عندما أصرّ في قصر بعبدا، بعد مقابلته الرئيس ميشال عون، على شروطه لتأليف الحكومة، وتشبّثه بحكومة اختصاصيين من 18 وزيراً، رافضاً الثلث+1 لأي من الافرقاء، بمَن فيهم رئيس الجمهورية، بدا الرئيس المكلف سعد الحريري لا يشبه نفسه. هذا الإصرار – والبعض عدّه عناداً – ليس مألوفاً في سلوكه، هو الذي اعتاد إبقاء الابواب مفتوحة، والتسليم بالأمر الواقع، والتنازل والانحناء للعاصفة حتى.

منذ كلامه الجمعة الفائت، ومغزاه أنه لن يقبل سوى بما يطرحه هو، وعلى الآخرين الانصياع هذه المرة، قطع الطريق على اي حوار خارج ما يريده وخارج ما يرفضه. ليست تلك حاله المعروفة منذ اولى حكوماته عام 2009، عندما وهب المعارضة الثلث+1، وفي حكومتي 2016 و2019 عندما سلّم بما أصرّ عليه رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر. في ما يجري الآن، بلا نبرة تصعيدية وبمخاطبة محترمة لرئيس الجمهورية على انه الشريك لا الخصم – وذلك ما طبع كلامه في بيت الوسط امس – اظهار الحريري تحليه بالصبر وعدم الاستعجال، جازماً بأنه لن يتخلى عن تكليفه اياً تكن وطأة الضغوط وعامل الزمن. لذا لم يُضف كلام بيت الوسط الكثير على كلام قصر بعبدا، ما خلا الاسهاب والولوج في تفاصيل تفاوضه مع عون تحت السقف الذي رسمه، وهو انه هو الذي يؤلف الحكومة. ذلك فحوى استخدامه في قصر بعبدا عبارة «الفرصة الذهبية»، وفي بيت الوسط عبارة «كبسة زر»، كأن على رئيس الجمهورية أن لا يفوّتهما، وأن يسلّم بهما. يلعب الرئيس المكلف الآن اللعبة المعتادة، معكوسة لما اعتاده هو: عوض أن ينحني، يطلب من رئيس الجمهورية في الثلث الثالث من ولايته الانحناء.
حينما قال الجمعة في قصر بعبدا أن ثمة «فرصة ذهبية» يقتضي أن لا تُهدر، محمّلاً المعنيين – والمقصود حصراً رئيس الدولة – المسؤولية، دار همس عمّا توخاه من العبارة غداة عودته من باريس، بعد اجتماع بالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أحاط به الالتباس والغموض من كل جانب، بروتوكولياً واعلامياً وسياسياً، فضلاً عن الوجداني، إذا كان لا بد من الاخذ في الاعتبار حرارة العلاقة الطويلة بين الإليزيه وآل الحريري، المدلَّعين على أدراجه وداخله ومع صاحب البيت.
ليست عبارة «فرصة ذهبية» ابنة اللحظة المرتجلة للرئيس المكلف بعد مقابلة عون، بل تمثّل – تبعاً لما يدور داخل جدران بيت الوسط – عصارة تحرّكه الاخير، بدءاً من الامارات العربية المتحدة وانتهاءً بباريس. بالتأكيد ما خلا زيارة تركيا المقصورة على شأن خاص بالرجل.
وفق ما يُروى من وراء هذه الجدران، سعى عندما بدأ جولته هذه – وكانت لها اهتمامات شخصية اخرى ايضاً – الى موقف عربي ودولي يدعم مساعيه لتأليف حكومة جديدة، نواته الحصول على تأييد الامارات ومصر بداية، من اجل إحداث خرق في علاقته المقطوعة بالسعودية، ومن ثم فرنسا ودورها الموازي مع واشنطن.
في حصيلة الجولة خلص الى المعطيات الآتية:
1 – نال وعداً من الامارات ومصر بدعمه كرئيس للحكومة اللبنانية، وتقديم مساعدات للبنان في المرحلة المقبلة، شرط إنجازه حكومة وفق المواصفات التي حددها هو: مصغّرة من 18 وزيراً اختصاصياً، ليس فيها حزبيون وخصوصاً مَن يمثّل من قريب أو بعيد «حزب الله» والتيار الوطني الحر، عدم امتلاك رئيس الجمهورية المحسوب حليفاً قوياً لـ»حزب الله» على النصاب الذي يمكّنه من تعطيل الحكومة أو فرض استقالتها. لم يمانع الاماراتيون والمصريون في حكومة اختصاصيين لا تُغضب الاحزاب والكتل الرئيسية، لكن وزراءها لا ينبثقون منها. ما طلبه منهما ايضاً اعادة تطبيع علاقته المقطوعة مع السعودية. لا يملك الحريري – وإن في ظل القطيعة الناشبة معها في السنوات الاخيرة – دخول السرايا من دون موافقة الرياض. ما بات معروفاً أن أي تحوّل سعودي مستجد حياله يلي تأليف الحكومة هذه ولا يسبقها. وهي اشارتها الواضحة، المرسلة الى الاماراتيين والمصريين، انها تنتظر مقاربة الرئيس المكلف علاقته برئيس الجمهورية و»حزب الله» في المرحلة المقبلة.

زار الحريري بعبدا بعد نصيحة الرئيس الفرنسي

2 – حمل الرئيس المكلف هذا الوعد الى الرئيس الفرنسي في عشاء 10 شباط، مطلعاً إياه على تعويله عليه، وعلى دعم الاماراتيين والمصريين لخطته. تعقيب ماكرون أن نصح ضيفه بالعودة الى بيروت والاجتماع برئيس الجمهورية، وتأكيد مواصفاته للحكومة الجديدة على انها تعبّر عما تنادي به المبادرة الفرنسية، وخصوصاً توزير اختصاصيين لا يمتون بصلة الى الاحزاب والكتل. ترك له هامشاً مقبولاً يمكّنه من القول لرئيس الجمهورية ما يسعه فعله وما لا يسعه. سلّم الزائر بالنصيحة، واجتمع بعون في الساعات التالية لعودته من باريس، مصرّاً على المسودة التي سبق أن قدمها له في 23 كانون الاول ورفضها الرئيس. أعاد تأكيد حصة رئيس الجمهورية ستة وزراء بينهم الارمني، ما يحول دون حصوله على الثلث+1، فضلاً عن قصر عدد الوزراء على 18. في ما قاله الحريري لرئيس الجمهورية أنه يحمل موافقة صاحب المبادرة، الرئيس الفرنسي، على المواصفات التي طرحها دون سواها. كان من الطبيعي أن يأتي رد عون رفض المسودة، المرفوضة في الاصل منذ 23 كانون الاول.
3 – في مضمون الوعد الذي بات متقاطعاً ما بين الامارات ومصر وفرنسا، الحصول على تأييد اميركي للمهمة المنوطة بالحريري وفق الشروط تلك: حكومة لا وجود فيها لـ»حزب الله» ولا نصاب فعلياً لعون، مقترنة بشرط ألحّ عليه الاميركيون وهو أن لا يؤثر تأليفها، إذا وقع، على المفاوضات الاميركية – الايرانية، ولا يكون أحد عناصرها. ما رامه الاميركيون ان لا يعني تأليف حكومة كهذه تنازلاً إيرانياً يدخل في عداد أوراق التفاوض بين واشنطن وطهران. ما قاله الاميركيون أن لتفاوضهم مع الايرانيين روزنامة لا يدخل لبنان في مراحلها الاولى، ولا يقتضي ان يكون بنداً متقدماً فيها، أو يُفرض عليهم في الوقت الحاضر.
«الفرصة الذهبية» في حسبان الرئيس المكلف، ليست كذلك بالنسبة الى رئيس الجمهورية الذي يقارب تأليف الحكومة على نحو مختلف تماماً. لذا كان من الطبيعي فشل الاجتماع الخامس عشر الذي سيقودهما مجدداً، ما لم يطرأ ما ينقض إرادتيهما، الى قطيعة مكمّلة لما كان بين 23 كانون الاول و12 شباط.