الرئيسية » كتاب وآراء » كيف خرَق “المجتمع المدني” دور اليسار العربي؟

كيف خرَق “المجتمع المدني” دور اليسار العربي؟

| محمد فرج

تعادي هيئات “المجتمع المدني” عناوين تعتبرها قديمة، مثل “التنظيم”، وتفضّل عليه مصطلح “الشبكة”.

بعد أن خرج الاتحاد السوفياتي من الحرب الباردة مهزوماً مفككاً، خرج معه اليسار العربي محبطاً ومربكاً. إذا كان الاتحاد السوفياتي شعر بالمهانة التاريخية جراء انهيار المؤسسات والدولة ووزن القوة الدولية، فقد شعرت أحزاب اليسار بالمهانة الأيديولوجية، على اعتبار أن النظرية التي تبنتها سقطت ولم تعد تعمل. وفي حين أن الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً، وأن الروس استداروا لبناء دولة جديدة، استدار تيار من اليسار العربي لتبني نظريات جديدة، ليست من إرث اليسار في شيء، ولبّت احتياجات اليمين السياسية بما يكفي ويزيد. 

بُنيت آليات عمل تيار “المجتمع المدني” وتوجهاته على 4 أعمدة أساسية:

أولاً: أن تتحوَّل التنظيمات الهرمية المتماسكة إلى شبكات مائعة وغير مضبوطة؛ أي استبدال الأحزاب والنقابات عبر منظمات “المجتمع المدني” الجديدة. وهنا، تتم عملية سرقة ممنهجة للعنوان، فالأحزاب والنقابات هي التعبير العميق لعنوان المجتمع المدني، ولكنها حتماً ليست المكاتب الصغيرة الممولة، ولا المبادرات المبتكرة التي تهبط على المجتمعات من عل.

تعادي هيئات “المجتمع المدني” عناوين تعتبرها قديمة، مثل “التنظيم”، وتفضّل عليه مصطلح “الشبكة” (Networking)، الذي يعطي حالة أكبر من التمييع والسيولة، تحرر أصحابها من تبني البرامج الجذرية والشاملة في المواجهة. تجدر الإشارة إلى أنَّ الولايات المتحدة تصدّر وصفات الشبكات إلى المعارضة والمجتمع، وتحتفظ بمبدأ الهرمية في دوائر الدولة والمؤسسات التابعة لها، لا لشيء إلا بسبب الإدراك العميق لجدوى النمطين في التحرك والتأثير. 

ثانياً: توظيفات بحسب الطلب لشعار “المدنية”؛ مرة تُستخدم ضد الأدوار التي تضطلع بها مؤسسة الجيش في أي بلد، ومرة ثانية في مواجهة الدين في الحقل الاجتماعي. تنطوي إشارة السيد حسن نصر الله في خطابه قبل الانتخابات مع أهالي بعلبك الهرمل على مقاربة عميقة، عندما ردّ على واحدة من التعليقات مبتسماً (من منعك من أن تسبح وتأكل وتشرب؟). 

إن ما يسِم أي تيار سياسي بالاعتداء الاجتماعي ليس كونه متديناً أو “مدنياً”، إنما محاولة فرض نموذجه الاجتماعي على فئات المجتمع: “الصيغة الإيجابية في الفعل”. تركيز دعاية تيار “المجتمع المدني” على هذه المساحات يصوّب عملياً على هدفين؛ الأول هو خلق صورة متخيلة وغير واقعية لمحاولة إلباس فئات المجتمع نمطاً موحداً وتابعاً لجهة سياسية واحدة، والآخر هو تحفيز باتجاه شكل من “المدنية المتطرفة” على شاكلة منع الحجاب في فرنسا، ولا شك في جهوزية قطاعات من المجتمع اللبناني لتلقفها. 

ثالثاً: تعطيل عمل قضايا التحرر الوطني. على أهمية المدنية والمواطنة كشعار، إلا أن هذه التيارات توظفها في اتجاه تعطيل عمل قضايا التحرر الاجتماعي. وعلى العكس من ذلك، تضع شعارات المدنية والمواطنة كأولوية حاسمة، يمكن في سبيلها تهميش بنود بحجم التخلص من الهيمنة الأميركية ومجابهة التطبيع. في الحالة اللبنانية مثلاً، يدعو المتحمسون لبناء “دولة المواطنة” إلى نزع سلاح المقاومة. وهكذا، عبر “حجة محلية وداخلية خالصة” هي بناء دولة المواطنة، يصبح نزع سلاح المقاومة مسألة مشروعة!

رابعاً: لماذا تلاحق سمة الارتباط بالخارج عدداً كبيراً من رموز هذه التيارات؟ لا يعود ذلك فقط إلى تصريحات مشابهة لما أدلى به ديفيد شينكر في ندوة معهد واشنطن، إنما إلى الاستغراق المريب لهذه التيارات في القضايا المحلية، بوصفها محلية فقط، فهي تعتبر أن دولة المواطنة تبنى استناداً إلى قرار داخلي، ويتم عزل قضايا الصراع الإقليمي كأنها بلا وزن في صياغة السياسات الداخلية.

وبذلك، تصب كل القرارات الداخلية البراقة في مصلحة السياسة الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. ولو أعدنا النظر إلى الوراء 10 سنوات، وبالتحديد إلى ما جرى في سوريا، فسوف نجد تياراً مشابهاً، وبعناوين مشابهة، كان يحاول اختصار ما جرى في سوريا بقضية محلية وصراع أهلي. وبذلك فقط، أشرعت أبواب المدينة لريح الخارج.

تجدر الإشارة هنا إلى أن عنوان المقال يدل على تأسيس سكة تيار “المجتمع المدني” عبر شخصيات غادرت اليسار العربي. في البدايات، قالت إنها أسست “يساراً خاصاً”. وفي النهايات، حملت اسماً مستعاراً بعنوان “المجتمع المدني”.  

سيرياهوم نيوز3 – الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

سيناريوهات ما بعدَ الحربِ على غزّ.ةَ

  كتب:د.المختار     بعدَ مرورِ أكثرَ من ستةِ أشهرٍ على بدءِ الحربِ على غزّ.ةَ، وسقوطِ أكثرَ من 33 ألفَ .قتيلٍ و76 ألفَ جر.يحٍ، تبدو ...