آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب الأسبوع » “الطيور الحمر”.. رواية باكستانية عن الحرب والسياسة

“الطيور الحمر”.. رواية باكستانية عن الحرب والسياسة

| محمود بري

تميّز الكاتب بالتقاط فظاعة الحرب وما يترتب عليها من حقائق بغيضة. أظهر براعته من خلال دمج قصة الحرب ومأساتها بمجريات ووقائع حياته، فجاءت الرواية أشبه بسيرة ذاتية غير مُعلنة للكاتب.

الكتاب: الطيور الحمر

تأليف: محمد حنيف 

ترجمة: علي عبد الأمير صالح 

الناشر: دار المدى- بغداد – 2022 |

تأخذ رواية محمد حنيف في مساراتها المتشعّبة شكل السيرة الذاتية لكاتب ساخر ومُغامر ينبش في جراحه عاملاً على استنطاقها ودفعها إلى الورق، نصوصاً مكتوبة بحبر معاناة ناقد لا يفقد أعصابه أمام الأهوال، لكنه لا يمون على قلمه الذي يوّرطه أحياناً، في حال عدم توافقه مع غريزة الخوف. هذا ما يسقطه في مطبّات كان ينبغي أن تزهق روحه، لكنها، لسبب قدري، لم تفعل… وتركته حيّاً يسعى، ويكتب.

عن خلفيته المبكرة يقول في أحد لقاءاته الصحافية بشأن الرواية: “أعتقد أنني كنت في المدرسة لمّا اندلعت الحرب الأفغانية. هكذا نشأت في خضم ذلك النوع من الصراعات التي راحت تتكاثر في العالم، وأبداً لن تنتهي، بل سينتقل التركيز من مكان إلى آخر فقط. لذلك فمن المنطقي أن تسكنني الحرب وأن أكتب عنها”.

كان حنيف دائماً تلميذاً نجيباً منذ عهده بالمدرسة الحكومية، وطالباً متفوّقاً في دراسته الثانوية. بعد تخرّجه وقع على إعلان للتوظيف في إحدى الصحف المحلية الباكستانية وهو لا يعرف نوع العمل الذي يتقدم له. ولم يلبث أن حاز على إعجاب الجهة التي نشرت الإعلان، ووجد نفسه يوقّع عقداً لمدة ثمانية عشر عاماً مع مؤسسة القوات الجويّة الباكستانية. من هنا جاءت روايته مليئة بالإشارات إلى العتاد العسكري وإلى مرارته الشخصية كشخص نشأ في هذه “الحرب اللانهائية” كما يسمّيها، وشاءت أقداره أن يشارك فيها. و”حين كان يتوقف القصف فذلك يكون دائماً بسبب ظروف غامضة لا يفهمها لا الضحايا ولا المعتدون”.

بعد أن بدا جليّاً أنه لم يكن ميّالاً للخدمة العسكرية ولا جديراً بممارستها، أطْلق سراحه قبل عشر سنوات من انتهاء عقده، لينتقل في ما بعد إلى الحياة المدنية، بين الساسة الصغار ورجال الأعمال وسط العصابات المتصارعة.

في “الطيور الحمر” تميّز حنيف بالتقاط فظاعة الحرب وما يترتب عليها من حقائق بغيضة. أظهر براعته من خلال دمج قصة الحرب ومأساتها بمجريات ووقائع حياته، فجاءت الرواية، مع المشاهد الهزلية والمأساوية الجارحة والثاقبة، أشبه بسيرة ذاتية غير مُعلنة للكاتب، نمط فريد من السيرة الذاتية. لذا تراه يخلط الأحداث الحربية في ذروة الغزو الأميركي لأفغانستان بوقائع حياتية عاشها. وقد نجح بامتياز في تضمين الرواية تلك السخرية الفذّة عن عبثية الحرب الأميركية وعرضها بطريقة استفزازية مثيرة للاهتمام.

في الصفحات الافتتاحية للرواية التي تبدو كمناورة نموذجية وجريئة من طيّار هو في قرارة نفسه كاتب ساخر، لم يُغفل الإشارة بصراحة إلى أنه كان طياراً سيئاً للغاية؛ يقول:” حقاً كنت ماهراً في الإقلاع، ولكن عليك أن تهبط بالطائرة بأمان أيضاً. وفي مجال الطيران تحديداً، عليك أن تنجز الأمور بسرعة بالغة، في حين أنني أفضّل أن أفكر مليّاً في الأمور… هذا ما فعلته خلال كتابتي روايتي”.

خلال فترة تقميشه الرواية عمل في مجلة “نيوز لاين” السياسية، وفيها التقى برئيسة تحريرها “رضية بهاتي” التي يعزو إليها الفضل في تحوله من صحافي إلى روائي. يقول “علمتني بهاتي قيمة الجملة الجيدة، وأن الأمر ليس مجرد طرح قصة مخزية (…) بفضلها أدركتُ أن ليس هناك ما يدعو إلى الخجل في كوني كاتباً مناضلاً، ولذلك عدلْت عن كوني خجولاً ومتكتّماً حول الرواية التي تسكنني ويلاتها”.

تحطم الطائرة

يحدث أن يتم إسقاط طائرته ليخرج منها حياً بالباراشوت ويجهد في لملمة عتاده والبحث عن ملاذ. كانت المظلة قد رمته بعيداً عن موقع التحطم، لذا كان همّه الأول، بعد أن أمن “العدو” الذي أسقطه، أن يعمل على “البحث عن حطامي”… يعني حطام الطائرة.

يقول: “في اليوم الثالث من البحث العنيد، كما يفعل في الغالب كل طيار حربي تُسقط طائرته، كنتُ أفتش عن شيء آكله أو أشربه، عن أيّ شيء ذي قيمة غذائية حقيقية في العتاد الذي لم يحترق في الحطام. أعرف أنني كنت غير قادر على البقاء حياً لمدةً طويلة من دون أيّ إسعاف، وأن عليّ أن أعثر على المؤن التافهة في “عدّة البقاء” على قيد الحياة التي يُزوّد بها الطيارون الحربيون”.

ويتابع: “ها أنا أعثر ما أظن أنه ضالتي، أي كل ما هو متوافر لي في هذه الصحراء التي لا بداية لها ولا نهاية. “باراشوت” ممزق ونظارات شمسية عادية هي كلّ ما وجدتُه على مؤخرتي المُصابة بالكدمات حين أفقتُ من إغمائي. “ملائكة جوّالون” سوف يكونون في طريقهم لإنقاذي، إنما في أغلب الأحيان فإن هؤلاء “الملائكة” يأخذون وقتهم (…). ومن أجل أن أجعل من هذا الإنقاذ ناجحاً، كان يتعين عليّ أن أبقى حياً. أفتحُ سحّاب “عدّة البقاء” الذي بحوزتي من جديد كي أتفحص محتوياته… وهي الأشياء التي سوف تُبقيني حياً. وجدت أربع قطع بسكويت طاقة، عبوّتان من عصير فاكهة غنية بالفيتامينات، لفّة من القطن الجراحي. لفّة من الشاش، إبرة وخيط لتضميد الجراح. كان ينبغي أن أكون متمرّساً باستعمال عدّة إنقاذ الموتى المؤجلين”.

بعد هذه الأسطر، ولسبب لم يكشفه، ينسب المؤلف كل هذا إلى من يسمّيه “الطيار الأميركي “الرائد إيلي” الذي تحطمت طائرته في صحراء مجهولة”. وهو في الواقع الكاتب نفسه معتمداً هذا اللقب ربما لإبعاد العسس عنه. ولأنه كان متأكداً أنهم سيعثرون عليه وسط الرمال، يُعلّق بطريقته اللافتة: “إنهم يضعون الآن شرائح نظام تحديد المواقع في الحيوانات الأليفة والطيور المهاجرة، هل يعقل أن يتوه شخص يحلّق في آلة تبلغ كلفتها خمسة وستين مليون دولار”؟

الصبي “الإمبريالي”

يبدو الكاتب ماهراً في رسم الشخصيات الحية التي قد تبدو مضحكة أحياناً في سياق الرواية، ولكنها تمثل حقائق مزعجة. يُقدّم للقارئ الصبي “مومو” الذي التقاه في الصحراء بينما كان يبحث عن حُطام طائرته. “مومو” هذا “كانت تهيمن على عقله بشكل هوس الأفكار الرأسمالية الإمبريالية وجني المال، وهو أمر يزعج. كان جائعًا حين التقينا وتجولنا لمدة عشرة أيام على غير هدى؛ هو يبحث عن شقيقه المفقود… (يُفترض أنه تم أسره من قبل قوات العدو في قاعدتهم المسماة”Hangar”) )، وأنا أبحث عن حطامي (…). وبعد العثور على ضالتي وافقت على الانتقال إلى منزله”. كان لديه “أم حزينة، ووالد لا يعرف شيئاً عن مكان تناثر جثته التي مزّقتها قنبلة ذكية”. وعلى الرغم من حداثة سنّه، بدا “مومو” كرمز للشباب الذي صنعته الحرب. “كان أكبر من سنوات عمره، ويُدلي بملاحظات مبتكرة أحياناً تشوبها مرارة هادئة، مُعتادة، تدور في مجملها عن الحرب”.

وفي عودة إلى نقطة أخرى تشغل تفكيره يقول: “يتساءل الناس عن مكان حدوث الرواية، وأجيب إنها تحدث في رأسي”. وكما لو أنه كان يأمل في أن يكتب رواية لا مكان للأحداث السيئة فيها، يقول: “أعرف أناساً كثيرين سعداء في حيواتهم ويقومون بأعمال فاضلة أو يؤمنون بأن ما يفعلونه هو أمور جيدة. أنا و”مومو” كُنّا على الضفة الأخرى”.

الواقع أن رواية “الطيور الحمراء” باتت اليوم كأنها أوبرا تملأ القاعات السياسية المشحونة للغاية في الباكستان. قسوتها الحقيقية تكمن في تلك الثنائية بين الطيار والباحث الميداني في ذلك العالم المثالي الوهمي المُسمى “منظمة الإغاثة الدولية”. هذا ما يقوله الكاتب في مقدّمة الرواية ويسجله على لسان الشخصية التي ابتدعها “الرائد إيلي”. ثم يعود إلى صراحته المغامرة فيكتب: “لو لم أقم أنا بقصف مكان ما فكيف ستقوم تلك المنظمة بإنقاذه؟ (…) وما لم تنهمر النيران من السماء، فمن سيحتاج منظمة الإغاثة لإخماد تلك الحرائق على الأرض؟ (…) ما حاجتك لأن يرمي أحدهم البطانيات على الأطفال المحترقين، لو لم يكن هناك فعلاً أطفال يحترقون”.

يقول في سياق الرواية: “في إحدى المرات أنقذت بهاتي حياتي حينما رفضت إعطاء عنواني لعناصر الشرطة الذين اتصلوا بها في الثانية فجراً بحثاً عن المراسل الذي كان وقحاً في كتابته بشأن سياسي محلّي”. وكرد جميل لها جعل من اسمها عنواناً لروايته الثانية “سيدتنا أليس بهاتي” التي نُشرت عام 2011.

يقول عن تلك التي أنقذت حياته: “بفضل بهاتي أدركت أن ليس هناك ما يدعو إلى الخجل في كوني كاتباً مناضلاً، ولذلك عدلْت عن كوني خجولاً ومتكتّماً حول الرواية التي أكتبها”، يعني “الطيور الحمر”.

الطلقة القاتلة

حين نشر روايته كان في لندن. وفي مقابلة أجرتها معه الصحافية البريطانية “كلير أرميستيد” بعد نيله جائزة “بوكر”، قال: “لكي تتمكّن من إعطاء رأيك بالسياسة في باكستان عليك أن تكون خارج البلاد”. إلا أنه  وبعد حدوث الهجمات على مركز التجارة العالمي في 11 أيلول / سبتمبر 2001، “ذلك الحدث الذي أجبر الغرب على مواجهة العواقب المثيرة للحروب التي يبتكرها”، كما قال، سارع بالعودة إلى بلده واستقر في كراتشي. لكنه كان أكثر اطمئناناً وثقة هذه المرة. فقد نشرت روايته دار نشر “راندوم هاوس” الهندية الكبيرة، وهذا نوع من الدرع الذي ينبغي أن يحميه لا سيما وقد أصبح مشهوراً واسمه يلمع وحاز على جاذبية مستجدة. ثم إنه كان على قناعة تامة بأن “الجنود في الجيش الباكستاني لا يقرأون الكتب”.

بعد مضيّ عامين انقلبت الأمور إلى الأسوأ، بخاصة حينما تمّ منع أيّ حديث في لاهور عن المختفين قسريّاً. عندها قرّرت صديقة لحنيف، وتُدعى “سابين محمود”، أن تنظّم حدثاً لتكريمه في مكتبة مقهاها الصغير في كراتشي.

يقول حنيف: “كان ثمة خوف يستولي على عقولنا. أخبرتها كيف أن المشاعر كانت مضطرمة، ورغبتُ إليها أن تؤجّل الحدَث بضعة أيام فقط. لكنها رفضت بشجاعة جنونية لا تخلو من منطق قائلة له: “الخوف هو الخط الفاصل في رأسك وعليك أن تتجاوزه”. في موعد الحدث لم يكن حنيف قادراً على الحضور، إذ كان مشغولاً بالتصوير في إسلام آباد، أي على مسافة 900 ميل من كراتشي، لذلك اكتفى بمتابعة إجراءات الحدث عبر التويتر من غرفته في الفندق. ويقول في هذا الصدد: “انتهى الحدث ونزلت سابين إلى موقف السيارات… بعدها تلقيت رسالة مزلزلة على هاتفي تقول: أُطلقت النار على سابين محمود من مسافة قريبة بينما كانت تقود سيارتها مبتعدة بعد انتهاء الحَدَث، وتوفيَت على الفور”.

ويعلّق كاتباً: “لا أعتقد أنني أو أيّاً من زملائي قد تعافينا من تلك الطلقة بعد”.

خلال السنوات التي أمضاها في باكستان، كان أصدقاؤه يأخذون عليه جرأته المغامِرة في الكتابة للصحف المحلية وينصحونه في الإقلاع عن ذلك ليضمن السلامة. ويقول في ثنايا مقدمة روايته: “كنت أعمل على روايتي سرّاً وأعلم أنني إذا خرجت ليلاً رفقة كلبي، لن يقترب مني أي إرهابي أو شرطي أو سارق”، وكتكريم لرفيقه الكلب، ابتكر شخصية الكلب “مات” المهجّن الخارق الذكاء في “الطيور الحمراء”.

تأتّت للكاتب مهارة استثنائية نجح بها في المزج بين احتمالين متباينين، فكاهي ومأساوي، ليقدم مزيجاً رائعاً لقرائه. على الرغم من أن نثره لا يحتوي على زخرفة تزيينية ولا خيالية زائدة عن الحاجة، إلا أن أسلوبه الجذاب وسرده الآسر يجعلانه قراءة ممتعة.

يقول على لسان الرائد ايلي: “سيرتي الذاتية بالكامل يمكن أن تتناسب مع سطرين: رجل واحد، 637 مهمة، بضعة آلاف الأطنان من أجود المتفجرات يجرى إلقاؤها في بعض أكثر الأماكن فقراً في العالم”.

الخاتمة

يصوّر الكاتب نفسه على أنه “المخادع والشرير والضحية، ويرسم عالماً يسكنه بشكل حصري المغفلون والأشرار وضحايا حرب أميركا الأبدية. وفي لحظة حاسمة من روايته يكتب: “حين لا أتكلَّم لا يعني أنني لا أشعر ولا أحسّ. لا أريد أن أموت هنا؟ أريد أن أموت هناك، لا أريد أن أُبعث يوم القيامة في أي منفى، لأنني سأكون مضطراً أن أسير طويلاً إلى وطني”.

تسود الرواية أصناف من النقد اللاذع والساخر دائماً تجاه سياسات الحرب الأميركية والتدخل الأميركي القسري في الشرق الأوسط. ومن أهم السمات وأكثرها وضوحاً بين أسطره كان وصف الآثار الوحشية التي ترتبت على الحرب في أفغانستان، على الرغم من أن أحداث الرواية تدور في بلد غير مسمى، إلا أنه يمكن التخمين بأنه “موجود في مكان ما في الشرق الأوسط، حيث تمطر القوات الأميركية القنابل من أجل تدمير البلاد”.

تتضمن “الطيور الحمر” نمطاً من السرد المبتكر لاستراتيجيات الحرب الإمبريالية الأميركية الجديدة، وللازدواجية المنفّرة التي تنطوي عليها (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، والسعي الأميركي المحموم لتحقيق نظام اقتصادي رأسمالي في منطقة إسلامية. يسخر الكاتب بمرارة من مجتمعات العالم الثالث الإسلامية المحاصرة في الدوغماتية ونقص التنمية وأشكال التدهور الثقافي. وتبدو روح الدعابة المظلمة وسيلته المعتمدة لفضح المخالفات، فضلاً عن إثارة المفاهيم الثقافية الخاطئة على جانبي الثنائية الجارحة في الرواية: الولايات المتحدة، الإمبريالية الجديدة المتقدمة، ودولة إسلامية في العالم الثالث غير مستقرة اقتصادياً.

لم يكن حنيف أسمر البشرة كما ينبغي ولا غير ذلك. كان واحداً من “الطيور الحُمر”.

 

سيرياهوم نيوز3 – الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

من اسطنبول إلى حيفا..

إسماعيل مروة   تعدّ مرحلة بناء الدولة العربية المستقلة من نهايات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين من أهم الحقب وأغناها، وأكثرها جدلاً، إذ ...