آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » ميثاق المواطنة: دور المكوّن الأكبر في بناء الدولة الجديدة

ميثاق المواطنة: دور المكوّن الأكبر في بناء الدولة الجديدة

 

 

د. سلمان ريا

 

منذ ولادتها المضطربة على أنقاض السلطنة العثمانية، ومن رحم خرائط سايكس-بيكو وتقسيمات الانتداب، لم تكن سوريا كيانًا سياسيًا فقط، بل سؤالًا دائمًا عن إمكانية بناء وطن موحّد في مجتمع متعدّد. لم تكن إشكالية العلاقة بين الدين والدولة مجرّد خلاف دستوري أو تنظيمي، بل تعبيرًا عن مأزق أعمق: كيف تتأسّس دولة تتسع للجميع دون أن تُلغي أحدًا؟ وكيف يمكن للهوية أن تكون جسرًا لا خندقًا؟

 

لقد حاول جيل الاستقلال الأول أن يُجيب عن هذا السؤال بشجاعة التأسيس، حين صاغ شعار “الدين لله والوطن للجميع”، ساعيًا إلى تحييد الدين لا إقصائه، وإلى إدراج التعدّدية ضمن صيغة مدنية لا تُلغي الموروث، بل ترتقي به من الخصوصية إلى المشترك الوطني. في هذه الصيغة الوليدة، لم يكن الحضورُ المنتمي إلى المكوّن الأكبر في الحياة العامة تمثيلًا سلطويًا مغلقًا، بل تَمثّل ذلك المكوّن بوصفه النسيج الأوسع والأكثر تعذّرًا على الطائفية. فبتنوّعه الداخلي، الجغرافي والفكري والروحي، تَشكّل هذا الحضور كحقل وطني حيّ، لا ككتلة مذهبية.

 

تميّز المكوّن الأكبر في سوريا بأنه لم يركن إلى مرجعية واحدة، بل انفتحت مدارسه الفكرية على طيف واسع من المقاربات: من التصوّف الدمشقي الذي مثّله الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الجامع بين الأصالة الفقهية والولاء للدولة، إلى القراءة التجديدية العقلانية التي قدّمها الدكتور محمد شحرور، مرورًا بخطاب اللاعنف الجذري الذي مثّله المفكر جودت سعيد، والمنظور التوفيقي المنفتح الذي عبّر عنه الدكتور محمد حبش، وصولًا إلى الحضور الروحي الجامع للشيخ أحمد معاذ الخطيب، الذي أعاد للمنبر الديني وهجه الوطني، بوصفه صوتًا للضمير العام لا ممثّلًا لطائفة.

 

وعلى الصعيد السياسي، شكّلت شخصيات كالدكتور هيثم مناع وجمال الأتاسي سابقًا، ومحمد شيخوني حاليًا، تجسيدًا لهذا التنوّع الفكري. مناع، بثقله الحقوقي واستقلاليته عن المحاور، مثّل صوت العقلانية المدنية، والأتاسي كأحد أبرز دعاة القومية الديمقراطية، حمل مشروعًا للحرية يتجاوز الطائفية والاستقطاب، فيما برز محمد شيخوني في السنوات الأخيرة بجهد فريد لتكوين جسم سياسي وطني تعددي، لا ينطلق من ردود الأفعال، بل من رؤية استراتيجية تنفتح على مختلف المكوّنات السورية وتسعى إلى بلورة مشروع عقد وطني جامع.

 

وفي المشهد الوطني، لا يمكن تجاهل الأثر الفاعل للمرأة السورية، التي لم تكن يومًا على هامش الحياة العامة. فقد مثّلت الدكتورة نجاح العطار، أول نائبة لرئيس الجمهورية، رمزًا للتوازن بين الثقافة والدولة، وعبّرت عن حضور معرفي رصين في لحظة افتقاد الدولة لصوت نسائي وطني. كما شكّلت الدكتورة لبانة مشوّح، وزيرة الثقافة، صورة المرأة السورية التي توازن بين الجذور اللغوية والآفاق الحداثية، بانفتاحها على التنوّع الفكري دون التخلي عن العمق الهوياتي. كذلك، كان لحضور الدكتورة صالحة سنقر بُعد خاص في الدفاع عن التعليم والقيم الاجتماعية، من موقعها الأكاديمي والتربوي، مما جعلها من الأصوات النادرة التي تمثّل تماهي العلم بالوطنية، والأنوثة بالمسؤولية العامة.

 

اقتصاديًا، ساهم رجال أعمال مستقلّون – من أبرزهم أيمن أصفري – في دعم مبادرات تنموية ومدنية بعيدة عن الأضواء. ولم يكن هذا البعد الاقتصادي مجرد نشاط مالي، بل امتدادًا لثقافة الاعتماد على الذات والتكافل الأهلي، خاصة في مناطق أنهكها التهميش والإهمال.

 

إن هذا التنوّع لم يكن مصدر ضعف، بل حصانة غير مرئية ضد الانزلاق نحو التطرّف أو العزلة. فعلى الرغم من محاولات بعض الأنظمة توظيف الدين في تعزيز الولاء أو تجفيف الحياة السياسية لصالح سردية واحدة، ظلّ المكوّن الأكبر عصيًّا على الاصطفاف الشمولي. لم يُنتج خطابًا موحّدًا ضد الدولة، بل بقي جزءًا منها، منقسمًا على ذاته بقدر ما كان متجذّرًا في التراب السوري العام.

 

لكن لا يمكن قراءة هذا المشهد بمنأى عن السياق العام لتطوّر الدولة السورية، التي منذ الاستقلال كانت مشدودة إلى تناقضات مؤلمة: بين العروبة والدين، بين التحديث والموروث، بين المدينة والريف، وبين الدولة المركزية والطموحات اللامركزية. وقد فشلت معظم الأنظمة المتعاقبة في تقديم صيغة تستوعب هذا التنوّع ضمن ميثاق جامع. ففي عهد البعث، طُوّعت الدولة لمصلحة سردية الحزب والقائد، وأُخضع الدين لأدوات السيطرة لا للتكامل مع المجتمع، مما عمّق الانقسامات المقنّعة، وحوّل الهوية من أفق وطني إلى أداة تحشيد ومواجهة.

 

وهكذا، تراجعت المواطنة لحساب الولاءات الأولية، وتهمّش التعدّد لحساب مركزية ضيقة لا تُنتج شرعية ولا استقرار. ورغم ما شهده المشهد من محاولات إصلاحية فكرية وسياسية، بقي غياب الميثاق الوطني هو الثغرة الكبرى في البناء السوري.

 

لكن أي مراجعة منصفة يجب أن تبدأ من الاعتراف بأن المكوّن الأكبر عددياً، رغم حضوره الواسع، لم يكن مركزَ وصاية، بل طاقة فاعلة وموزّعة عبر البلاد. من مآذن حلب ودمشق، إلى قبائل دير الزور وسهول درعا، ومن الريف المحروم إلى الجامعات، ومن الفقهاء إلى رجال الاقتصاد، ومن الخطاب الديني التقليدي إلى التجديدي، شكّل هذا المكوّن شبكة واسعة لا يمكن اختزالها في صورة واحدة، ولا تلخيصها بلون سياسي أو مذهبي.

 

غير أن الدولة الوطنية التي نطمح إليها، لا تقوم على إقرار الأكثرية، ولا على توازن الخوف. إنها دولة الميثاق – ميثاق مدني تعدّدي، يعترف بالتنوع لا كحالة مؤقتة، بل كعنصر تأسيسي في الهوية السورية. ميثاق يُخرج الدين من هيمنة السلطة من دون أن يُقصيه عن الحياة العامة، ويفصل الانتماءات عن الدولة من دون أن يفصلها عن المجتمع، ويوزّع السلطة والثروة بعدالة في إطار لامركزية متوازنة تحترم الخصوصيات من دون أن تُفكّك الكيان.

 

ولا يمكن لهذا الميثاق أن ينجح دون مشاركة متكافئة لكل المكوّنات. فالمكوّنات ذات الرصيد القيمي والاجتماعي، والمكوّنات ذات الميراث الثقافي، والمكوّنات ذات الامتداد الأخلاقي والتاريخي، والمكوّنات المؤسسة في النهضة السورية، والمكوّنات القومية ذات الجذور العريقة في الأرض – جميعهم ليسوا “أقليات”، بل شركاء أصيلين. لا مستقبل لسوريا من دونهم، ولا وحدة وطنية من دون عدالة متوازنة في تمثيلهم.

 

أما المكوّن الأكبر، فلا يمكن أن يستعيد دوره بمجرد استدعائه كمكوّن عددي، بل بقدرته على أن يكون مظلّة وطنية جامعة. ليس وَصِيًّا، بل شريكًا مؤسِّسًا. لا من خلال خطاب الغلبة، بل من خلال خطاب الشراكة. فكل تحوّل وطني لن يكون ممكنًا دونه، لكنه أيضًا لن يكون مشروعًا أخلاقيًا دون اعترافٍ حقيقي بتنوّعه وامتداداته.

 

إن الخروج من دوامة الطائفية والانقسام لا يمرّ عبر محو الهويات، بل عبر تجاوزها إلى أفق المواطنة. المواطنة التي لا تعني تذويب الخصوصيات، بل تفعيلها ضمن صيغة سياسية تضمن المساواة، وتحترم الفروق، وتُحسن إدارة التعدد. فقط عندها يمكن أن ننتقل من سؤال: “لمن الدولة؟” إلى الجواب الأصدق: “لنا جميعًا”.

 

سوريا لا تحتاج إلى دولة مكوّنات، بل إلى دولة تُدير هذه المكوّنات بعدالة. ولا تحتاج إلى مكوّنٍ في موقع القيادة، بل إلى مكوّنٍ في موقع الشراكة. ولا تحتاج إلى أكثرية صامتة، بل إلى أكثرية فاعلة وعادلة. فبغيرهم لا تستقيم الدولة، لكن من دون عدالة لا تستمر.

 

إننا بحاجة إلى عقل جمعي سوري يُدرك أن الغلبة وَهْم، والمساواة ضرورة، وأن كل مكوّن هو مرآة للآخر، لا خصمه. وحين يعمّ هذا الإدراك، يمكن أن تنشأ سوريا جديدة: دولة لا تخاف من تنوّعها، بل تنبع قوتها منه.

(موقع اخبار سوريا الوطن-1)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أي هوية سورية جامعة!

  غاندي المهتار   الأخ المجاهد أبو محمد الجولاني المحترم. ما دمت أنت الأصيل على ما يبدو اليوم، فلا ضير من التوجه إلى جنابك رأساً، ...