آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » المثقف الذي نحتاج اليه للمجتمع والدولة

المثقف الذي نحتاج اليه للمجتمع والدولة

 

بقلم:الباحث والكاتب أيمن أحمد شعبان

* قبل أن نتحدث عن هذا المثقفِ الذي يمثلنا، لا بد لنا من أن نتحدث، ولو قليلاً، عن مفهوم الثقافة الواسع الذي اْشتُقَّ منه مصطلح المثقف.. فما هي الثقافة؟ … هل الثقافة هي المعرفة؟ هل هي العلم؟ ام الحضارة؟ أم العقيدة؟ أم هي العادات والتقاليد؟ أم الأفكار والفنون والآداب؟ أم الحرفُ والمهن؟… باختصار.. هي كل ما تم ذكره وأكثر.. ودون أن أستعرض التعريفات التي تناولت مصطلح الثقافة لأنها كثيرةٌ جداً، سأكتفي بما أجمع عليه علماء الاجتماع في تعريفها بأنها “أسلوبُ حياة”، ورغم الإيجاز الشديد في هذا التعريف، نستخلص أن الثقافة هي كل مجالات الحياة، وعلى أساسها يمكن أن نميِّز بين الأمم والشعوب المختلفة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأدبياً وفنياً.
* أما المثقف فقد أجمع العلماء على أنه (مفهوم يُستخدم للإشارة إلى شخصٍ مصقولٍ صقلاً عالياً، وله درايةٌ وإلمامٌ بالآداب والعلوم والفلسفة والفنون والمهن).
* التاريخ الإنساني يحفل بقصص الصراع بين المثقف وأعداء الثقافة والحياة في الغرب وفي شرقنا العربي والإسلامي.. وتلك القصص من التاريخ، لا تثير الاستغراب، لأننا نُدرك حجم خطورة دور العلماء والمثقفين الحقيقين، الذين يمتلكون ناصية الحق والحقيقة، ويستطيعون إيصالها للناس، لتفعل فعلها في وجودهم ومستقبلهم وتقرير مصيرهم.
* ليس بالضرورة أن يكون المثقف كاتبًا أو شاعرًا أو فنانًا أو معلمًا أو جامعيًّا، إلا اذا كان يعرف كيف يخدم بها الناس، أي كيف يوظف علمه ومعارفه ومواهبه ومهاراته في إنتاج أفكار جديدة ونافعة، يتفاعل فيها مع المجتمع الذي يعيش فيه، ويساهم في نهضته الثقافية، سواء في القضايا الاجتماعية التي يعيشها، أو في القضايا الكبيرة التي تهم الوطن.
* قبيل (الحرب الإرهابية الكونية العدوانية على بلدنا)، كانت الحياة الثقافية في سورية حافلة بالبرامج والندوات والمهرجانات والملتقيات وغيرها الكثير من النشاطات والفعاليات الثقافية، وكان يدعمها حضور وشغف وتفاعل وتواجد ومشاركة من كلِّ الأطياف والشرائح المتعلمة والمثقفة في المجتمع. وكان هذا المشهد يعكسُ الصورة الحقيقية للتجانس بين الثقافة والمثقف.
* ما كان ينبغي أن يتراجع زخَمُ الحراك الثقافي وينشغلَ عنه جمهورُه خلال سنوات الحرب على سورية.. ففي سورية الكثير من القامات الثقافية التي كانت وما تزال قادرة على أن تحفظ صحة الحياة الثقافية بمشاركاتها وإبداعاتِها وإسهاماتِها وعطائها وخصوصاً في الحروب والأزمات.
* اليوم.. نحن نشهد حركة متجددة لتلك الأنشطة والفعاليات الثقافية، فإننا نشهد أيضاً تراجع وتيرة فاعليتها والاهتمام الرسمي أو الشعبي بها، وخاصة فئة الشباب، وحضورها ومتابعوها قِلّة، وإذا استمر هذا التراجع، فالخاسر الأكبر في ذلك هو أجيالنا القادمة التي من المفترض ألَّا تتوجه للعالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي بقــدْر ما تتوجه إلى الواقع بكل تجلياته.
* قد يُرجع بعضنا السبب في هذا التراجع إلى التقصير في دعم واهتمام ورعاية بعض الجهات الرسمية بالمثقفين وقضاياهم وعدم مواكبة مشاركاتهم في النشاطات والفعاليات الثقافية، هذا صحيح!.. ولكن ماهي أسباب انصراف الكثيرين من الناس العاديين عن الاهتمام بالثقافة وبالأنشطة والفعاليات الثقافية ؟..
* لعل أولى أسباب التراجع، تكمن في جهل “مدّعي الثقافة والأدب” لحقيقة أن الأدب لا يسمى أدباً إلا بتأدُّبِ أصحابه، وسعةِ اطلاعهم، وجمالِ أخلاقهم، وأفكارهم، وإنتاجهم. وباعتراف كبار الأدباء والنقاد السوريين، إن الحالة الثقافية عموماً قد تراجعت بفعل “بعض حملة الأقلام ” الذين أنتجوا أعمالاً تافهةً، بمضمون سخيف وأسلوب ركيك، فكتبوا وطبعوا ونشروا شعراً أو نثراً أو مقالة أو رواية أو قصة أو كتاباً، وهذا الانحدار والإسفاف يعد ببساطة تجنيًا على الأدب وإسفافاً فيه، في الوقت الذي نجد فيه أدباءً مبدعين كُثر مغمورين لم يُروَّج لهم، ولم نسمع عنهم، ولم نقرأ لهم، وقد خطّت أقلامُهم إبداعاتٍ فيها الكثير من المتعة والفائدة، ولكنهم لا يكتبون الغَثَّ التافه، ولا هذا المستوى من الهذيان!.
* سبب آخر لهذا التراجع أيضاً، هو اهتمام الناس الكبير بشبكات التواصل الاجتماعي وخصوصاً منها تلك التي تقتل الوقت، وتسخِّف العقل، وتحتفي بالتفاهة، وتزدري الفكر والقيم الإنسانية، حتى أصبحت عوالم السوشال ميديا تسهم في صنع الرأي العام، وتخلق بدورها تباعداً وقطيعة بين المجتمع من جهة والثقافة والمثقفين من جهة أخرى.. وكل ذلك للأسف، بسبب غياب الوعي الفكري والأمن الثقافي المجتمعي، الذي من المفترض أن يصنعه المثقفون الوطنيون الحقيقيون ويحصِّنوه في عقول الناس…
* من أسباب ذاك التراجع أيضاً، تأثر الناس بالعامل الاقتصادي الضاغط، وضعف الدخل، وانشغالهم بتأمين لقمة عيشهم، وغلاء الكتب، واختفاء الصحف والمجلات الورقية، وانصراف الناس عن القراءة، وغيرها.. سنجد أن هذه الأسباب بمجموعها، أساءت إلى دور الثقافة والمثقفين، وقللت من اهتمام المجتمع بالثقافة والمثقف إلى حد كبير، ليتحول اهتمام الناس إلى مناح أخرى بديلة..
* إن إعادة النظر، اليوم، والإشارة بالبنان إلى المثقفين الحقيقيين ودعمهم وتفعيل دورهم التنويري، هي حالة جماعية، ملحة، تقع على الجميع “الدولة والمجتمع والمثقفون أنفسُهم”، فكما أن للدولة دورٌ في إعادة الربط بين المثقف الحقيقي والجمهور، من خلال دعمه مادياً ومعنوياً سواء بالتمكين، أو الظهور، أو الدعوة لقراءته والتعريف بفكره ومؤلفاته، أو طباعة ونشر إنتاجه الفكري، أو تحفيزه وتكريمه. فإن للمجتمع دورًا مهمًا أيضاً في تحديد مكانة كل من يدّعي أنه مثقف، ومساعدة المثقف الحقيقي الذي يمثله شكلاً ومضوناً، ويريده ويحتاج إليه للقيام بتثقيفه وتنويره، لأن نجاح المثقف بدوره الحضاري يعني في نفس الوقت نجاح المجتمع في إعادة بناء ذاته والعكس صحيح.
* المثقف الذي نريده ونحتاج إليه هو شخص متواضع محبوب، يتمتع بمؤهلات وخبرات ومزايا وصفات تجعله قادرًا على القيام بدوره التثقيفي التنويري والمساهمة في إحداث نهضة متجددة يعود من خلالها للحياة الثقافية وهْجُها وتألقها.
* لكي لا يتكرر ما حدث في الماضي القريب لنعد بالذاكرة قليلاً إلى السنوات الأولى للحرب الإرهابية الكونية الظالمة التي شُنّت علينا، ونتذكرذاك التباين الذي ظهر تباعاً في مواقف المثقفين مع تطور صور العدوان وشراستها. فهناك من المثقفين من صدمه هول المشهد، وأوهنه ضَعفُه، فاكتفى بدور المتفرج الصامت إزاء ما كان يحدث وكأنه غير معني بما يجري. وهناك من لم تسعفه قيمه وأخلاقه ووعيه في تحديد موقعه ومكانه، وعجز عن تحديد هويته وموقفه بشكل واضح وعلني، وبقي رمادياً يميل مع كل ريح.. وبعضهم الآخر دفعتهم نفوسهم الموتورة وأحقادُهم المتوارثة إلى الهروب من حضن الوطن إلى أحضان أسيادهم في بعض الدول العربية والغربية تحت ذريعة اللجوء والمعارضة.. فافتُتِحت لهم قنواتٌ ومنصاتٌ سوداء، وصحفٌ صفراء، ليزيّفوا ويحرّفوا ويفبركوا ويحرِّضوا من خلالها على الكراهية والعنف والتمرد والفوضى في سورية، ويتحوّلوا بواسطتها لمجرد بوق يتم النفخ فيه وقت الحاجة، ومن بعد ذلك يتم التخلص منهم إما بتهميشهم أو إسكاتهم ببضعِ دولارات، أو التخلص منهم في أحسن الأحوال.
* بالمقابل, وفي نفس الوقت، قيّض الله لهذا الوطن نخبةً من المثقفين الشرفاء العقلاء الوطنيين, الذين قدموا أبحاثاً ودراساتٍ اجتماعيةً واقتصاديةً ونفسيةً وتوعويةً لتفادي الأزمات والتعامل مع المستجدات، وأخرى عسكرية تطويرية للأسلحة والذخيرة التي واجهنا بها أعداءنا في الساحات.. ومنهم من وقف عبر مختلف وسائل الإعلام لدحض الأكاذيب وفضح أساليب تزوير الحقائق والتلفيق والفبركات الإعلامية، ودعا ليقظة الوعي وتوحيد الصفوف ورصها ورفع المعنويات في مواجهة العدوان.. فكانت كلمات هؤلاء المثقفين الوطنيين الحقيقيين ومواقفُهم وتحركاتُهم ، رصاصاً حياً في وجه قوى العدوان والإرهاب والتكفير والخيانة والغدر.
* من المثقفين الوطنيين الذين وقفوا في صف الشعب والجيش والوطن مَن ذُبح بعضُ أهله، وخُطف أو فُقد واحدٌ أو بعضٌ من أبنائه، ودُمر بيته، وحرقت مكتبته وأرضه وأرزاقه، وهجِّر من دياره..
* ومن هؤلاء المثقفين الوطنيين من صاغ كتاباتِه، أو أبياتِ قصائده، أو كلمات أناشيده وأغانيه الوطنية، أو دورَه المسرحي أو الدرامي، تراتيلَ صمودٍ ومقاومةٍ ومجد.. ومنهم من حولها إلى حدائق غنّاء بأروع وأنفَس الكلمات, ساعياً إلى الحب والتسامح والتراحم والسلام وغيرها من صفات الخير الكثيرة.
* مثل هؤلاء المثقفين الوطنيين الشرفاء هم من نريدهم ونحتاج إليهم، في عملية إعادة بناء الإنسان والبنيان. لأنهم بوطنيتهم الصادقة قادرين على إشهار سلاح الكلمة المُقاومة في وجه أعداء الشمس والنور والإنسانية والحياة.. والتصدي لمحاولات التطبيع والتخاذل والاستسلام والرِّدّة.
* لابد من التنويه بأن “اتحاد الكتاب العرب- في سورية” الذي لنا شرف عضويته، قام ويقوم بدوره القديم الجديد في وضع الخطط والبرامج والنشاطات، وتنفيذ الندوات الحوارية والمحاضرات واللقاءات والمهرجانات والمسابقات والجوائز ومعارض الكتب وإصدار المجلات والدوريات ونشر الثقافة التنويرية، مع التركيز على الأدب المقاوم والرصين، معززاً بذلك من حضوره محلياً وخارجياً لكشف حقيقة وأبعاد وأهداف الحرب الكونية الإرهابية العدوانية التي تعرضت لها سورية، وموضحاً هويته الوطنية ومواقفه النضالية الرافضة للخنوع والتطبيع، إضافة إلى إقامة أنشطة ركزت على الأطفال والشباب بصفتهم أبناءُ المستقبل الثقافي الوطني. كما حذت حذو الاتحاد بعض الملتقيات الأدبية والمنتديات والنوادي والمراكز الثقافية.
* نحن عندما نميّز “بشفافية” المثقفَ الوطني الحقيقي عن سواه في حاضر ثقافتنا، فإننا ندرك أن الحاضر لم يكن أبداً لحظة في ذاتها، مستقلة عمّا قبلها، وما بعدها، أي مستقلة عن الماضي والمستقبل، فماضينا بعض حاضرنا، والحاضر هو إمكاناتُ المستقبل. وإن غياب أو تغييب دور ومكانة وإبداعات المثقف الوطني الحقيقي، عن عقول الناس وعيونهم وآذانهم، يصيب العمل الثقافي كله بالشلل، ويعطل الإبداع، والإصلاح، والتغيير، والتحديث، والتطوير.. وفي ظني أن المثقف الوطني الذي نريده ونحتاج إليه والذي تتوفر فيه منظومة الصفات التي ذكرتها، يمكنه أن يفعل الكثير، لأن القلم الذي يحتشد فيه الفكر هو السلاح الدائم الذي لا يتوارى…
*ملخص عن المحاضرة التي ألقيتها في صالة فرع اتحاد الكتاب العرب بطرطوس يوم الأربعاء 27/3/2024م

 

 

 

(خاص لموقع سيرياهوم نيوز)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

منى واصف: أغار من الجنازات

عبّرت الفنانة منى واصف عن عدم اهتمامها بإطلاق أيّ جائزة تكريمية باسمها، كاشفة أنّ اهتمامها حالياً يتمثّل في رغبتها في أن تحظى بجنازة مهيبة تشبه ...