| علي عواد
إنّه عام 2007 في قاعةٍ ذات إضاءة خافتة. الكلّ في حالة ترقّب. خفتت الأضواء، ثم وقف ستيف جوبز بثقة على المنصة بقميصه الشهير والجينز. نظر إلى الجمهور وعيناه تلمعان، وقال: «اليوم، ستعيد شركة آبل اختراع الهاتف». غمرت الإثارة القاعة وبلغ الترقّب ذروته، قبل أن يكشف جوبز النقاب عن جهاز آيفون، لتسود حالة من اليوفوريا بين الحاضرين. لم يكن آيفون مجرّد منتج، لقد كان وعداً بعصر جديد، بمستقبل تندمج فيه التكنولوجيا بسلاسة في حيواتنا. كانت تلك اللحظة بمنزلة بداية الثورة. ثورة ستستمر سنوات قبل أن يلاحظ الجمهور أنّها بدأت تخبو، وأنّ كل ما يحدث اليوم هو مجرّد تحسينات تجريها الشركات، بعيدة كل البعد عن لحظة 2007 الأيقونية
قبل أيام، أطلقت آبل هاتفها الذكي الأحدث، «آيفون 15»، بهيكلٍ خارجي من التيتانيوم، ومدخل شاحن من نوع USB type C، وبطارية وكاميرا أفضل، بالإضافة إلى ميزات برمجية جديدة، على أن يبدأ بيعه في الأسواق يوم الجمعة. انتشر الخبر كالمعتاد، فيما هلّلت «قبائل» آبل وارتفعت أسهم الشركة بنسبة 2 في المئة.
لكن بعيداً عن ضوضاء الهاتف الجديد والشعور بالحاجة إلى الاستهلاك، ما الذي يدفعنا فعلياً إلى استبدال الهاتف الذي نملكه من ثلاث أو خمس سنوات وشراء الجهاز الجديد بسعر يراوح بين ألف وألف وخمسمئة دولار؟ ما الذي سيقدّمه لنا عملياً؟
الأكيد أنّه جهاز أسرع، خصوصاً إن كنّا من مستخدمي أجهزة «آيفون»، وتحديداً «آيفون 14» الذي يلاحظ مقتنوه أنّه بات أبطأ فيما تملأ شكواهم منصة X (تويتر سابقاً) وصفحة الشكاوى على موقع آبل الإلكتروني. علماً أنّ الشركة خسرت في 19 آب (أغسطس) الماضي دعوى مقامة ضدها منذ عام 2020، تتهمها بتعمّد إبطاء الهواتف مع كل تحديث جديد، ويتوجب على آبل دفع تعويض يصل إلى نصف مليار دولار عما فعلته. لم يعد الأمر مجرد شائعات أو نظرية مؤامرة، آبل تبطئ هواتفها عمداً لتُحافظ على نمط استهلاكيّ محدّد لمنتجاتها، وبالتالي يكون حَمَلة الأسهم ومجلس الإدارة سعداء، بينما المستهلك يدفع من أجل جهاز يقدّم له وعداً بسرعة أداء لن تستمر طويلاً.
تباطؤ وتيرة الابتكار والتقدّم في تكنولوجيا الهواتف الذكية أمر واضح. ومن هنا، يمكننا فهم لماذا تقوم آبل بما تقوم به. علماً أنّ بعض مستخدمي هواتف سامسونغ يقولون إنّ الأمر نفسه يحصل مع هواتفهم، وإن بوتيرة أقل مقارنة بآبل. ووحدهم تقريباً مستخدمو هواتف هواوي يؤكدون أنّ أجهزتهم تحافظ على السرعة نفسها ولو بعد سنوات عدّة من الاستهلاك. تعاني شركات الهاتف من أزمات مختلفة ومترابطة، أبرزها: أوّلاً، تشبّع سوق الهواتف في أجزاء كثيرة من العالم، ما يعني أنّ جزءاً كبيراً من السكان يمتلك بالفعل هاتفاً ذكياً، فيصبح من الصعب على الشركات المصنعة دفع النمو عبر بيع الأجهزة لمستخدمين جدد. وبدلاً من ذلك، تركّز على الاحتفاظ بالمستخدمين الحاليين وإقناعهم بالتحديث. ثانياً، واجه عدد من التقنيات الأساسية التي تقوم عليها الهواتف الذكية، مثل تكنولوجيا البطاريات وأشباه الموصلات، قيوداً تكنولوجية تجعل من الصعب تحقيق تحسينات كبيرة في مجالات مثل عمر البطارية أو سرعة المعالج. ثالثاً، ارتفعت كلفة تطوير تكنولوجيا الهواتف الذكية المتطوّرة وتصنيعها على نحو ملحوظ، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار الأجهزة. رابعاً، حاولت شركات الهاتف الذهاب إلى حلول في الشكل، إذ قدّمت هواتف قابلة للطي، ولكنّ الهاتف الذكي بالشاشة المسطحة لا يزال مهيمناً. خامساً، المشهد التنافسيّ في صناعة الهواتف الذكية مشتعل بشدّة، إذ تتسابق شركات مصنعة عدّة على حصة في السوق، ما يؤدي إلى تكرار سريع للنماذج السابقة مع تحسينات هامشية.
أجهزة مزوّدة بالذكاء الاصطناعي ومدمجة في جلدنا
حسناً، يبدو أنّ شكل الهاتف لن يتغيّر كثيراً مستقبلاً. السرعة والكاميرا وعمر البطارية والتطبيقات المتعلّقة بصحة الإنسان أمور تتقدّم تدريجيّاً. لكن، ما الذي ستفعله هذه الصناعة لجذب المستهلكين؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من الإشارة إلى ما قاله مارتي كوبر، الذي يعود له الفضل في اختراع أوّل هاتف جوّال عام 1973. في حديث مع شبكة CNBC في آذار (مارس) من العام الحالي، قال إنّ الهواتف ستصبح ذات يوم أجهزة مدمجة في جلدنا، بدلاً من الأجهزة السوداء المستطيلة التي اعتدنا عليها، وأضاف: «سيكون لدى الجيل القادم هاتف مدمجٌ تحت جلد آذانه»، موضحاً أنّ هذه الأجهزة لن تحتاج إلى الشحن، لأنّ «جسدك هو الشاحن المثاليّ. يتطلّب الأمر قدراً صغيراً من الطاقة لتشغيل سماعة الأذن هذه». وبالفعل، تعمل شركات عدّة على صنع شرائح إلكترونية تُغرس داخل جمجمة الإنسان، على رأسها «نورالينك» التي يقودها إيلون ماسك، وقد حصلت على ترخيص من «إدارة الغذاء والدواء الأميركية» (FDA) للبدء بتجارب سريرية لمنتجها على البشر. قد يكون هذا التوجّه الأكثر ترجيحاً، خصوصاً أنّ ماسك معادٍ لفكرة نظارات العالم الافتراضي (VR)، ويقول إنّ جهاز «نورالينك» سيؤمن تجربة انغماس حقيقية في الواقع الافتراضيّ، إذ يُدخَل الدماغ إلى العالم الرقميّ مباشرة، وليس عبر نظارة تحوي شاشة، كما أنّه يعدّه «مستقبل التواصل بين الناس».
أما وظيفة الهاتف فقد تخطت ميزة الاتصال والتحدّث. الأجهزة التي بين أيدينا اليوم أقوى من الحاسوب الذي كان على متن مكّوك «أبولو 11» بآلاف المرات. عملياً، نحن نملك حواسيب قوية صغيرة الحجم نستخدمها لتصفّح الإنترنت والتصوير والألعاب والعمل والاستماع إلى الموسيقى، وهي أيضاً خزانة ذكرياتنا من صور ومحادثات وأفكار سجّلناها بالصوت أو بالكتابة. هو أكثر جهاز يعرفنا، وبتنا مرتبطين به على نحو لا يوصف، وهو امتداد لنا وهو الـ «نحن» الرقمية. من هنا، يبدو أنّ الأمر الوحيد الذي ستتحوّل نحوه فكرة الهاتف، أن يصبح رفيقاً رقمياً لنا، وهذا التوجّه وُضع على السكّة.
في نيسان (أبريل) الماضي، عرضت منصة TED محادثة لأحد مؤسّسي شركة جديدة تدعى «هيوماين» (Humane)، وهي شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا يقودها موظفان سابقان في آبل، إمران شودري وبيثاني بونغيورنو. عرض شودري بديلاً رائعاً وغريباً للهاتف الذكي هو جهاز صغير يمكن وضعه، من دون شاشة ويُحمل في جيب القميص. الجزء العلوي يحتوي على جهاز عرض ليزر. الجهاز مزوّد بميكروفونات للأوامر الصوتية ومكبر صوت وكاميرا وأجهزة استشعار أخرى تدعم التحكم بالإيماءات. هو ليس جهازاً ملحقاً، بمعنى انه يمكن تفعيله من دون ارتباط بهاتف. الجهاز يستمع لما نأمره به، وبدلاً من رشقنا بالتنبيهات طوال اليوم، يمكن أن نطلب منه إيجازاً عن كل ما وصلنا. يمكن له فعل ذلك وأكثر لأنّه مزوّد بذكاء اصطناعيّ توليديّ مثل «تشات جي بي تي». عملياً، عبر جهاز «هيوماين» نستطيع أخذ الذكاء الاصطناعيّ معنا أينما ذهبنا. وبالتالي، يرى الأشياء ويستشعر محيطنا معنا. الأمر أشبه بالهاتف الذكيّ الذي شاهدناه في فيلم Her (إخراج سبايك جونز ــ 2013 ــ 126 د) من بطولة خواكين فينيكس. قد يكون جهاز «هيوماين» بالفعل هو لحظة 2007 المقبلة (عندما صدر أوّل آيفون)، وربما لا. لكن اتجاه صناعة الشرائح الإلكترونية إلى عالم الذكاء الاصطناعيّ وتطويرها شرائح للهواتف تمكّنها من استضافة الـ AI، يشعرنا بأنّ الهاتف قد يصبح اسمه قريباً الرفيق الرقمي.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار