعلام مغربية من فلسطين والقضية الفلسطينية.   صدر حديثاً عن “دار الملتقى” ...