آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » الوَسْم الاسود

الوَسْم الاسود

 

رأي نذير الماجد

 

واجه سؤال الهوية الكثير من المثقفين العرب وشغل حيزاً كبيراً من اهتماماتهم ومشاريعهم الثقافية. نتذكر مساهمة أمين معلوف في روايته «هويات قاتلة»، إذ الهوية مركّبة متشظية، هجينة ومتحولة. نتذكر أيضاً انشغالات إدوارد سعيد في كتابه «خارج المكان» حيث للهوية طابعها التراجيدي القلق المضاد للطمأنينة والثبات والتجانس. الهوية التي هي في جذرها اللاتيني «idem» تتضمن التماثل والتطابق والاستمرار، صارت ضد ذاتها، ملغمة بالتناقض والانزياح والاختلاف. كثير من المفكرين واجهوا السؤال الإشكالي هذا في إنتاجهم الأدبي أو الفكري. لكن للمفكر المصري عبد الوهاب المسيري «بريقاً» خاص. انشغل بنقد الحداثة والعلمنة والحضارة الغربية، غير أن الهوية تتصدر اهتماماته. «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» التي نشرت بداية من 1999 مشروعٌ يكشف عن الشاغل المركزي في فكره. يليق بالرجل نعته بـ«الأب المؤسس». فبهذا المشروع الضخم والطموح أنجب سلالة مسكونة بهاجس الهوية والسياقات الإثنية في تشكيل الأزمنة والوعي الحديث. لقد ألهم المسيري الكثير من المثقفين، من بينهم الناقد السعودي الكبير سعد البازعي الذي ينسب ذاته إلى هذه السلالة عن طيب خاطر.

 

شرع الناقد البازعي في مواجهة سؤال الهوية في لحظة تاريخية مفصلية. السياق التاريخي يقدّم مبررات كافية لكي يقوم البازعي بما قام به، ففي مطلع القرن الواحد والعشرين، عندما بدأت حرب الهويات تكشف عن أنيابها الحادة، بعد هجمات 11 أيلول واشتداد ما يعرف بالإسلاموفوبيا وانتشارها في الغرب والولايات المتحدة، بدأ البازعي في نشر بحوث وإلقاء محاضرات تعالج هذا السؤال الكبير، قبل جمعها في كتاب نشره عن دار «المركز الثقافي العربي» في العام 2007 تحت عنوان «المكوّن اليهودي في الحضارة الغربية».

ad

 

تعلن أطروحة الكتاب إيمانه بحتمية المؤثر الإثني والانحيازات الثقافية التي تخترق كل فكر بشري يدعي الحياد. تخبرنا من البدء عن غايتها النقدية. فالحضارة الغربية مسكونة بعنصر يهودي كان له أثره الجوهري في تشكيل الفكر الغربي الحديث. وقد اعترف البازعي في خاتمته أن إحدى المرتكزات النظرية للكتاب هي التحيز الثقافي إذ من الصعوبة في الفكر البشري الوصول إلى حياد موضوعي. الخطاب العلمي ليس موضوعياً تماماً. للنظرية العلمية أسماء وهويات وسلالات قومية. يكشف البازعي عن أنه واجه اعتراضات تعود إلى تقاليد الخطاب التنويري الخائف من افتقاد العقلانية الكونية، والحريص على موضوعية العلم وتراثه الإنساني الذي يخترق الإثنيات. فالعلم لا هوية له. فكان لا بد من السعي إلى إثبات الانحياز الثقافي والإثني في جميع الحقول المعرفية في العلوم الإنسانية التي أنتجها الغرب، كالاجتماع والنفس والفلسفة، إذ لا يمكن فهم النظرية من دون استحضار السياق الإثني وسؤال الهوية.

ad

 

كان على البازعي لتحقيق غايته الحفر عميقاً في التاريخ الأوروبي واستكناه النصوص المركزية في الثقافة الأوروبية. منذ الشتات اليهودي وحتى تفجر الغرائز النازية مروراً بالنهضة وحركة الإصلاح الديني والتنوير والثورة الفرنسية حيث شهد اليهودي خلاصه، كانت السردية الغربية تحفل بمآثر اليهود واليهودية. بين النفي والإثبات، بين الغيتو والاندماج، بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية كان اليهودي حاضراً.

يقدّم لنا الكاتب نماذج لأبرز المؤثرين اليهود، في السياسة والفكر. بنيامين دزرائيلي -مثلاً- أحرز نجاحاً سياسياً في بريطانيا تزامناً مع سطوع نجم يهودي آخر في سماء الفكر، هو كارل ماركس. يكتب البازعي قائلاً: «بينما كان بنيامين دزرائيلي يحقق نجاحاته الاستثنائية في بريطانيا على مستواه الشخصي وعلى المستوى الجماعي لليهود، كان يهودي متنصّر آخر يحقق ما سيتحول في ما بعد إلى هيمنة أوسع بكثير، إنه معاصر دزرائيلي كارل ماركس، الذي شغله وضع اليهود فكتب عنهم، على الرغم من تخليه المعلن عن ذلك الانتماء، وعلى الرغم -وهذا هو الأهم- من موقفه الانتقادي الحاد تجاههم، الموقف الذي جعل كثيراً من المؤرخين اليهود يصنّفونه بوصفه كارهاً للذات، مثل العديد من ذوي الانتماء اليهودي سواء المعاصرين لماركس ودزرائيلي أو من جاؤوا قبلهما أو بعدهما».

ad

 

لا تفهم الخطابات كما هي، على رغم ما لها من بنية برهانية مستقلة قائمة بذاتها، بنية موضوعية منزهة عن كل المؤثرات الذاتية والانحيازات الثقافية، يتم التعامي عن ذلك باستحضار الهوية الأصلية كأساس، فحتى كارل ماركس ذلك التقدمي، وعلى رغم خطابه النقدي اللاذع ضد كل تمظهرات المثالية والميتافيزيقا، يبدو في نظر الدراسات الثقافية المفتونة بزج النظريات العلمية في متاهة الثقافة والهوية، والمتورطة بتفتيت المعرفة الإنسانية بين جزر هوياتية وإثنية، يبدو ماركس في نظرها يهودياً تحركه آليات سيكولوجية لا واعية كالدفاع والتعويض، وهذا يعني في المحصلة أن ماركس والماركسية ما هي إلا أعراض مرضية عصابية (بتعبير التحليل النفسي) لجماعة مأزومة جنى عليها التاريخ… مسكينٌ ومساكينُ أتباعُه!

 

إنّ الهوية تسمية، والتسمية فعل سلطة، والسلطة هنا مبررة بشرعية شبه ميتافيزيقية، سرمدية تحمل كل سمات القهر، فالاسم حزين كملامح زنجية لا تتغير

ad

 

يخبرنا البازعي أن في فكر ماركس سمات يهودية: «الأولى تتمثل في دفاعه عن حق اليهود في التمسك بدينهم، والثانية في نقده للثقافة الغربية متمثلة في حقوق الإنسان. ولعل من الواضح أن المسألة الأخيرة متصلة بالأولى بشكل حميم، فالحاجة الدفاعية أملت النقد وفي الحالتين صورة للوضع القلق لماركس نفسه بوصفه منتمياً إلى منظومتين ثقافيتين مختلفتين، ومصالح سياسية واجتماعية واقتصادية متفاوتة بالضرورة أيضاً». والسؤال: هل ما جاء به البازعي على لسان ماركس فعلياً في كتابات ماركس، وثانياً، ما علاقة الدفاع عن حق اليهود في التمسك بدينهم بمشكلة الهوية أو الأصل اليهودي لماركس؟ أمّا نقد حقوق الإنسان فلا شأن له البتة بأصول ماركس اليهودية، فهذا النقد يعود إلى نظريته النقدية نفسها، نظرية الصراع الطبقي ولا شأن لها بالدين وهو عنصر ينتمي إلى البنية الفوقية بحسب النظرية الماركسية.

ad

 

إقحام الهوية ولصقها عنوة بعمل ماركس يحيلان الملامح الماركسية الحية إلى ملامح وجه ميت حزين. كان والد كارل هاينرخ ماركس محامياً متأثراً بفكر الأنوار قد تعمد وتحول إلى البروتستانتية على أنه كان ربوبياً يؤمن بوجود إله من دون الحاجة إلى الأديان، وقد كان هدفه من وراء تحوله إلى البروتستانتية، كما يقول مؤرخ سيرة ماركس ميخائيل هاينريخ في كتابه «كارل ماركس وولادة المجتمع الحديث»، البقاء محامياً، أمّا كارل ماركس نفسه فقد كان مندمجاً بقوة في الثقافة الأوروبية، شهد تحولات فكرية، لكن وعيه تشكل بمعزل عن أصوله الإثنية، وفي فترة مبكرة في حياته، حتى أطروحته للدكتوراه التي تحمل عنواناً لافتاً: «الفرق بين فلسفتي ديموقريطس وأبيقور في الطبيعة» شاهد على ميوله الفلسفية المادية، فبأي معنى يمكن وسمه بالهوية اليهودية كما لو كان حاخاماً!

يحشر البازعي في سعيه لكشف المكون اليهودي، أسماء كبيرة تعلن انتماءها للتنوير والمرجعيات العلمانية، داخل هذا القفص اللعين للهويات الموسومة بالشقاء الأبدي، إنهم يهود حتى وإن لم يكونوا كذلك، يهود رغماً عن أنوفهم. وما ينتجونه من فكر لا يفهم إلا على أرضية مرضية نفسية. يشمل الأمر دوركهايم وأساتذة معهد فرانكفورت وجاك دريدا الذي لم يتحدث عن الاختلاف والتقويض إلا لأنه كان كذلك يهودياً. وشم الاختلاف يشوه الجسد ويحيل الخطاب إلى محض هذيان. لم يكن فرويد الذي قال إن موسى ما هو إلا مصري من أتباع أخناتون سوى يهودي متنكر. يقول البازعي إنه لا يفهم فرويد. هناك تناقضات وهوية ملتبسة و«انتماء رجراج» فالرجل علماني مخلص، دنيوي، أو بتعبير أكثر صراحة لا ديني، أو هو يهودي بلا إله، كما وصف نفسه ذات مرة، لكنه يعلن يهوديته على رغم تخليه عن المعتقد اليهودي والطقوس اليهودية ففي العمق يقبع الجوهر اليهودي ثابتاً لا يتزعزع، وقد كان دافع فرويد في كتاباته الأخيرة والتي تتضمن نقداً تاريخياً دينياً -كتابه «موسى والتوحيد» مثلاً- لم يكن وفق تحليلات البازعي سوى الخوف من الاضطهاد والذي بلغ ذروته مع وصول النازية للحكم في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين. فما فعله فرويد لم يكن سوى جريمة قتل رمزية سعياً نحو الاندماج الاجتماعي في الهوية الأوروبية. إن مكتشف عقدة أوديب هو ذاته حبيسها إذ يشكل القتل الرمزي تحريراً للذات من التركة الثقيلة للتراث والإيمان اليهوديين، التقويض الفرويدي نتاج مرضي. وإن لم يكن كذلك فهو في أحسن الأحوال خطاب يهدف إلى التعايش أكثر من التقويض.

ad

 

لكن لهذه القائمة العجائبية، هذا المزيج الملون، من المثقفين اليهود الذين هم كذلك رغماً عنهم، بداية تتمثل في تلك العلامة الفلسفية والشخصية الإشكالية التراجيدية، أعني سبينوزا، فعلى رغم طرده من المجمع اليهودي في هولندا، نجده يختزل بين يدي الخطاب الذي لا يجيد التمييز بين الفكر الموضوعي والثقافة «سواء كانت إثنية أم دينية»، نجده يهودياً سفاردياً كارهاً لذاته!

إنّ الهوية تسمية، والتسمية فعل سلطة، والسلطة هنا مبررة بشرعية شبه ميتافيزيقية، سرمدية تحمل كل سمات القهر، فالاسم حزين كملامح زنجية لا تتغير، إنها الحتمية المثالية الناتجة من هوية أبدية ولدت قبل التاريخ. الهوية هذه تعبير تجريدي عن متعين لا اسم له، فالجماعة اليهودية شأن كل جماعة إنسانية إنما هي جماعات تتلون بتحولات التاريخ والبيئة والجغرافيا، هناك إندماجيون وانعزاليون/ حداثيون وتقليديون/ برجوازيون واشتراكيون. ولو كان الأمر يتعلق بشرائح شعبية من عامة اليهود لهان الأمر لكن الأمر يتعلق بمثقفين، وبوسع المثقف كسر الرهانات والحتمية الثقافية لهويته المحلية والفرعية. لنصغي إليه، يقول: «فالمفكر اليهودي الذي يتفاعل مع الفكر الإنساني بالنقد والإضافة لا يفعل ذلك فقط بوصفه مفكراً وإنما أيضاً وفي غالب الأحوال بوصفه يهودياً وانطلاقاً من مصلحة يهودية في المقام الأول قد تتمثل في تحقيق مكاسب قادمة أو دفع خطر قائم».

ad

 

ليس المثقف اليهودي مثقفاً، فهو قبل أن يكون كذلك هو يهودي، يهودية كارل ماركس هي التي أتاحت له تقويض البرجوازية الغربية (المسيحية) وهو لم يفعل ذلك سوى انتصار لبني جلدته، فالدافع ذاتي شخصي فئوي. وكذلك الأمر يشمل سبينوزا صاحب التنوير المتطرف الذي دعا إلى هدم المؤسسات بما فيها من تقاليد ضربت جذورها في عمق التاريخ، في تمييز واضح يضعه البازعي استناداً إلى مؤرخ يهودي يدعى جوناثان إسرائيل، بين تنويره «المتطرف» وتنوير آخر أكثر اعتدالاً، ذلك الذي مارسه أمثال فولتير وروسو، لكننا نعرف أن فولتير دعا إلى سحق العار، وهناك الكثير من المفكرين المحسوبين على التنوير لم يكونوا أقل تطرفاً من سبينوزا، «هولباخ» مثلاً وهو المعروف بماديته، على أنه لم يكن يهودياً.

يهمّ البازعي في تعليقاته حول هذه الأسماء وأفكارها وخطاباتها ربط الأساس النظري بالسياق الثقافي اليهودي، مما يوحي بعلاقة شرطية بين النظرية والثقافة الأمر الذي يؤول -إذا أخذنا التحليل إلى مداه الأقصى- إلى نسبية تطعن بالطابع الموضوعي لكل نظرية علمية.

ad

 

هكذا تبدو الهوية قدراً أو سجناً أبدياً أو بنية تحتية أو أساساً لكل أيديولوجيا ممكنة، أو لنقل بعبارة مأخوذة من يهودي آخر هو الناقد الأميركي شتاينر، إنها تراجيديا في زمن موت التراجيديا، «فالهوية اليهودية قدر لا مفرّ منه لليهودي» وكل ما ينتج من تلك الهوية خاضع للتشخيص المرضي، الفلسفة «الحلولية» لسبينزا، الاشتراكية، التحليل النفسي، والأدب أيضاً ممثلاً بروث -مثلاً- وهو روائي أميركي ومثقف آخر متهم بكراهية الذات، إذ لم يتوقف عن نقد بني جلدته، يهودي جاحد وعاق، هذه الفضاءات ليست حقولاً معرفية مبرأة من الانحياز الثقافي، الجينات اليهودية تكمن في عمقها، وهي لذلك لا تفهم إلا على قاعدة مرضية، فما هي إلا آليات نفسية دفاعية معروفة: التعويض عن القهر التاريخي الذي تعرض له اليهود منذ الشتات اليهودي (الدياسبورا) وحتى المحرقة النازية «الهولوكوست».

أمّا العقلانية والتنوير الذي أخرج أبناء «الغيتو» منه، والذي ساعد على إدماج فئة كبيرة من اليهود، بحيث انعكس على خطابهم وحياتهم اليومية، إن كل ذلك يبدو هامشياً، فتحليلات البازعي للهوية اليهودية تستند إلى مرجعية معرفية نسبوية تنبذ المطلق والكوني العقلاني مرتابة من كل موضوعية، كل شيء يتحطم لتبقى الهوية في مكانها مثل قدر دائم وأبدي لم تعهده أساطير الإغريق!

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

سيناريوهات ما بعدَ الحربِ على غزّ.ةَ

  كتب:د.المختار     بعدَ مرورِ أكثرَ من ستةِ أشهرٍ على بدءِ الحربِ على غزّ.ةَ، وسقوطِ أكثرَ من 33 ألفَ .قتيلٍ و76 ألفَ جر.يحٍ، تبدو ...