آخر الأخبار
الرئيسية » تربية وتعليم وإعلام » قافلة الرحيل والشهداء طويلة: الإعلام اللبناني واصل «التخبيص» والنفخ في نار الفتنة

قافلة الرحيل والشهداء طويلة: الإعلام اللبناني واصل «التخبيص» والنفخ في نار الفتنة

نزار نمر

 

قافلة الرحيل والشهداء طويلة: الإعلام اللبناني واصل «التخبيص» والنفخ في نار الفتنة

خسر الإعلام اللبنانيّ أحد أهمّ أعمدته الكاتب والصحافيّ والناشر طلال سلمان

 

قبل الغوص في كلّ الأحداث التي طبعت عام 2023، تجدر الإشارة إلى أنّ هذا العام كان ظالماً بحقّ الجسم الصحافي والإعلامي. منذ شهره الأوّل خطف إحدى أواخر إعلاميّات العصر الذهبيّ للإعلام اللبنانيّ صونيا بيروتي، قبل أن يكمل على «صوت الذين لا صوت لهم» طلال سلمان، والصحافيّ الياس الدَّيري (زيّان) والصحافية جيزيل خوري. كأنّ كلّ ذلك لم يكن كافياً، أتى العدوان الصهيونيّ الإجراميّ ليستهدف صحافيّين لا يقومون سوى بمهنتهم، فأضيف إلى قافلة شهداء الصحافة كلّ من المصوّر في وكالة «رويترز» عصام عبدالله، والمراسلة في قناة «الميادين» فرح عمر ومصوّرها ربيع معماري، منضمّين إلى أكثر من مئة صحافيّ راحوا شهداء الإجرام الصهيونيّ في غزّة. بدأ 2023 بهدوء على الطريقة اللبنانيّة، فكان أقصى ما تعطيه بعض القنوات أهميّة هو مبيت بعض النوّاب في مجلس النوّاب اللبنانيّ لاعتقادهم أنّ ذلك سيسرّع في انتخاب رئيس للجمهوريّة. في بداية شباط (فبراير)، روّجت mtv وLBCI لوثائقيّ «حزب الله والتحقيق الممنوع» الذي عرضته قناة «فرانس 5». ادّعت القناة الفرنسيّة أنّه سيفضح مَن فجّر مرفأ بيروت ودور «حزب الله» المزعوم في تجارة المخدّرات في أميركا اللاتينيّة، واستقى الوثائقيّ معلوماته من الـCIA ووزارة الخزانة و«معهد واشنطن»، وأتى هزيلاً لم يلاقِ حملة الترويج له؛ جلّ ما فعله كان إعادة علك قصّة «مشروع كاسندرا» الذي أطلقته سابقاً «إدارة مكافحة المخدّرات» التابعة لوزارة العدل الأميركيّة.

لم يتسنَّ للقنوات التعليق على الوثائقيّ بعد عرضه. في الليلة ذاتها، كُسر الهدوء إلى غير رجعة. فجر السادس من شباط، وقع الزلزالان المدمّران اللذان ضربا منطقة شرق المتوسّط، فأتيا مع الهزّات الارتداديّة بدمار هائل على سوريا وتركيا وراح ضحيّتهما المئات، إضافة إلى دمار جزئيّ في دول محيطة بما فيها لبنان وفلسطين والعراق وقبرص وأرمينيا وإيران. الحدث تصدّر نشرات الأخبار والبثّ المباشر على القنوات اللبنانيّة. وكما هي الحال في لبنان في كلّ أزمة، خرجت مجموعة من «الخبراء» و«المتخصّصين» لرمي تحليلاتهم العشوائيّة من دون ضوابط ولا التأكّد من صحّة معلوماتهم من مراجع علميّة مختصّة، فيما وجد عدد من الصحف والمواقع الإخباريّة الفرصة سانحة لتوتير الناس وبثّ الرعب في نفوسهم من أجل الـ«رايتينغ»، عبر نشر أخبار تخوّف من تسونامي وزلازل جديدة محتملة، وأخرى لزلازل تحصل بشكل طبيعيّ ويوميّ حول العالم على أنّها إشارة حول «تكاثر» الزلازل.

افتتح عصام عبدالله قائمة شهداء الإجرام الصهيونيّ في لبنان

وفي أواخر الشهر نفسه، تعرّض خادم في مبنى «الوكالة الوطنيّة للإعلام» للسرقة وعليه ثلاثة ملايين صورة تعود إلى تأسيس الوكالة عام 1961. ورغم فداحة الأمر بالنسبة إلى اللبنانيّين عموماً والجسم الصحافيّ خصوصاً، تعاطت الوسائل الإعلاميّة باستخفاف ولا مبالاة، هذا إن تناولته أساساً. مرّ خبر السرقة مرور الكرام، فاكتفت القنوات بنقل التفاصيل الجنائيّة بشكل عابر، من دون أيّ لفتة إلى ماهيّة المسروقات ومحتوياتها.

عام 2023 كان ظالماً أيضاً بالنسبة إلى النساء والأطفال في لبنان، فتكشّفت تفاصيل جرائم متعدّدة طالتهم، وكان لافتاً حصولها في مدّة زمنيّة متقاربة. شغلت هذه الجرائم الرأي العامّ وغطّت أخبارها النشرات، فيما استمرّت ظاهرة عدم احترام الخصوصيّات ونشر صوَر الجرائم، ولا سيّما على المواقع الإخباريّة. البداية كانت مع الجريمة التي راحت ضحيّتها منى الحمصي على يد طليقها في طرابلس، فشغلت المشهد الإعلاميّ اللبنانيّ، قبل أن تُضاف إليها الجريمة البشعة في المنية بحقّ الطفلة لين طالب. وتجاهلت القنوات الخبر لأيّام رغم هذا اللغز والمطالبة الشعبيّة بمعرفة حقيقة ما حصل. جريمة أخرى ملأت الشاشات في 2023، كانت تعنيف أطفال في إحدى الحضانات في جدَيدة المتن على يد مربّية. فوق ذلك كلّه، عُثر على طفلة مرميّة في كيس للقمامة في طرابلس بسبب جرّ كلب شارد للكيس الذي كانت فيه، وبعد ذلك بيوم عُثر على طفلَين مرميّين في كرتونة في نهر إبراهيم. أمام هذا المشهد، ارتأت القنوات أن تقيم حملات توعويّة في نشرات أخبارها، بالإضافة إلى تناول الجرائم وسبل حماية الأطفال في البرامج السياسيّة والاجتماعيّة التي تعرضها.

 

«الساعة» خربت البلد

وفي أواخر آذار، اندلعت أزمة من لا شيء أجّجها الإعلام اللبنانيّ عبر إسباغها بانقسام طائفيّ كاد أن يودي بالبلد إلى حالة هو بغنى عنها. في جلسة «دردشة» بين رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، اتُّخذ القرار، بطلب من الأوّل واستجابة من الأخير، بتأجيل موعد تقديم الوقت ساعة واحدة، وقد اعتاد اللبنانيون أن يكون ابتداءً من منتصف ليل آخر يوم أحد في شهر آذار. حجّة الرئيسَين كانت الصوم خلال شهر رمضان، علماً أنّ التوقيت الهجريّ لا يتأثّر بالتوقيت الشمسيّ. لكنّ القنوات، ولا سيّما mtv وLBCI وOTV وبشكل أقلّ «الجديد»، ضخّمت أمراً لم يكترث له أحد بدايةً، إذ اقتصرت الانتقادات الأوّليّة على المصاعب التقنيّة في عدم تغيير التوقيت، وأعلاها حدّةً لم يتعدَّ الحدّ السياسيّ وشجب كيفيّة اتّخاذ شخصَين قراراً بحجم بلد بعشوائيّة ومن دون الرجوع إلى أحد. هكذا، رفعت هذه القنوات سقف التحدّي، مستخدمةً تبريرات منطقيّة لأزمة مفتعَلة تحمل في طيّاتها تطييفاً مقيتاً، ووضعت التوقيت على الشاشة بخطّ كبير مع استخدام عبارات مثل «المجتمع الدوليّ» و«العولمة». النتيجة كان تضييع الناس وإلهائهم بأمور لا معنى لها وتقسيمهم في مشهد لا يحدث إلّا في لبنان!

انقسام آخر في 2023 كانت بطلته بعض القنوات، تمحور حول اللجوء السوري وتداعياته على لبنان. من جديد، اعتُمدت قاعدة «حقّ يراد به باطل». فانتقاد اللجوء حقّ إذا ما اقترن بإثباتات علميّة حول الضغط الذي يشكّله عدد معيّن من اللاجئين، أيّاً كانت هويّتهم أو انتماءهم، على البنى التحتيّة في البلد المضيف مثلاً. لكنّ القنوات المهيمنة صوّرته كأنّه المصيبة الوحيدة في البلد، وأقامت حملة عليه لأيّام في أيّار (مايو). ومرة أخرى، أطلّ مارسيل غانم (MTV) برأسه، الذي ألقى خطاباً هاجم فيه القاضية غادة عون، ليهاجم هذه المرة اللاجئين بطريقة فوقيّة وعنصريّة، وارتأت قناته الهجوم على سوريا في عزّ الانفتاح العربيّ عليها، في محاولة منها لإثبات أنّها لم تتأثّر بالاتّفاق السعوديّ – الإيرانيّ، وكذلك فعلت LBCI في نشرات أخبارها. في المقابل، وصف بعض الصفحات التي تنعت نفسها بـ«المستقلّة» كلّ مَن يطالب بعودة اللاجئين بأنّه «عنصريّ». النتيجة: بقاء اللاجئين، واستخدامهم ورقة في حروب سياسيّة، وانقسام انعكس في الشارع حوادث كما في الدورة وغيرها.

في أيّار أيضاً، برز ملفّ استجواب القاضية الفرنسيّة أود بوروزي لحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة وإصدار مذكّرة توقيف دوليّة بحقّه، ولم تكن قد انتهت ولايته بعد، أي إنّ القنوات المهيمنة كانت في حينه مستمرّة في الدفاع عنه قبل أن تغسل يدها منه كلّياً بعد تركه مقرّ «المركزيّ» في الحمرا. هكذا، استنفرت القنوات المهيمنة وباتت «فجأة» تخشى «التدخّلات الخارجيّة»، هي التي لم تألُ جهداً في التسويق لكلّ أنواع التدخّل الخارجيّ أو على الأقلّ المساهمة في ذلك، بدءاً من الدعوة إلى «وصاية دولية» والتهويل من «إغضاب» الولايات المتّحدة و«المجتمع الدوليّ» وصولاً إلى عدم انتخاب رئيس «لا يوافق عليه» الأخير، وحتّى الدعوة إلى التطبيع مع العدوّ في عالم ما قبل «طوفان الأقصى»! في السياق، برزت «الجديد» كمدافع أوّل عن سلامة، ووصل جنونها في إحدى المقدّمات حدّ ربط القاضية الفرنسيّة بـ«العونيّين» ومهاجمتهم معاً! واعتمدت «الجديد» وmtv وLBCI وNBN السرديّة التي تسلّح بها محامو سلامة، معتبرةً الخطوة غير قانونيّة ومستسهلةً اتّهام فرنسا بأنّها ترغب في فرض وصاية على لبنان. في المقابل، كانت OTV تحتفل بالاستجواب والمذكّرة.

في أواخر الشهر نفسه، برز خبر منع إحدى السيّدات من النزول إلى شاطئ صيدا بسبب ارتدائها المايوه، فاستغلّته القنوات المهيمنة لتأجيج الانقسام الطائفيّ من جديد. وصودف أنّ تسعير الحملة حول الموضوع كان في اليوم نفسه من تنفيذ «حزب الله» مناورةً عسكريّة في عرمتى على مرأى صحافيّين حول العالم، ما أعطى القنوات حجّة تستخدمها في تحريضها الطائفي، ولا سيّما mtv وLBCI اللتين ربطتا موضوع صيدا بالمقاومة. مجدّداً، استُخدمت قاعدة «حقّ يراد به باطل»، فاعتبرت mtv ألّا دولة بل «دويلات» يحكمها «المتشدّدون»، فيما ربطت LBCI عبارة «سنمنع» التي قالها الشيخ حسام العيلاني في إشارة إلى ملابس السباحة، بعبارة «سنعبر» التي قالها رئيس المجلس التنفيذيّ في «حزب الله» هاشم صفيّ الدين في إشارة إلى فلسطين، قافزةً إلى المقارنة مع دول خليجيّة راحت تمدح بها وتقول إنّ على لبنان التعلّم منها.

في أواخر أيّار أيضاً، أُعلنت بيروت «عاصمةً للإعلام العربيّ»، فاحتفلت وزارة الإعلام مع وسائل الإعلام اللبنانيّة بالإعلان تحت شعار «هنا بيروت»، وهو شعار لا يزال ظاهراً على شاشة «تلفزيون لبنان» حتّى اليوم. واعتبرت كلّ الوسائل الإعلان إنجازاً لها كونها «جزءاً لا يتجزّأ» من الإعلام اللبنانيّ، مغتنمةً الفرصة لتلميع صفحتها و«تجديد ثقة» متابعيها. صحيح أنّ بيروت لا تزال أفضل من غيرها من الدول العربيّة في ما يتعلّق بالحرّيّات الإعلاميّة، لكنّ احتفال كلّ وسائل الإعلام بالأمر مفارقة مثيرة للسخرية، وخصوصاً في منتصف عامٍ مثل 2023 مليء بـ«التخبيص» الإعلاميّ!

 

تطبيع وهستيريا «باربي»

حزيران (يونيو) كان شهراً «تطبيعيّاً» بامتياز، دشّنته LBCI باستضافة الصحافيّة ماريا معلوف التي تجاهر بصهيونيّتها ضمن برنامج «المجهول» الذي يقدّمه الإعلامي رودولف هلال، متحدّيةً في ذلك كلّ الحملات التي قامت ضدّ استضافة معلوف ودعت إلى عدم بثّ الحلقة. أُعطيت معلوف المجال لتبرير نفسها وشرح «وجهة نظرها» حول «الانفتاح» وعدم لحاقها بالرأي السائد، في تبريرها للتطبيع مع العدوّ. وليكتمل المشهد، أتى بعد أيّام خبر منع الصحافيّة الكويتيّة الداعمة للصهيونيّة فجر السعيد من دخول الأراضي اللبنانيّة بسبب مذكّرة توقيف بحقّها من الأمن العام، فهبّ كلّ ما هنالك من وسائل إعلاميّة وصفحات وبعض الجهات السياسيّة لاستنكار الأمر بطريقة مفتعلة ومضخّمة وخبيثة واعتباره «تعدّياً على حرّيّة الصحافة» و«حرّيّة الرأي» وربطه بـ«حزب الله، علماً أنّ السعيد منبوذة حتّى في بلدها حكومةً وشعباً!

 

بحلول آب (أغسطس)، بدأ الصخب يتخذ منحىً أكثر حدّة. إذ غطّت أحداث عين الحلوة الشاشات مع ما تسبّبت به من تبعات على أهالي المخيّم وجواره في صيدا، إضافة إلى التحريض على الفلسطينيّين الذي قام به بعض وسائل الإعلام، وهي الوسائل ذاتها التي كانت تحرّض على اللاجئين السوريين. لم يأخذ من حيّز هذه الأحداث سوى الذكرى الثالثة لانفجار مرفأ بيروت ومن ثمّ خروج «الربّان الحكيم» (كما وصفته صحيفة «النهار») رياض سلامة الباهت من الحمرا بعد انتهاء مهامّه، محاطاً بمشهد «زفّة». في السياق، بثّت LBCI تقارير من إعداد ليا فيّاض على أيّام عدّة، تناولت فيها ولاية سلامة من منظور برّأه وتضمّن رسائل سياسيّة ضدّ جهات معيّنة، وكذلك فعلت «الجديد» من حيث تبرئة سلامة.

كلّ هذا ولم تكن «سنة» آب إلّا في بداياتها. في يوم من الأيّام، قرّر وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال محمّد وسام المرتضى، من تلقاء نفسه، تسطير كتاب إلى وزارة الداخليّة والأمن العام والنيابة العامّة التمييزيّة، لمنع عرض فيلم «باربي» في الصالات بدعوى «أنّه يروّج لأنماط اجتماعية تتنافى مع الدين والقيَم» بحسب الوزير. انقسم الإعلام من جديد، بين جماعة «حقّ يراد به باطل» التي ربطت الأمر، على طريقتها المعتادة، بالمقاومة، وأخرى مؤيّدة للأخيرة «أيّدت عقلها» بالسخافات وشنّت حملة على الفيلم وكأنّه أكبر مصائب البلد. في هذه الفترة، زاد التشنّج والانغلاق إلى مستويات هستيريّة، ووصل حدّ القبض على الكوميديّ نور حجّار بسبب اسكتش كوميديّ عمره 5 سنوات، وسحب وزير التربيّة أحد الكتب المدرسيّة بسبب رسمة لقوس قُزح فيه وسحب أحد الأفران الـ«رينبو كيك» عن رفوفه، وتقديم بعض النوّاب مشروع قانون يجرّم المثليّة، وإجبار إحدى الحانات في جونية على إغلاق أبوابها بسبب منشور على صفحتها على إنستغرام، وتُوّج بـ«نزول» جماعة «جنود الربّ» على مجموعة من الناس في حانة في مار مخايل بسبب ميولهم الجنسية. وزاد الطين بلّة دور الإعلام الذي زرع انقساماً جديداً بين الناس على طريقة «فرّق تسُد»، حتّى وصل هذا الانقسام إلى أبناء الحزب الواحد! في الحصيلة، ركبت مجموعة من الليبراليّين موجة الحريّات، في مقابل مجموعة أخرى من المنغلقين. النتيجة كانت المزايدة وتبادل الاتّهامات، فيما الجميع في بحيرة الوحل ذاتها، والمتضرّر الأكبر المثليّون، إضافة إلى الشعب الذي تمّ إلهاؤه بانقسامات لا معنى لها فيما الأزمات المعيشيّة تطاله بالجملة. ولوضع الكرزة على قالب الحلوى، ركبت mtv موجة المثليّة، فأتت بحملة إعلانيّة مثيرة للجدل تحت شعار «الحبّ مش جريمة حملة إلغاء المادّة 534 من قانون العقوبات»، سرعان ما عرّضتها لهجوم معارضي المثليّة. فما كان من القناة إلّا أن برّرت حملتها بـ«كلام قداسة البابا فرنسيس» بأنّ «المثليّة خطيئة وليست جريمة»، ما عرّضها لهجوم مؤيّدي الحرّيّات، وخسرت بذلك تأييد كلا الطرفَين.

 

حادثة الكحّالة

في «سنة» آب أيضاً، وقعت حادثة الكحّالة، وكانت مناسبة جديدة للإعلام المهيمن كي يبثّ سمومه الطائفيّة. أساساً، تجمهر بعض أهالي الكحّالة حول الشاحنة التي انزلقت هناك وبقيت لمدّة طويلة قبل أن يعترض عليها أحد، بسبب خبر نشرته mtv حول أنّ الشاحنة تابعة للمقاومة، ما مهّد لإطلاق النار الذي أودى بكلّ من فادي بجّاني وأحمد قصّاص. هكذا، واكبت القناة المتجمهرين، مع بثّ أخبار عاجلة فتنويّة واستضافة مسؤولين قوّاتيّين وكتائبيّين للتحريض، وصوّرت السلاح الموجود في الشاحنة على طريق دوليّة ومعروفة وجهته على أنّه موجّه إلى المدنيّين، فيما صوّرت السلاح الذي أُطلق من الجانب المقابل على أنّه «دفاع عن النفس». وقدّمت القناة إلى جانب «الجديد» معلومات مجّانيّة للعدوّ حول نوع الذخيرة الموجودة في الشاحنة، وكانت القناتان قبل يوم قد وجّهت أصابع الاتّهام إلى «حزب الله» في قضيّة مقتل الياس الحصروني في عين إبل.

بالكاد مرّ يوم على الحادثة حتّى فاجأ وزير الإعلام اللبنانيّين باتّخاذه قراراً بإقفال القناة الرسميّة الوحيدة «تلفزيون لبنان»، بسبب مشكلات ماليّة وإضراب الموظّفين لتأخّر صرف مستحقّاتهم أشهراً. لكن سرعان ما تمّت حلحلة الأمور، وأعادت القناة بثّها. في أواخر آب، خسر الإعلام اللبنانيّ أحد أهمّ أعمدته بعدما خفت مكبّر «صوت الذين لا صوت لهم»، الكاتب والصحافيّ والناشر طلال سلمان (1938 – 2023)، مؤسّس جريدة «السفير» التي أصدرها طوال 42 عاماً وأخذت شعار «جريدة لبنان في الوطن العربيّ وجريدة الوطن العربيّ في لبنان».

أتى أيلول (سبتمبر) بالنسبة إلى المشهد الإعلاميّ اللبنانيّ أهدأ من الشهر الذي سبقه، قبل أن يعود ويضجّ في أواخره مع الاحتفال الذي نظّمته السفارة السعوديّة في بيروت في مناسبة العيد الوطنيّ السعوديّ، فطغت عند القنوات الثلاث المهيمنة لهجة تسويقيّة على نقل تلفزيونيّ مباشر من المفترض أن يكون موضوعياً وديناميكيّاً. واستخدمت «الجديد» مفردات شعريّة وسوّقت لمستوى «التنظيم» في اليوم التالي، وكانت خرجت إلى الضوء في حينه أخبار توقيع القناة عقوداً إنتاجيّة مع قنوات عربيّة وخليجيّة وتجديدها لشراكتها مع «دويتشه فيله» الألمانيّة الداعمة لكيان العدوّ. كذلك نصّبت القناة نفسها مدافعةً عن رئيس مجلس إدارة «طيران الشرق الأوسط» محمّد الحوت في قضيّة تلزيم مطاعم المطار.

 

«طوفان» جارف

وأخيراً، أفاق اللبنانيّون صباح 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)، كما العالم، على عمليّة «طوفان الأقصى» التي نفّذتها المقاومة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة. إزاء هذا المشهد، فتح الإعلام الداعم للمقاومة هواءه يوميّاً، ولا سيّما «المنار» و«الميادين» وبشكل أقلّ NBN. أمّا الإعلام المهيمن، فتخبّط وأُجبر على تغيير لهجته تماشياً مع الضرورات. التحوّل الأهمّ كان عند «الجديد»، فانقلبت 180 درجة ونصّبت نفسها مؤيّدةً للمقاومة بعدما كانت تهاجمها منذ بداية العام. أمّا LBCI فباتت نشرات أخبارها تعطي أولويّة للحدث المستجدّ، وخصوصاً مع تزايد مجازر الاحتلال، لكنّها في الوقت ذاته كانت تحاول إبراز لغة معارضة للمقاومة في لبنان وصلت حدّ بثّ تقرير عن منصّات صواريخ مزعومة للمقاومة بين أشجار الموز. غرّدت mtv أيضاً خارج السرب في بداية الأمر، فراحت تحرّض على المقاومة، منضمّةً إلى بعض مطلقي شعار «لبنان لا يريد الحرب». كذلك، أمعنت في نقل أخبار على لسان جيش العدوّ، ما أدّى في نهاية المطاف إلى تلاسن بين بعض شبّان المقاومة ومراسلة القناة جويس عقيقي، وانقسمت الآراء بين معارض للقناة ومؤيّد لحرّيّة الإعلام. لكنّ استهداف دبّابة تابعة للاحتلال فريقاً صحافيّاً ما أدّى إلى استشهاد المصوّر عصام عبدالله وإصابة صحافيّين آخرين منهم كارمن جوخدار وإيلي براخيا وكريستينا عاصي، شكّل نقطة تحوّل لمدة وجيزة، فأخذ الإعلام اللبنانيّ برمّته الأمور على محمل الجدّ في حينه، وخفت صوت «لا للحرب» إعلاميّاً. إلّا أنّ المشهد المستجدّ لم يدم طويلاً عند mtv، فعادت لتحاول بثّ الهلع في النفوس عبر نشر تصريحات لمسؤولين لدى العدوّ والإدارة الأميركيّة يهدّدون فيها لبنان، ووصلت حدّ المزايدة على المتحدّث باسم العدوّ، متوجّهةً إليه بألّا «دولة» في لبنان، ونقلت أخباراً عن جيش العدوّ بما فيها خبر مفاده ألّا معلومات عن قصف «المستشفى المعمداني» فيما كانت المشاهد المأساويّة تملأ الشاشات!

بدا واضحاً تجاهل بعض القنوات لما يحصل في الجنوب وأخبار عمليّات المقاومة

 

كذلك، بدا واضحاً تجاهل بعض القنوات لما يحصل في الجنوب اللبنانيّ، وإذا ما تمّ نقله لا يُرفق بأخبار عمليّات المقاومة، وتُصوّر الخسائر على الجانب اللبنانيّ على أنّها أضعاف تلك في الأراضي المحتلّة حتّى جريمة عيناتا التي استشهد فيها ثلاثة أطفال مع جدّتهم بنيران العدوّ، تجاهلها الإعلام المهيمن حتّى حلول موعد نشرات الأخبار المسائيّة! ومع حلول موعد خطاب الأمين العامّ لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله الأوّل بعد «الطوفان»، ركب الإعلام اللبنانيّ موجة الهستيريا العالميّة للإفادة منها في استعادة شيء من زخمه، ففتحت قنوات عدّة البثّ المباشر من الحدود مع فلسطين المحتلّة ومختلف أماكن نصب الشاشات حيث احتشد الجماهير. مجدّداً، أطلّت mtv برأسها، فهاجمت نصرالله تحت حجج عشوائيّة وغير مقنعة، ووصلت حدّ القول إنّ الإدارة الأميركيّة «ردّت بحزم» عليه! في المقابل، تعاملت القنوات الأخرى مع الموضوع بحياديّة، مع استثناء كان في نقل LBCI نكات عن الخطاب انتشرت على مواقع التواصل.

في تشرين الثاني (نوفمبر)، أطلّ رئيس مجلس إدارة mtv ميشال المرّ على شاشته لتدشين استوديو الأخبار الجديد الذي ترافق مع حملة إعلانيّة ضخمة، وتحاول القناة منذ حينه الظهور بصورة الموضوعيّة، رغم أنّها لم تبدّل جلدتها. وفيما كانت الإعلاميّة اللبنانيّة في قناة «العربيّة» السعوديّة ليال الاختيار منشغلة بوقفة تضامنيّة معها بعد تعرّضها لهجوم شعبيّ واسع بسبب استضافتها متحدّثَين باسم العدوّ ونعتهما بـ«أستاذ»، كانت قوّات الاحتلال الصهيونيّ تستهدف فريق «الميادين» المراسلة فرح عمر والمصوّر ربيع معماري ومرافقهما حسين عقيل. استشهد الثلاثة في عيد الاستقلال اللبنانيّ، وتحوّلوا إلى الحدث واعتُبروا أبطالاً.

وفي كانون الأوّل (ديسمبر) 2023، استمرّ نقل الجرائم الصهيونيّة، مع فضح الأكاذيب الصهيونيّة حتّى على mtv وLBCI. لكن مع إعلان حركة «حماس» عن تشكيل «طلائع طوفان الأقصى»، شنّت غالبيّة القنوات هجمة غير مسبوقة على الحركة وقارنت الأمر بـ«فتح لاند» حتّى بعد تراجع الحركة عنه وتوضيح اللّغط، فيما تمّ تجاهل استهداف مركز للجيش اللبنانيّ ما أوقع الرقيب عبد الكريم المقداد شهيداً. وفي الشهر نفسه، أُعلن عن إقفال منصّة «صوت بيروت إنترناشونال» التابعة لبهاء الحريري بسبب خلافات بين الأخير ومستشاره السابق جيري ماهر الممنوع من دخول الأراضي اللبنانيّة بسبب اتّهامه بالتطبيع، لتكون خاتمة الوسائل الإعلاميّة المملوكة لآل الحريري.

وأبى 2023 إلّا أن ينتهي بالصخب الذي اشتهر به. فكان التمديد لولاية قائد الجيش العماد جوزيف عون الذي تعامل معه الإعلام مثلما كان يتعامل مع التمديد لرياض سلامة، فانبرت mtv و«الجديد» في تلميع صورة القائد، في مقابل الهجوم على «التيّار الوطنيّ الحرّ» ورئيسه النائب جبران باسيل. وأتت أحداث محلّيّة لتملأ الشاشات، بدءاً بفيضان نهر بيروت بسبب العواصف، مروراً بإحراق شجرة ميلاديّة في طرابلس، وصولاً إلى تعطّل تلفريك جونية وإنقاذ 40 شخصاً علقوا فيه، إضافة إلى اغتيال «إسرائيل» مستشار الحرس الثوريّ الإيرانيّ العميد رضي موسوي في سوريا وتوعّد إيران بالردّ. هكذا إذاً، نكون قد اختتمنا عاماً صاخباً وسوداويّاً، ودخلنا عاماً جديداً بالصخب نفسه. على أمل ألّا تستمرّ السوداويّة!

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

3 منح دراسية لطلبة «الإعلام» من الجامعة الأميركية في الإمارات … عميدة كلية الإعلام لـ«الوطن»: الطلبة السوريون يبرهنون على جدارتهم ومهاراتهم في معظم المشاركات الخارجية

  | فادي بك الشريف     أكدت عميدة كلية الإعلام في جامعة دمشق د. بارعة شقير أن الطلاب المشاركين في مبادرة «الأمل» في العاصمة ...