آخر الأخبار
الرئيسية » مختارات من الصحافة » توسع عمليات “التتريك” في شمال سورية

توسع عمليات “التتريك” في شمال سورية

د. عبد الحميد فجر سلوم

بيانُ الخارجية السورية في 8/2/2021 ، واستنكارهِ لِقرار أنقرة في فتحِ كلِّيةِ طُب ومعهدٍ تابعٍ لها في الشمال السوري، وتسليطُ الضوء على سياسة (التتريك) التي تتّبعها تركيا في المناطق المُحتلّة في الشمال السوري، كان في مكانهِ..

**

ما تقومُ بهِ أنقرة من تغيير للهوية والثقافة واللغة والتاريخ، وكل شيء في المناطق المُحتلّة، هو أمرٌ في غاية الخطورة على المدى المتوسط والبعيد..

خطورةُ هذا الموضوع تقتضي مواجهتَهُ بسياسةٍ مدروسةٍ مُمنهجةٍ وتشكيل هيئةٍ ( أو فريق عمل) من أكفأ الدبلوماسيين السابقين، من ذوي الخبرة والثقافة، ومن كُتّابٍ سياسيين، وأساتذة جامعات سابقين، ومشهودٌ لهم جميعا بغيرتهم الوطنية وحرصهم على وحدة تراب سوريا أرضا وشعبا..

مُهِمةُ هذا الفريق هو متابعةِ كل الخطوات والسياسات التي تنتهجها تركيا في تلك المناطق ساعة بساعةٍ ويوما بيومٍ، من قِبَلِ هذه الهيئة، والتواصُل مع كافة المنظمات الدولية، وكافة المنظمات المعنية بحقوق الإنسان، والقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، ومفوضية حقوق الإنسان، والجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، وكافة الدول العربية.. الخ.. وذلك بشكلٍ مُباشرٍ، ومستقلٍّ عن الطُرُق الرسمية والدبلوماسية والروتينية المحكومة بالاتفاقات الدولية، التي تحكمُ عمل البعثات الدبلوماسية ووزارات الخارجية.. وأن لا يُضفَى على تلك المراسلات والنشاطات أي صفات حكومية رسمية، بل تكونُ بمثابةِ نشاطٍ لِمُجتمعٍ مدني، كي تسهُل عملية المٌخاطَبة والتواصل والمراسلات..

**

مهمّةُ هذا الفريق أو الهيئة، هي فضحُ وتعريةُ هذه السياسات الاستعمارية التي تقوم بها تركيا في المناطق الخاضعة لها، وخطورة هذه السياسات على تمزيق المجتمع السوري.. وهذا ما عهِدناهُ عبر التاريخ من كافة القوى الاستعمارية.. ولِتركيا سوابق في هذا الإطار منذ حُقبة الدولة العثمانية التي اتّبعتْ أيضا سياسة التتريك لدى احتلالها للبلدان والشعوب العربية.. ورُبّما لولا لغة القرآن الكريم، لطَمَسوا اللغة العربية ..

لا أعتقدُ أنه حتى المعارضون الوطنيون سيعارضون هكذا نشاطات، بل هُم بدورهم مطلوبٌ منهم أيضا التصدِّي لسياسة التتريك السورية كُلٍّ من خلال قلمهِ ولسانهِ، في أيِّ مكان يُقيمُ فيه..فالمسألة هنا تتعلقُ باستهداف الثقافة والانتماء والتاريخ لقِسمٍ من أبناء الشعب السوري أوجدَتهُم الأقدار في تلك المناطق، وهذه لا علاقة لها بالاصطفافات بين موالٍ ومُعارضٍ ووسَطي..

**

لقد كتبتُ كثيرا بالماضي عن سياسة التتريك الخطيرة في أبرز الصحُف، التي تقومُ بها تركيا في كافة المناطق السورية التي تقبعُ تحت احتلالها، في مناطق درع الفرات، وغُصن الزيتون، ونبع السلام..

تركيا تحتلُّ اليوم عدّة مناطق من محافظات حلب وإدلب والرقّة والحسكة في شمال شرق، وشمال غرب سورية، وتُقدَّر مساحة المناطق التي تحتلها في سورية بـ (8835 ) كم2. وهذه قريبة من حجم مساحة لبنان.. ومنها حوالي 4000 كم2 في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، أيْ غرب الفرات لوحدها..

**

الحكومة التركية تدّعي أن هناك العديد من المناطق والقُرى السورية في محافظتي حلب وإدلب تعود ملكيتها لعائلة السُلطان عبد الحميد الثاني، وهذا يعني أنها أراضٍ تركية، وفُرصَتها الذهبية اليوم بالسيطرة عليها، وضمِّها مع الزمن لتركيا، سواء بشكلٍ رسمي أو بِحُكم الأمر الواقع.. ولذلك لجأت إلى تحويل منزل في منطقة عفرين إلى متحف بحجّة أن مصطفى كمال أتاتورك استخدمهُ كقاعدة خلال الحرب العالمية الأولى..

هذه السياسات ذات أبعادٍ استراتيجيةٍ بعيدة المدى، وتهدفُ ببساطة لإلحاق تلك المناطق بِلواء اسكندرون السليب بعد تغيير هويتهِ العربية، الذي كان يخشى أبنائهُ العرب من التحدُّث بلغتهم الأم، حتى وقتٍ قريبٍ، لأن هذا كان مُحظَّرا، وتحت طائلة الاعتقال إذا ما سُمِع أحدِهم يتحدّث بالعربية من طرف السلطات التركية.. وهذا شاهدتهُ بِأمِّ عيني حينما كنتُ عائدا من بودابست إلى سورية صيف 1988 ، بعد انتهاء عملي في السفارة، بِرفقةِ أحد الأصدقاء، وتوقَفنا في أحد الفنادق في مدينة إنطاكية لتناول الغداء، وبينما كنّا نتحدّثُ بالعربية ونحن جالسون اقتربَ منّا النادل (الكرسون) وبدأ يتحدّثُ معنا بالعربية وهو حذرٌ ويلتفتُ حولهُ، ثم قال لنا، رجاء إذا أردتم أن تنادوني لأي خِدمة فنادُوني بالانكليزية أو التركية، لأنهم إن سمعوني أتحدثُ بالعربية فسوف أُعتَقَل حالا..

**

إنّ ما يُساعدُ تركيا في تنفيذ مخططاتها تلك هو وجود الكثير في تلك المجتمعات من أصولٍ تركيةٍ، أو تركمانيةٍ، وهذا الوضعُ استثمرَت بهِ أنقرة بقوّة، وللأسف وجدتْ تجاوبا لدى نسبة كبيرة من المتحدِّرين من أصول تركية أو تركمانية.. بل وجدتْ تعاطُفا مع موقفها في سورية، من غالبية التركمان في القرى والأماكن التي يتمركزون فيها، حتى التي لا تقبعُ تحت السيطرة التركية.. وهذه القرى عديدة وموزّعة في كافة المناطق السورية.. لاسيما في ريف حلب وإدلب واللاذقية وحماه وحمص ودمشق.. الخ..

هذا رغمَ أن هؤلاء لم يكُن هناك تمييزا ضدّهم في أي وقتٍ في سورية وكانوا يُشغِلون مناصب عليا في الدولة، فكان منهم وزراء، وكان هناك سفراء( حتى مع محدودية الإمكانية) والتي لم تُسنَد لِمن هُم أكفأ منهم بأضعاف المرات، ومن أعضاء البعث ذاتهم، ومن أبناء السِلك الدبلوماسي.. ولكن ينطبَق بهذا المعنى القول الشهير( العِرقُ دسّاس)..

**

افتتاح الكليات والجامعات والمعاهد التركية في مناطق الاحتلال التركي ليست بجديدة، فهي قديمة، ومنذ دخول تركيا لتلك المناطق، فقد طبّقت عليها رويدا رويدا كافة القوانين التركية، ولكنها تتّسعُ مع الوقت، وفرضتْ التداوُل بالليرة التركية بدل الليرة السورية، وهكذا قطعتْ حتى الرابطة الوحيدة التي كانت مُتبقية بين مناطق نفوذ الدولة والمناطق المُحتلّة..

 تركيا تعتبر نفسها حامية لكافة المتحدِّرين من أصول تركمانية أينما كانوا.. وفي سورية، أثارَ نِظام أردوغان في (غالبيتهم) العصبية القومية، واستغلّ الكثير منهم لخدمة أهدافهِ..  ويتَّبِع في المناطق التي يحتلها ذات السياسة والنهج والأسلوب الذي اتبّعهُ أسلافه في شمال قبرص، وقبْل ذلك في إسكندرون..

فقامت تركيا في كانون أول 2012 بتأسيس المجلس التركماني لِتركمان سورية في مدينة اسطنبول بهدفِ خلْقِ جسم تنظيمي لهم وهيكلية تنظيمية.. وفي آذار 2013 أصبحَ اسمهُ ” المجلس التركماني السوري”، ولهم مناصب قيادية مهمة في هياكل المُعارَضَة، بدعمٍ من تركيا..

وفي تشرين أول 2019  نظَّم ” المجلس التركماني السوري”  برعايةٍ تركيةٍ مباشرةٍ، مؤتمراً للتركمان في بلدة ” الراعي” الحدودية شمال حلبْ، بعد أن تغيّر اسمها العربي لِتِصبِح ” جوبان باي” .. وأطلقتْ تركيا على المؤتمر اسم ” مؤتمر الأمّة” .. وتمّ خلالهُ الاتفاق على اعتماد “عَلَمْ” واحد للمجلس التركماني السوري، الذي يضمُّ أحزابا متعددة..

إذاً بات للتركمان السوريين الموالين لتركيا علَمَهم الخاص، وباتوا يعتبِرون أنفسهم أمّة بحدِّ ذاتهم..

وأخيرا كانت هناك قرارات تمنعُ على أيِّ مُدرِّسٍ التدريس في الجامعات والكليات والمعاهد والمدارس في مناطق الاحتلال التركي، ما لم يكُن مُتقِنا للغة التركية، كي يكون كلُّ شيءٍ تُركيا: التدريس، المناهج، المدارس، أسماء المُدُن والقُرى والشوارع والساحات، الثقافة، التاريخ، العُملة .. الخ.. ورفعِ العلَم التركي، ونشرِ بطاقات الهوية التركية بين السكان، ودفعِ الرواتب بالليرة التركية، وربطِ كل شيء بتركيا، حتى غدَت هذه المناطق تُعامَل كما أي منطقة أو ولاية بداخل تركيا.

**

إنّهُ سلخٌ كاملٌ لأبناء تلك المناطق عن بقية أبناء شعبهم وتاريخهم، بعد سلخِ مناطقهم، على غرار سلخِ لواء اسكندرون.. وسلخُ منطقة شمال قبرص عن جنوب قبرص..

**

هناك من يُزوِّرون التاريخ ويُجادلون أن تركيا لم تُميِّز عبر تاريخها بين أبناء قوميةٍ وأخرى، وأبناء مذهبٍ وآخرٍ، وهذا كلام تدحضهُ كل حقائق التاريخ.. فلم تمارس أي قوة احتلال من التمييز البغيض والعُنف أكثر مما مارسَهُ الأتراك عبر التاريخ السلجوقي والعثماني.. وحتى في الزمن الراهن..

**

الأمرُ يحتاجُ، كما أشرتُ في البداية، إلى جهودٍ كبيرة لتنبيه المجتمع الدولي على خطورة السياسيات التركية، وفضحها، بِمعزلٍ عن النشاط السياسي والدبلوماسي الرسمي، والسعي للحصول على قرارات أممية بإدانة سياسات التتريك التركية في المناطق السورية التي تخضعُ لاحتلالها..

كاتب سوري ووزير مفوض دبلوماسي سابق

(سيرياهوم نيوز-رأي اليوم13-2-2021)
x

‎قد يُعجبك أيضاً

هآرتس: الجيش الإسرائيلي يواصل إنشاء منطقة عازلة داخل غزة

قالت صحيفة “هآرتس” العبرية، الخميس، إن الجيش الإسرائيلي يواصل إنشاء منطقة عازلة مع قطاع غزة على الجانب الفلسطيني من السياج الحدودي. وأوضحت الصحيفة أن “المنطقة ...