آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب الأسبوع » “بوابات الهلع” ..المغامرة الشعرية في هذا العصر

“بوابات الهلع” ..المغامرة الشعرية في هذا العصر

 

بقلم:حنا عبود

يتجه عصرنا نحو النثرية، كما يؤكد كثير من المفكرين أصحاب النزعة العلمية، من فلاسفة ونقاد وكتاب، حتى أن بعضهم مضى شوطاً بعيداً في هذا المضمار، وأشار إلى موت النص بالتكرار، شعراً كان أم نثراً، بل جرى التوكيد إلى درجة إعلان موت كل منتج سوى ما تقرره علوم الطبيعة، من فيزياء وفلك وكيمياء… ولا نزال نذكر ما كتبه رولان بارت وسوزانا سونتاغ وسواهما في هذا الخصوص.
وثمة العديد ممن ندرجهم في هذا التيار، وهذه بعض الكتب- وما أكثرها! – التي تؤكد تلاشي كل ما نعتقد بأنه لازم وضروري لتسويغ الوجود البشري:
“موت الناقد” لرونان ماكدونالد.
“موت الأدب” لإلفين كرنان.
“نهاية الحداثة” لجياني فاتيمو.
“نهاية اليوتوبيا” لراسل جاكوبي.
وثمة كتب تؤكد نهاية كل شيء:
“تاريخ نهاية العالم” لجوناثان كيرش.
“نهاية كل شيء” لكريس إمبي.
وقد تطول القائمة إلى درجة يمكن القول إن الفكر المعاصر وقع ضحية غيمة تشاؤمية، قد تكون عارضة، وإن أكّد معظمهم أنها “الغيمة الأخيرة” فبعدها لن يبصر أحدٌ، لا غيمة ولا نجماً ولا نوراً ولو من بصيص ضياء، فبعد الموت لا بصيص ولا ضياء، ففي الفناء لا حس ولا عواطف، ولا نبل ولا لؤم، لا لوم ولا عتاب، لا حقد ولا حنان…. الموت نهاية وليس مرحلة من مراحل الحياة كالطفولة واليفاعة…
ومن أبرز معاصرينا الملحاحين على هذه الفكرة السيد فرنسيس فوكوياما في كتابه الأول “نهاية التاريخ”؛ حيث يذهب إلى أن التاريخ سوف يتلاشى، عندما تنتقل الأنظمة الاستبدادية إلى أنظمة ديمقراطية. وعلى الرغم من أن أستاذه صموئيل هنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات” يردّ مؤكّداً أن ما يجري في أرض الواقع يناقض ما يدور في خلد بعض المفكرين، فما يزال الصراع بين البشر يحكم تصرفهم… وأقام هنتنغتون الدليل على أشياء كثيرة مناقضة لما ذهب إليه فوكوياما، إلا أن الأخير عاد وأكد ما ذهب إليه بفكرة أوسع وأشد تشاؤماً في كتابه “موت الإنسان” إذ اعتقد أن الثورة البيوتكنولوجية ستطيح بكل إرادة بشرية، فيكون للبشر وجود حضور، وليس وجود فاعلية، أو كما يذهب بعضهم إلى أن البشرية تسير نحو سياسة القطيع، مشيرين إلى الروبوتات الذكية الكثيرة والمتكاثرة، والتي ستكون لها اليد العليا… وفي إحدى الندوات علق أحد الساخرين على هذا قائلاً: إذا سادت حضارة الروبوتات، فسيكون الشعر الروبوتي هو القائد، بل هو السائد، والإنسان وحده البائد.
وبيننا اليوم العديد ممن يرون الظواهر الأدبية تسير في هذا المنحى، فلم نعد نعثر على ذلك الشعر الذي يقتحم العوالم، ويقوم بمغامرات شعرية اكتشافية، على غرار ما قام به المعري في رسالة غفرانه، ودانتي في طوافه المروّع على الجحيم والمطهر والفردوس، وملتون في تقصي الصراع حتى في جنة الفراديس. إن العوالم المتعددة والكثيرة، كما في ملاحم هومر وأبولونيوس الروديس وفرجيل وسواهم لم يعد لها وجود في الملاحم العصرية أمثال “الأرض اليباب” ومطوّلة إديث سيتويل “شبح قائين” التي تميل إلى رصد المصير البشري الكئيب والرهيب. وهكذا تحوّل الشعر من رغبة جامحة إلى مغامرة في هذا العصر، بعد أن طغت النثرية على كل شيء، فليس غريباً أن تطرق أسماعنا نظرية التشيؤ التي أنضجها المفكر المجري جورج لوكاش.
***
في قلب هذا العالم الموبوء أثبت ديوان “بوابات الهلع” للشاعرة ريم البياتي، الكثير من أنواع الأوبئة، ولكنه يتفرد في أشياء عدة، لعل أهمها اختيار بطل لهذه المطوّلة من الصغار، وليس من الأبطال، أو الأشخاص الواعين. فليس هناك بطولات جلجامش، ولا طيش أخيل، ولا مغامرات إينياس، ولا حتى اندفاعات غاريغانتوا وبنتاغرويل…
اختارت الشاعر هذه الشخصية للانطلاق من “البراءة” في إدانة عصر موبوء. ولن ندخل في منعرجات الملحمة حتى ندع المتعة للقارئ الكريم. ولكن كل الأحكام الصادرة عن هذه الطفولة تتميّز بالبراءة. وربما اختارت الطفل لتجعل القضاء بيد الحنان والبراءة، لا بيد القوانين، المشكوك في حيادها وأهدافها وفلسفتها.
في إحدى الزيارات سألنا الشاعرة ريم: هل هذه الملحمة قصيدة رثاء للعصر؟ فأجابت: بل إنها بداية الإدانة من لسان لا يعرف الزيف، ولا يمارس الأذى. وما دام هذا اللسان ينطق، فإن الشعر بخير، بل سيزداد عنفواناً، ما دام في الوجود قهر وظلامة.
يبدو أن الشاعرة ريم البياتي لا تؤمن أن معركة هرمجدّون، أو معركة الراغناروك، قادمة بل قائمة منذ أن قامت جنة دلمون وحقول الإيليزيه وأبهاء الإسغارد وجنة عدن، ومنذ ذلك الزمن السحيق قام الشعر، ويظل قائماً، على الرغم من فلسفة هيغل، التي استعارت لسان النبوءات السود من ترسياس، بأن الشعر زائل.
إن الغرابين على كتف أودن ما يزالان جاثمين، ويطيران كل يوم ليعودا بالأخبار المريبة، مما يجعل الشعر في حالة تأهب واستنفار. وريم البياتي دائماً في حالة التأهب والاستنفار، ولم تعد تنتظر الغرابين، فقد باتت أعرف بالأخبار منهما.”
(سيرياهوم نيوز ٤-خاص)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

“فلسطين قضية وطنية”.. كتاب يصون ذاكرة المغاربة في دعم فلسطين

“دار الملتقى” في المغرب تصدر كتاب “فلسطين.. قضية وطنية”، الذي يوثّق كتابات ومواقف أعلام مغربية من فلسطين والقضية الفلسطينية.   صدر حديثاً عن “دار الملتقى” ...