آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » اليوم السابع… يا غزّة!

اليوم السابع… يا غزّة!

حسن حميد

 

في اليوم السابع، من هذا الفجر الوردي الذي بدأ باكراً ليمحو غبشةَ الوقت الثقيل، وتبعاتِ الظروف الأليمة الموحشة، بدأ باكراً جداً في أرض غزة العزيزة، حين كسر أبناءُ الأرض وعشّاقُها جرارَ الحزن الغامق الذي تكدّس فيها وقرّ منذ مئة سنة وأزيد، وأذاقوا المحتل الإسرائيلي طعومَ الفقد والظلم والموت والهلع والخوف في دغشة الوقت الرمادي، كيما يفتحوا بوابة الحياة للضوء. وكيما تشرق الشموس في القلوب التي ربّت حلم الفلسطينيين، منذ 75 سنة، كي يكبر ويقف أمام مرآة الحقيقة، وكي يكبر وينهضَ بقامته الكاملة أمام العالم أيضاً، وبيده كتاب الحقيقة، وكتاب الصلوات الوطنية، وكتاب الدم الذي حفظ أرواح الشهداء واحداً واحداً، هؤلاء الذين طووا أعمارهم الطّرية من أجل إزاحة هذا الظلموت الذي مدّه الاحتلالُ الإسرائيلي حتى صار كابوساً وأبعد، وجرحاً غائراً وأعمق، وحزناً أوفى من رهبة الغابات وأوحش، ومدوّنة للعنصرية لم يعرفها تاريخ البشرية كلّها، وصورة موجعة تقف الضمائر أمامها حيرى مذهولة لكثرة ما فيها من معاني الصبر، والجسارة، والألم، والبكاء، والفناء، والفقد. لكنّ أهل الأرض وعشاقها، قالوا في مدوّناتهم، وأوحوا في هيئاتهم، ورسموا في خطواتهم، وجلوا ما في قلوبهم من يقينية لا يطاولها باطل، أو زيف، أو ترهيب، بأنهم هم والشجر من فصيلة واحدة، وهم والأنهار من فصيلة واحدة، وقدرُ الأشجار مشدودٌ إلى جذورها، وقدرُ الأنهار مشدودٌ إلى ما حفرته وما أسّست له من أعماق لمساراتها. لقد قالها الزارعُ الفلسطيني، وبوضوح جهير: إنني زرعت أول شجرة خرّوب في ضفة نهر الأردن العزيز، فزرعت روحي توأمة لها، وكتبت اسمي على جذعها، وتلوت على جذورها صلوات البقاء، والأبدية؛ وقالها القروي الفلسطيني الذي أنسن نهر الأردن الهابط من علوة الجبل الشيخ، أنا وأنت، أيها النهر المقدّس، فرح القرى وجذلها داخل البيوت، والحقول، والدروب، وخشوع صلوات آخر الليل.

 

ها هم، الأبناء… طيّ أعمارهم الطّرية، وعنفوانهم الصخري، وخطاهم المديدة، وفي دغشة رمادية الوقت الوسيعة التي أحاطت بالدنيا كلّها، فما عاد اللون الأسود يبين، ولا اللون الأبيض يبين أيضاً، قالوا للزمن، وبعلو الصوت: كفى ظلماً، وقالوا للحزن: امتلأت الجرار وفاضت، وقالوا للفجر، تقدّم يا صاحب الهيبة… تقدّم، لقد انتظرناك 75 سنة، فعلّقتنا أيامها الحرون فوق قناطر الموت لنموت، لكننا لم نمت. طيورٌ نهارية، وأخرى ليلية، أمدّتنا بترياق الحياة. وكتبٌ مسطورةٌ بالحبر المضيء قالت لنا، أنتم أبناء إيل وعناة، أهل الأنسنة والطمأنينة اللتين زرعتموهما هنا وهناك في أم الرشراش جنوباً، وفي رأس الناقورة شمالاً، وفي عكا مرآة نابليون بونابرت الخالدة غرباً، وفي أريحا التي كُتبت فيها أزمنة القرى، والعبادات، وما أقرّته الأرواح من قيم… شرقاً؛ وقالوا للحقيقة: اظهري، تجلّي، انهضي، ابتسمي، أشرقي. وقالوا للمحتل: تعالَ معنا هكذا، وبثيابك الداخلية، لترى ما صنعته من قهر، وإخافة، وترهيب، وترويع، وإماتة خلال 75 سنة ماضية. تعالَ وانظر كيف أخذت من بيوتنا زهرها، ونعناعها، وحبقها وقناديلها، وأفراحها، تعالَ وانظر كيف عشنا 75 موسماً في عرائش القصب، وتحت الخيام، وألواح «الزينكو». تعالَ كي تعرف كيف كانت الأحزانُ، خلال 75 سنة عجفاء، قلائدَ، حبّاتُها هي صورُ سجونك، وحواجزك، وغرف تحقيقك، وأسلحتك، وطغيانك، وظلموتك، وعنصريتك، وقهرك، وزمجراتك، وعربداتك، ونازيتك الجديدة. تعالَ وانظر، أيها المحتل، كيف سللنا خيط هذه القلائد الواحد، لنمحو الزمن الثقيل المُرّ في لحظة نورانية، لا تهبها إلا يد السماء، ولا تتلقّفها بسلال الحب إلا الأرواح العطشى للطمأنينة والحق، والعدالة السّامية.

 

ها نحن ذا، في اليوم السابع من لحظة النور الفلسطيني الوهّاج؛ من لحظة الفعل الذي تمدّه عزائم التاريخ والجغرافية والكتب والصلوات والأحلام بالديمومة الأبدية، كيما تصير الحياة حياة، وكيما يصير الضوء في العيون التي أدمنت البكاء 75 سنة، صفاء وفرحاً، وهي ترى تموز البلاد، تموز الجليل، يردي الخنزير البري أرضاً، فتصيرُ جثتُهُ رجوماً للحجارة السّود، وتصيرُ أنفاسُهُ شوكاً مآلُهُ الحرقُ بالنار الرّاقصة لهباً.

بلى، هي لحظة انتصار الدم الذي صرخ ونادى، واستجار، وتقاوى على ضعف الظروف وهزالها، حتى أُشبعت روحُهُ بمعاني الفجر الوردي الطالع، فنهض واستقام، وبدا على هذه الصورة الواسعة، كيما تعمّ العالم أجمع حاملةً الخبر الفلسطيني البهيج المنادي بالحرية التي لا بديل لها، ولا قفز عنها، ولا عودة إلى جرار الحزن لأنها كُسرت تماماً… وتشظّت.

 

بلى، دائماً يحتاج الفعل الألماسيّ إلى وقته، وها هو قد أخذ حصته من الوقت ليصير ألماساً، وها هو، الآن، يضيء القرى، والأرواح، والدروب، والكتب، وها هو يعمُّ العالمَ مثل أنفاس خفيفة… طروب!

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

السعودية والقضية الفلسطينية والحرب على غزة

  رأي مضاوي الرشيد   يكثر اللغط عند الحديث عن الموقف السعودي من الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام. وهذا ليس بالأمر ...