إيجازُ الوجيزِ.. وترهيفُ الرَّهيفِ في لمحاتِ الشاعر (صقر عليشي)

| ميرفت أحمد علي

 

مولودٌ إبداعيٌّ طازجٌ بعنوان (كتابُ اللَّمحات)، يُضافُ إلى عشرةِ الدواوينِ الشعرية التي ذُيِّلتْ بإمضاءِ الشاعر السوري البارع (صقر عليشي)، من سلسلةِ إصدارات اتحاد الكتاب السوريين، ويبدو كتتويجٍ لنضالٍ مديدٍ عمرهُ أربعونَ عاماً في معتركِ الحرفِ وتوهُّجاتهِ، والمعنى وائْتلاقاتهِ، والمبنى وتمَظهُراتهِ، واللغةِ والفكرةِ ومُلابساتِ العلاقةِ بينهما، والتهذيبِ البيانيِّ، والتَّشذيباتِ اللفظيةِ التي قضى الشاعرُ عمراً من الأرقِ يتوسَّلُ في إعدادِها وإخراجِها أنبلَ الطُّرقِ، وأنجعَ السُّبلِ، وأَدهى الحِيَلِ، حتى طلعَ علينا بـ (كتابِ لمحاتهِ) كأبهى ما تكونُ التحيةُ للشعر في رَهبَنتهِ وتَعافيهِ من عللِ المُشاكلةِ والمُشابهةِ والترسُّلِ والتصنُّعِ والغرائبيَّةِ المتعمدةِ، والتعقيداتِ البُنيويَّةِ التي يتوخَّى أصحابُها لفتَ النظرِ إلى أداءٍ غيرِ متمكِّنٍ، ونصفِ موهبةٍ لا تُفلحُ غالباً في تسكُّعاتِها فوقَ المنابرِ الرشيدة.

 

تبدَّت السِّمةُ الأصاليَّةُ الأولى في عنوانِ الديوان، و ما يُحيلُ إليهِ من مجاراةٍ لأسلوبِ الأدباءِ المتقدِّمين في العَنونة، فعلى شاكلةِ (كتابِ منطقِ التَّلويحاتِ) للسهروردي، و(كتابِ التعريفاتِ للجُرجاني) وسواهما كثير، يأتي (كتابُ اللمحات). وأَعني هنا التَّصديرُ بكلمة (كتاب). وعلينا أن نفهمَ من هذهِ المُجاراةِ ــــــ وهوَ ما لا يقصدهُ الشاعرُ ــــــ أنَّنا نُواكبُ إبداعاً من طرازٍ فخمٍ وازنٍ ونفيسٍ لشاعرٍ معاصرٍ لا يقل شأناً عن أسلافهِ من الشعراءِ والمتأدِّبينَ. ولهُ أن يقاربَهم في طرائقِ الإفصاحِ عن آدابهم، بدءاً من عتبةِ العناوينِ، وتلميحاتِها، ومُدخلاتِها الذهنيَّة، وله أن ينسبَ إهداءهُ إلى (عطيَّة مسُّوح) مُقرَّاً بدَأْبهِ كمفكِّرٍ مستنير، وكناقدٍ وباحثٍ سوريٍّ ذي ضلاعةٍ بمذاهبِ القول، وكصديقٍ للشاعرِ نظَّرَ للشعرِ الحداثيِّ واقتفَى نُضجَ ملامحهِ واكتمالاتِ نموِّه في شعر (عليشي) نموذجاً.

 

 

والَّلمحةُ لغةً: النظرةُ العَجلى، وتُجمعُ على لمْحاتٍ أو لمَحات. وهوَ ما نخالُ أنَّه موائمٌ للأداءاتِ الشعريةِ الومضيَّةِ، وللإمضاءاتِ التعبيريةِ الوجيزةِ المُفقَّرةِ التي تعمَّدَ الشاعرُ أن يصوغَ قصائدَه بها. بيدَ أنَّنا ما نلبثُ أن نواجهَ فداحةَ خَطَلِنا، ونعيدَ النظرَ في حساباتِنا المتسرعةِ، حينَ نكتشفُ المُتواري خلفَ صنوفِ الاحتيالاتِ الأسلوبيَّةِ في التجزئةِ والتَّفقيرِ النَّصيّ، (و ما تحتَ السَّواهي من دَواهٍ)، و ما وراءَ الاختزالِ اللفظيِّ من عُمقِ التَّصورِ والتحليل، ورباطةِ جأشِ التعبيرِ في إخراجِ المعاني بولاداتٍ طبيعيةٍ. إذ يوظِّفُ الشاعرُ براعاتهِ في تقطيرِ اللغةِ وتَنقيطِها وتَفْليتها وتَنقيتها من عوالقِ الترسُّلِ وشوائبِ الاستفاضاتِ في القبضِ على الفكرةِ الأساس من دونِ لفٍّ ودوران، فيعبِّر عن فلسفتهِ لقضايا الحياة بكلِّ عفويةٍ وانشراح.

 

يقولُ في لمحةِ الفراغِ، مُنتقداً عبارة (لا شيءَ يأتي من عدَم):

 

لا شيءَ يأتي، ولا شيءَ يُولدُ/ مهما يكنْ من فراغ/ ….هكذا قالتِ الفلسفهْ/ هكذا حسمتْ أمرَها!/لم يكنْ حسمُها مستساغْ/ ومفاهيمُها/ لم تكنْ دوماً مُنصفهْ/

 

كيفَ يأتي إذاً/ يَتُها الفلسفهْ/ يَتُها المُرهفهْ/ كيفَ يُولدُ في الأرضِ/ هذا الخرابُ الكبير؟/ من فراغِ الضمير؟.

 

ولا يفوتُنا لحظُ إلحاحاتِ الشاعرِ المُتكاتفةِ المُتضافرةِ لإقناعِنا كقرَّاء أنَّه غاوي شغبٍ وحماقة، ناسِباً رصيدَهُ الأكبرَ من الإبداع ـــ إن لم يكنْ كلّه ـــ إلى تلكَ (المثلبةِ الحميدةِ) المتأصِّلةِ في طبعهِ، ويجدُها مدعاةَ تفاخُرٍ جمٍّ:

 

إذا لوَّحتْ لي بشَالٍ مغامرةٌ/ قلتُ: ها هيَ فرصةُ عمري/ فجئتُ سريعاً ولم أتأخَّرْ/ وأحضرتُ مِن أجلها هُوَّةً/  على قدْرِ طيشي وأكبرْ/

 

/أهمسُ في أذنِ الخطيئةِ الأولى/مُداعباً تفَّاحَها/وشاكراً لهُ استدارةً بريئةً/كانَ الهبوطُ بمظلةِ التفَّاحِ يومَها/أمتعَ ما مرَّ على الإنسانِ والآفاقِ/

 

بيدَ أنَّه في مُنادماتهِ ومُساهراتهِ لأجدادهِ الفلاسفةِ والشعراءِ كالمعري والمتنبي وعُروة بنِ الورد، يكشفُ عن جِبِلَّةٍ مُناقضةٍ، عن معدنهِ النفيسِ المتأصِّلِ كسميرٍ حكيمٍ، يُسدي المشورةَ والرأيَ الصائبَ لهم، فلوْ مشَوا على هدْيهِ واتَّبعُوا حصافةَ رأيهِ، لنجَوا من مهالكَ مصيريةٍ. وحريٌّ بالقارئِ أن يستشفَّ ظلالَ المداعبةِ عندَ الأستاذ (صقر) في تخيُّلاتهِ المُستظرفةِ لهذهِ المنادماتِ، وما يَزينُها من مواقفَ فَكِهةٍ لا مكانَ للجديَّةِ فيها ولا للواقعية، إذ يطلقُ الشاعرُ عَنانَ خيالهِ لينصِّبهُ صديقاً نصُوحاً لمَن أحبَّ ومجَّدَ من شعراء العربية؛ فلا تُؤخذُ تلكَ الَّلمحاتُ على محملِ الجَدِّ.

 

إنَّه يلومُ (المعري) على مغالاتهِ في العقلانيةِ والتزهُّدِ بالغرامِ وبأهله، وعلى التكلُّفِ في (اللزومياتِ) الشهيرةِ:

 

في صِبايَ أتيتُ إليهِ/جلبتُ زَبيباً وتِيناً معي/أبَنْتُ لهُ من خفيِّ الأمورِ/ بشرحٍ جليٍّ ومحكمْ/ وحاولتُ إقناعَهُ ما استطعتُ/بأن لا لزومَ لما ليسَ يلزمْ/وأن النساءَ/ جمالٌ لوجهِ الجمالِ/ومن دونهنَّ يكونُ الكلامُ/حسيراً ودامسْ.

 

ويشيرُ الشاعرُ بكثيرٍ منَ التحسُّر إلى حادثةِ قطعِ رأسِ تمثال (أبي العلاء) في مسقطِ رأسهِ بمعرَّة النعمان، بيدِ حفنةٍ ممَّنْ رأوْا فيه مجرَّدَ صنمٍ يستوجبُ التهشيم.

 

وفي ملامتهِ لأبي الطيِّب المتنبي، الأمور تبدو معكوسةً. ففي حين عابَ على المعرِّي غُلُوَّهُ في الحكمةِ والزهدِ ومُجانبةِ متاعِ الدنيا الزائلِ، نراهُ يُعيبُ على المتنبي طيشَهُ ونزقَهُ وعشقَهُ الخالصَ للأمجادِ الشخصيةِ، ما أفسدَ عليه ــــ هو الآخرُ ــــ فرصةَ استعادةِ لقائهِ بسيف الدولةِ، وفوَّتَ عليهِ التمتُّعَ بالعشقِ وبهناءاتٍ أُخرى:

 

تُرى ما الذي ردَّهُ؟/لو مشى شعرهُ مَرِحاً/ لو أدارَ الشَّمولْ/وكانت أناملهُ للزجاجِ/ رِكاباً/ تُرى ما الذي كانَ يخسرهُ الأفقُ/ غير الخمولْ؟

 

لو أطلَّ على حكمتي من نوافذهِ/لما أخذتهُ فلاةٌ إلى حتفهِ/وكانَ التقى سيفَ دولتهِ من جديدٍ/وعانقَ مستقبلهْ.

 

فيما يعتبُ الشاعرُ على (عروةَ بن الورد) لأنهُ اشتراكيُّ النَّزعةِ، تقدُّميُّ الفكرِ، كيفَ لا؟ وهو زعيمُ الصعاليكِ الذين يُشركونَ الفقراءَ في أموالِ الأغنياءِ، ومع هذا يُنكرُ معرفتهُ بـ (جيفارا) و (لينين)، ربما من بابِ الاستعلاءِ والغيرة منهما:

 

قلتُ: تعرفُ لينين؟/أو هلْ قرأتَ لهُ: (ما العمل)؟/يخيَّلُ لي أنكم تهتدونَ بأفكارهِ/ فأومأَ بالنَّفيِ أيضاً/وبربرَ مُستنكراً وانفعلْ/

 

وبناءً على معطياتِ الموقفِ، يحبسُ الشاعرُ نُصحَهُ عن (عروة):

 

ولم أُعطِ عروةَ نُصحي/وما قلتُ شيئاً يخالفُ آراءَهُ/رِمحهُ يتمدَّدُ بالقربِ منهُ/ وهل كان ينقُصني/أن أفوزَ بطعنةِ رمحِ؟

 

وفي (كتابِ اللمحات) يجدِّدُ الشاعرُ الإفصاحَ عن ثقتهِ بذاتهِ الشعريةِ، بحاضرِها المُشعِّ، الذي يبشِّرُ بإشراقاتٍ وبكرنفالاتِ أضواءِ وبريقٍ يلاحقانِ إصداراتهِ وتحليقاتهِ بين الذُّرا:

 

طرْتُ سريعاً/طرْتُ سريعاً جداً/أسرعَ مِن ريحٍ عاتيةٍ/ومخرْتُ عُبابَ سماواتٍ/عاليةٍ/ لم ينجُ علُوٌّ فيها منِّي/ورأيتُ جبالاً حانيةَ الهامةِ/تمرقُ من تَحتي/نمتُ وكانَ الغيمُ وَئيداً/أدنى من تَختي.

 

إنَّه شاعرٌ مُتفكِّهٌ، يَستملحُ الطُّرفةَ، ويُجيدُ التَّنكيتَ، ويستظرفُ التلاعبَ بالأفكارِ، وخلطَ الحقائقِ والأوراقِ، وإعادةَ تأويلها. خذْ مثلاً دفاعَهُ عن أَبينا آدمَ، إذ (حاشا) أن يكونَ سلسلَ قرودٍ.. كانَ يحيا ببساطةِ طفلٍ أُميٍّ، ولم يرتكبْ إلا حماقةً واحدةً فقط، هلمُّوا نتعرَّفها:

 

لم يكنْ جدَّهُ القِردُ/أستغفرُ اللهَ/هذي منَ الشائعاتْ/….

 

وأثناءَها/كانَ في جنةٍ/عرضُها عرضُ هذيِ السمواتِ والأرضِ/يمرحُ بين الظلالِ وحيداً/…. وما كانَ صاحبَ علمٍ غزيرْ/كان يعرفُ أسماءَ/ يعرفُها الآنَ طفلٌ صغيرْ/إنَّما كانَ صاحبَ ذوقٍ رفيعٍ/وتُغريهِ تفاحةٌ/ليغيِّرَ وجهَ المصيرْ!

 

و(كتابُ الَّلمحاتِ) كما سابقيْهِ: (أسطورةٌ فينيقية) و(معنى على التلِّ)، لا يُغفلُ مكانةَ الأسطرةِ، وإحياءَ ذكرى رموزِها الخُرافيِّينَ، مُستعيناً بهم لبلوغِ مُرادهِ، وتبليغهِ عبرَ الشعرِ، (وما على الشعرِ إلا البلاغُ المُبينْ)، ففي الهندِ لا يدركُ الشاعرُ السندبادَ، وقد رحلَ بعدَ أن أغلقَ ملفَّ فتوحاتهِ (في الخيال)، لاحظُوا: في الخيالِ وحسب.

 

أمَّا صراعُ قابيلَ وهابيلَ، فيُعيدُ قوْلبةَ الوجودِ البشريِّ من بَدْئهِ إلى مُنتهاه، فالشرُّ هوَ الأصلُ الذي فُطرَ عليه الإنسانُ، والخيرُ هو استثناء.

 

وبلقيسُ ملكةُ سبأ، والهدهدُ واستحضارُ العرش، تُستخلصُ عبرتُها وتُوظَّفُ بأُبَّهةِ الشاعرِ العارفِ بغرضِ التوظيفِ، وبمَوضعهِ الملائمِ في القصيدةِ.

 

وتشهدُ علاقةُ الشاعرِ بالشعرِ، وبأدواتهِ الفنيَّةِ والأسلوبيَّةِ الجماليَّةِ وفاءً مُتنامياً مطَّرداً، وصداقةً مُستحكمةً، إنَّها علاقةُ الأبِ بالأبناءِ البررَةِ، والمعلمِ بالتلاميذِ النُّجباءِ، ويوصِّفُ وشائجُهُ مع الكلماتِ على هذا النحو:

 

وأنا أرفدُها بكلامٍ عذبٍ/وأدلُّ عليها كلَّ مجازٍ غضٍّ/كلَّ جمالٍ بضٍّ/ما كنتُ عليها بضَنين/

 

وفي مكانٍ آخرَ، يقولُ مترفِّقاً بالمعنى حينما يستغلقُ على الشاعر:

 

/لا ألومُ الجمالَ ولا جانحيْهِ/ إذا لمْ يَجئْ كاملاً/سأُبدي التسامحَ/ذلكَ طبعي/ليعملْ على قدرِ ما يستطيعُ/ ومنْ بعدُ/مالي عليهِ عتبْ.

 

وإذا حقَّ الادِّعاءُ بأمومةِ الفلسفةِ للعلومِ قاطبةً، وبأُبوَّتِها للإلهامِ، فما أكثرَ ما نلمسُ من تأثُّرِ الشاعرِ (صقر عليشي) بالفلسفاتِ تَليدِها ومُحدَثِها، من أرسطو، وزَرادشت، والمعرِّي إلى لينين… فقدْ تشرَّبَ مِن مَعينها القدْرَ الكافي كي يُفلسفَ رؤيتهُ للعالمِ من حولهِ.

 

ففي نصِّ (لمحة عن صاحبي)، يقلبُ الشاعرُ المعتقدَ، ويشرحُ فهمَهُ الخاصَّ للوقتِ:

 

فالوقتُ في عُرفهِ ثابتٌ/ونحنُ الذين نسيرُ بهِ للأمامِ/ونحنُ الذين نعودُ بهِ القهقرى/. وأكثرُ ما نجدُ الإشراقَ في لمحةِ (الشمعة)، فلدى الشاعرِ تعليلٌ لسببِ ذوبانِها:

 

إنَّ الشمعَ الذي لا يحتكمُ إلى مشورةِ الشاعرِ ، لا بدَّ سيَسيلُ ويَذوي:

 

وبهذا سالَ الشمعُ/على صحنِ الوقتِ/وئيداً/ورقيقاً/ وهوَ يدحرجُ دمعهْ.

 

ويزعمُ الشاعرُ أنَّ خُيلاءَهُ قزَمٌ، استقصى على النموِّ والتشبُّهِ بالطواويسِ زَهواً واختيالاً ونفشَ أَرياشٍ، وأنَّه أَذكى نيرانَ الاغترارِ بفنِّهِ وبمكانتهِ الشعريةِ، لكنْ سرعانَ ما ذوتْ وخمدتْ لغيرِ حُجَّةٍ بائنةٍ، علماً بأنَّ مَن يعرفُ الشاعرَ (صقر عليشي) عن قربٍ، ومَن يُجيدُ قراءةَ ظلالِ السطورِ في نصٍّ اعترافيٍّ كنصِّ (لمحة عن الخُيلاء)، يعلمُ جيداً أنَّه يسمعُ شهادةَ زُور؛ فـ (الصقرُ) أبعدُ شعرائِنا الكبارِ  عنِ الغرورِ والتَّباهي على أهلِ الكارِ، وعلى سواهم، وهُنا.. يطيبُ لهُ أن يسخرَ من الذاتِ فحسب:

 

لا يُعقلُ هذا أبداً!/كم سُقتُ لها الأسبابَ/لتروي نرجِسَها/كمْ أعليتُ لها مِن قامتها!

 

/ورفعتُ لها سقفَ عباراتي/وفتحتُ لها الأجواءْ/

 

ذهبَ الشعرُ جزافاً/ذهبتْ أتعابي أدراجَ الريحِ/هباءً/ وعَييتُ/ولم أعرفْ منْ أينَ يَجيءُ/تواضُعُها/هذي الخُيلاء!

 

هل شَهدتُم صدقاً واقعيَّاً وفنيَّاً أبلغَ من هذا!

 

 

ويغلقُ الشاعرُ حسابَهُ الشعريَّ على موقعِ اللمحاتِ بمنشورٍ وطنيٍّ، يُفضي إلى المأساةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والمعيشيةِ في راهنيَّتها الآلمةِ:

 

لا يُلاقي الرغيفُ ممرَّاً/إلى جائعٍ/لا يُلاقي هنا القوسُ نصراً ليرفعَهُ/لا يُلاقي الهلالُ صخوراً/لديها مِزاجٌ/لينثرَ فضَّتهُ فوقَها/لا تُلاقي التَّوابيتُ/من سوفَ يُحصي وُجوماً لها/.

 

وحالُ الأمةِ حالُ الثَّكَلِ، وحالُ الأبناءِ المخصيِّينَ، إنَّها أمةٌ ميتةٌ، /والشاةُ المذبوحةُ لا يؤلمُها السَّلخُ/.

 

والحقُّ يُقالُ: لقد شابَهَ الشاعرُ (صقر عليشي) أستاذاً آخرَ مُجدداً في مجالِ الروايةِ هو (نجيب محفوظ)، آخذاً من اللغةِ مأنُوسَها ولطائفَ مفرداتِها، ليضعَ أدبَهُ في خدمةِ أكبرِ شريحةٍ من القرَّاءِ، فأصابَ (الصقر) كثيراً في مراميهِ لتَعويمِ أدبهِ، أي لجعلهِ جاذِباً لعامَّةِ القرَّاءِ كما لخاصَّتِهم منَ الأكاديميينَ والمتأدِّبين، وتلك التَّوازُنيَّةُ في علاقةِ الشاعرِ مع جمهورهِ بدعةٌ مقتصرةٌ على النُّدرةِ من أربابِ القلم.

 

وأنَّى نقَّلْتَ طرفكَ في (كتابِ اللمحات)، ستجدُ ما يُدلِّلُ على ذلك، حتى ليكادَ الشاعرُ ينطقُ (بالعاميَّةِ المُفصَّحة)، وبلهجةِ اليوميَّاتِ المُتداولةِ.

 

ففي (لمحةٍ عن الغبار)، لم يُغبِّر الغبار : (على كعبِ أيِّ حذاءٍ لنَجمٍ/ويختالُ في سَيرهِ/ ويرى حالَهُ/يتيهُ علينا كأنْ/لا يُشقُّ غبارٌ له.

 

والأمةُ المتقاعسةُ عنِ النهوضِ، ينبغي سلخُ جلدِها و(مَلْخِه):

 

كنتُ سأسلخُ جلدَ الأمةِ/كنتُ بسكِّيني هذي/سأحُطُّ لها في جبهتِها الشَّرخْ/كنتُ سأُمسِكُها مِن ساعدِها/و أشدُّ/ وأُعمِلُ فيها المَلخْ.

 

والسماءُ المُتعاليةُ التي لا تزدجرُ، ولا تقبلُ التَّحاورَ مع الشعرِ وأهلهِ تحاوُرَ الأندادِ، يجبُ أن تعلمَ أنَّهم ليسُوا مِن منشأٍ وضيعٍ:

 

/ سأُنذرُها/علَّها تَرعوي/وتحكي معَ الشعرِ نِدَّاً لنِدٍّ/فما نحنُ مِن شرفةٍ واطئة.

 

 

ونُكبرُ في الشاعرِ وفاءَهُ لرفاقِ الدَّربِ الإبداعيِّ، مَن هلَّلوا لهُ، واحتفَوا بهِ منذُ انطلاقتهِ الشعريةِ وحتى اللحظة… (ناظم مهنا) و(سعد الدين كليب)، والأخيرُ مشجِّعٌ حثيثٌ، خصَّهُ الشاعرُ بلمحةٍ من وفائهِ.

 

 

خاتمة

 

يبقى أن نقولَ: شكَّلتْ وما تزالُ، الظاهرةُ الشعريةُ عندَ المبدعِ الحرِّيفِ (صقر عليشي) مادةً دسمةً لتعقُّبِ الإعلامِ، ولإضاءاتِ النُّقادِ وتهافُتاتِهم . وهذا أضعفُ الإيمانِ؛ فلدينا شاعرٌ كلَّما استطالتْ بهِ التجربةُ وتقادَمتْ، جزَّ صوفَ لُغتهِ، وهذَّبَ ألفاظَها، وغربلَها، وكثَّفَ معانيهِ، واستقادَها إلى القِلَّةِ والشُّحِ، حتى أمكنَ لهُ أخيراً أنْ يُوجزَ الوجيزَ منَ القولِ، وأن يُمكِّنَ المكينَ من المعنى، وأن يختزلَ المُختزلَ!

 

فإذا كانَ خيرُ الكلامِ ما قلَّ ودلَّ، فما بالكُم بالأقلِّ الأدلِّ؟!

( سيرياهوم نيوز3 )