آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » عندما يتحدّث جبران باسيل عن «التهديد الوجودي للمسيحيين»

عندما يتحدّث جبران باسيل عن «التهديد الوجودي للمسيحيين»

 

رأي بلال اللقيس

 

كان الوزير جبران باسيل قد اعتبر دعم ترشيح الوزير سليمان فرنجية تهديداً وجودياً للمسيحيين.

 

ما صحة هذا القول؟ وكيف يمكن أن نقرأه؟ من نافلة القول، أنّ المسيحيين أكبر من موقع في السلطة مهما عظم حضورهم الاجتماعي. وتأثيرهم لا يفترض أن يتساوى مع أي موقع في السلطة. هم بقوا واستمروا حتّى عندما خسروا رئاسة كاملة الصلاحيات (قبل الطائف) لرئاسة بلا صلاحيات تقريباً بعد الطائف (باستثناءات كالمادة 53). المسيحيون هم جزء لا يتجزأ من مكوّنات هذا البلد، يمارسون حياتهم السياسية والثقافية ونمط حياة بحرّية تامّة، ويتفاعلون كما غيرهم في هذا البلد من زوايا عديدة، ويحتكمون كما غيرهم للعقد الاجتماعي القائم اليوم، أي الطائف. لهم تمثيل فعلي، يتقاسمون نصف مواقع البلد الرئيسة (الفئة الأولى)، وعملياً أكثر من ذلك بكثير. لا ينكر أحد وجود هذا المكوّن بغضّ النظر عن تقدّم أو تراجع فاعليته في مساره منذ التأسيس، ولا يتنكّر أحد لهم حتّى لو اختلف معهم في السياسة وانتقد أداءهم، وحتّى لو اصطرع معهم كما حدث في العقود الماضية.

ad

 

ورغم أنّه يشقّ على بعض الشخصيات والنخب المارونية القيام بقراءة نقدية لسبب تدهور الحضور والتأثير المارونييْن في لبنان، من طائفة تمسك بزمام كل شيء إلى ما وصلت إليه مع الطائف، وإذا ما كان هناك من طريق آخر كان بإمكان قيادتهم أن تسلكه، رغم عدم قيامهم بهذه القراءة العلمية النقدية – إلا أخيراً الرئيس ميشال عون الذي امتلك هذه الجرأة دون أن يكتبها أو يصرح عنها – لكن لا محيص من الاعتراف أنّ نظرة أقطاب الموارنة التاريخيين كان لها دور فعلي في ما وصل إليه المسيحيون عموماً في لبنان، وأنّهم يتحمّلون كفلاً كبيراً في إضعاف دور المسيحيين، في لبنان والمنطقة على السواء، حتى اتفاق الطائف وما تلاه من عقد ونيّف.

بعض منصّات الموارنة وأقطابهم لم تتكيّف بعد في أنّ هؤلاء انتقلوا عملياً من الجماعة الممسكة بكل مفاصل البلد السياسية منها والثقافية والاقتصادية والعلمية والخارجية والاجتماعية والإنمائية والمالية، وكل وجوه الفاعلية في المجتمع، إلى العيش على ذكريات الماضي والحنين إليها ومحاولات إسقاطها، وربّما أبقى الطائف على مجالين، الأمن والاقتصاد، فترك نوعاً من الخصوصية بهما ربّما لمصلحة أميركية في النظرة إلى هذين المجالين في الساحة اللبنانية. فمن جماعة مسيحية ورثت الكيان بكلّه وكلكله من المحتل الفرنسي (المنتدب) إلى لحظة خسارة قدرتهم التقريرية نتيجة التوازنات التي أفرزتها حرب الـ 15 عاماً. غريب أن يقرن أحد مكوّناً بموقع، فالمكوّن يساوي موقعاً في السلطة إذا افتقد إلى القضية فقط (انظر حزب الله: حضر وبرق لامعه دون أن يكون في بنية السلطة فهو هو معها وبدونها). فمن غير اللائق، وبكل محبة، وضع المسيحيين بالتساوي مع موقع، مهما كان هذا الموقع، وكائناً من كان يصل إليه. وفي تاريخ الموارنة البعيد والقريب وسرديتهم ما يؤكد عكس هذه المقولة؛ أخيراً عندما حكمت معادلة الـ«س-س» لبنان برعاية الولايات المتحدة هي لم تتمكّن من حذف الحضور المسيحي من الخارطة، سرعان ما تجلّى ذلك بعودة الجنرال عون والتسونامي الذي رافقها ولم يكن للمسيحيين والموارنة موقع معتدّ به في السلطة، وسرعان ما لاقت أطراف داخلية ذلك بعقل وحب انطلاقاً من قناعاتها. خلاصة القول: المسيحيون أكبر من كرسي وموقع في السلطة ولا يصح تسطيح حضورهم إلى هذا الحدّ.

ad

 

ثانياً: عندما يتم الحديث عن تهديد وجودي فهل لنا أن نعرف ممّن هذا التهديد؟ هل من الخارج الذي يستهدف الوجود المسيحي، وبالتالي يريد الوزير باسيل بذلك حماية المسيحيين؟ ربّما، فالتاريخ البعيد والقريب قال لنا ذلك، فربّما تكون عند الوزير باسيل معلومات ومعطيات ليست بحوزتنا نحن المراقبين. فمثلاً، الشيعة في لبنان، بحكم موقعهم من مقاومة المشروع الأميركي والإسرائيلي معرّضون كل يوم لحرب وجودية قد تشنّها إسرائيل أو أميركا عليهم لاجتثاثهم وترحيلهم إن استطاعت كما خططت خلال تموز 2006 (معلومات وليس فرضيات)، ولا يفتأ قادة الكيانين الصهيوني والأميركي من ترديد رغبتهم وعزمهم من الانتقام من حزب الله، لذلك أفهم من القرائن والتجربة أنّ حزب الله والشيعة مهدّدون وجودياً وتزداد المعضلة عند أميركا وإسرائيل نتيجة ما يراكمون من انتصارات ويرى العدو بصمتهم في دعم المقاومة الشجاعة والشريفة في فلسطين.

ad

 

أم أنّه يقصد من الداخل، وإذا صحّ ذلك فحبّذا لو يشير إلينا ممّن يأتيه التهديد الوجودي؟ مَن مِن الداخل يريد إنهاء المسيحيين وتهديد وجودهم، هل الشيعة أم حزب الله اللذان يدعمان زعامة شخصية مارونية كانت بالأمس مزكّاة من الكنيسة المارونية بامتياز وتاريخها القديم، أي المردة، فضلاً عن الحديث، لها فضل على الموارنة، وهو مرشّح طبيعي ويحوز مكانة معنوية واضحة في العقل اللبناني والمسيحي – بغضّ النظر عن عدد النواب – وربّما في قانون مختلف ينال أكثر ممّا نالته كتلته في الانتخابات الماضية.

لا أظّن أنّ أحداً يريد إضعاف أو تهميش المسيحيين فضلاً عن تهديدهم وجودياً. هذا ليس إنشاء، بل هذه وقائع وقناعات وممارسات مختلف القوى اللبنانية. فحركة أمل، التي تُعتبر على خصام حاد مع حالة التيار الوطني الحر كأحد أركان الحالة المسيحية، ليست في هذا الوارد ولم تكن في تاريخها كذلك، وما يجري عملياً هو في إطار اللعبة الديموقراطية التي يتكتك فيها الرئيس بري ومساحاته الدستورية (هذا ليس من موقع الدفاع عن حركة أمل وليس من باب التقييم لأدائها الداخلي إذا كنت أتفق معه أم لا). ولن أتحدّث عن الدروز، فبالنهاية قصتهم مع الموارنة قصة طويلة ولا أظنهم اليوم قادرين على القيام بذلك كما في زمن المؤسس كمال جنبلاط – ولا أظن أن رئيس «التقدمي الاشتراكي» الجديد، أي تيمور جنبلاط، بهذا الصدد ويريد ذلك، ويبقى اللعب على مساحة داخلية يؤديها النائب السابق وليد جنبلاط في سياق حيثيته ومصالح طائفته التي تمرّ بتحول كبير هي الأخرى اليوم ومهدّدة أن تفقد عصبها التاريخي. أمّا السنّة فلا أظنهم في إشكال مع القوى المسيحية بعد أن تحسّن الوضع لصالحهم على أثر الطائف وباتوا هم السلطة التنفيذية عملياً، خصوصاً مع القوة الكبيرة التي جاء بها الرئيس رفيق الحريري وأصبح معها الحاكم الفعلي للبلد والمطوّب من الخارج. ورغم تنازع الصلاحيات والتصارع بين الطرفين الماروني والسنّي لكنّه لا يرقى ولم يرق من بعد الطائف إلى تهديد الوجود المسيحي، ونعترف بموقف متقدّم للشيخ سعد الحريري الذي سار بالرئيس عون إلى رئاسة الجمهورية وتنازل في مسألة قانون الانتخاب رغم خسارة كتلته لعدد من النواب.

ad

 

يبقى في المشهد حزب الله الطرف الأكثر تأثيراً في لبنان وذو الحضور الإقليمي المؤثر والفاعل، فلو راقبنا خطابه وسلوكه السياسييْن لوجدنا أنّه عمل بجد وسعى ما استطاع لتثبيت الحضور المسيحي في المشرق وفي لبنان وتقويته، وتحدّى اختلال الحالة السابقة بدعم استعادة المسيحيين للتوازن ضمن رؤية وحدة البلد واستقلال قراره السياسي وموقعه المقاوم للهيمنة الأميركية الإسرائيلية والأداة التكفيرية. عمل حزب الله بقناعة تامة وإيمان لتعديل قانون الانتخاب وصولاً إلى تبنّي القانون الأرثوذكسي ونافح بوجه حتى أقرب المقربين لوصول الجنرال عون إلى الرئاسة بما يساعد في اعتدال الأمر لما رآه من مصلحة وطنية أولاً في ذلك، وعمل لاستعادة التوازن بطريقة التدريج ودونما تسرّع واستفزاز للأطراف وتسعير للبيئة وخطب رنانة. يؤمن حزب الله أن التسرّع هو عدو لبنان بعد إسرائيل وحلفائها.

أمّا المقاربة الأخيرة بتبني حزب الله دعم فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، وإذا كانت هي المقصودة من الوزير جبران باسيل، فلا بأس من توضيحها والتأمّل فيها والتمحيص إذا ما كانت تأتي من خلفية إضعاف المسيحيين وتجاوزهم أم من منطق آخر كلياً كما سنفرد العرض الآتي:

ad

 

نستطيع القول إنّ الاعتبارات الرئيسة التي وقفت خلف دعم المرشّح سليمان فرنجية عديدة بمعزل عن ترتيبها بالأولوية والأهمية:

أولاً، أنّ تيار المردة يُعتبر حليفاً رئيساً للمقاومة إلى جانب التيار الوطني الحر، وهو الحالة الثانية بعد التيار الوطني (المعنوية والعملية) في البيئة المارونية المؤيدة بقناعة للمقاومة ودون مجاملات وتحفظ.

ثانياً، أنّه مقبول في البيئة الداخلية، إن كانت السنّية التي لا يوجد في عقلها تخوّف منه أو منازعات وأحقاد عليه، ونتذكّر أنّه كان مرشّح البيئة السنّية في الدورة الماضية، أضف أنّه يمتلك علاقة جيدة وقوية مع رئيس مجلس النواب وهذا ما يسهّل عمله في الفترة المقبلة ويسهّل على لبنان بعض المنازعات التي تعب البلد في محاولات حلّها – بغضّ النظر عن موقفنا من عنوان إشكالي – وعلاقته غير المتوترة تسري على بقية القوى. وحتّى مع التيار الوطني، فهو ليس على خلاف في الاستراتيجيات والكليات السياسية، وليس بينه وبين الكنيسة مشكلة تاريخية أو أزمة ثقة، فهو كان مرشّحها السابق عندما كان الرئيس عون المرشّح الأقوى وطنياً وشعبياً.

ad

 

ثالثاً، المقاومة وحلفاؤها أجمعون حقّقوا انتصاراً كبيراً في الإقليم كانت كلفته عالية على الجميع ووصلت إلى عقوبات أميركية على بعض حلفائها (التيار الوطني وشخص الوزير جبران باسيل). وهذا يعني أنّ حالة المقاومة مسؤولة عن استكمال إنجازها العسكري وترجمته سياسياً وتأسيس مسار جديد في لبنان، لذلك فهي حريصة مثل غيرها، لن أقول أكثر، لأن يخرج لبنان من أزماته ومشكلته وانهياره الاقتصادي الذي يطاول بيئتها كما كل اللبنانيين على السواء. فضلاً عن ذلك هي معنية بالقول إنّها نجحت هي وحلفاؤها في الاستراتيجيا والصراع العسكري وبقي لديها تقديم تجربة فعلية مع حلفائها في استنقاذ البلد مرتكزة على إنجاز العهد بترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة كمقدمة لاستخراج الطاقة وتحرير نموذج لبنان الاقتصادي من التبعية ومن صندوق النقد الدولي ومستندة إلى إنجازات فتحت طريقاً آخر في المنطقة برمتها وولدت ديناميات جديدة. وهذا الباب، أي المسار الاقتصادي والتنمية، هو أولوية المقاومة الأولى في لبنان جنباً إلى جنب مع حماية لبنان من أعدائه. فضلاً عن ذلك يمكن الحديث عن إقرار متنام عند المراقبين بتزايد انخراط المقاومة في المسألة اللبنانية وتفاصيلها في السنوات الأخيرة – قد ينتقدها البعض على عقلانيتها وواقعيتها وهدوئها في الحركة الداخلية في مقابل أنّها تنتقده في تسرعه واستعجاله اللذين قد لا يأتيان بالنتيجة بل بنتائج معكوسة، رغم أنّهما في نهاية المطاف يحملان رؤية نهائية متقاربة للمسألة اللبنانية.

ad

 

رابعاً، لو وقفنا على طبيعة المرحلة المقبلة ودرسنا خصائصها لبنانياً وإقليمياً ودولياً، سنرى فيها فرصاً كبيرة وفي الوقت نفسه تهديدات محتملة أو فعلية.

– في الفرص: إنّ ما تولّد من انتصار محور المقاومة في الإقليم أدّى في نهاية المطاف إلى فكّ العزلة عنه وانطلاقته في الإقليم ليكون منافساً مقبلاً في مجال التنمية وقضايا الاقتصاد والتشبيك الاقتصادي والتعاون وإنّ المنطقة اليوم مقبلة على عقد التنافس الاقتصادي والتنمية، بحيث إذا كانت العقود الماضية عقود الحرب الباردة ثم عقدي الحرب على الإرهاب فإنّ سمة العقد الحالي هي التنمية والتنافس أو التنافس الصراعي على التنمية والتشبيك والاقتصاد، وحيث إنّ لبنان حجز من خلال مقاومته وحلفائها (وفي مقدّمهم التيار الوطني الحرّ) مكانة إقليمية مؤثرة وفعالة وثقة، فهو يستطيع في مكان ما أن يكمل خطوات مشاركته الاستراتيجية إلى فاعلية اقتصادية تساهم في استنقاذ لبنان. فضلاً عن ذلك، فإنّ مرحلة جديدة بدأت مع عودة العلاقات الإيرانية السعودية والخليجية، وبعد حين المصرية، وأيضاً عودة العلاقات السعودية السورية… وكل ذلك سيتيح فرصاً مهمّة للبنان إذا كانت هناك قوّة دفع وتماسك لبنانية، ولا سيما بين من تعاون في اللحظات الأصعب. ناهيك عن البعد الدولي حيث نشهد جميعاً جنوحاً عربياً للإفادة من الشرق وتراجعاً واضحاً للنفوذ والدور الأميركيين، وهذا سيفتح مساراً جديداً إذا قامت السعودية وقطر بتوسيع استثمارات مع إيران ومع الصين. فمثلاً، أخيراً وقّعت قطر على اتفاقية جديدة بمدّ الصين بكميات من الغاز لـ 28 عاماً مقبلة. وأوروبا ستكون بحاجة ماسة إلى الطاقة خلال هذا العقد قبيل انتقالها إلى الطاقة النظيفة، وهذا يقوي من موقفنا في هذه المرحلة ويمكن أن يساعد في بلوغ المقصد.

ad

 

إذاً، الظروف الدولية والإقليمية مؤاتية وليست كما كان في زمن العهد الذي نعترف أنّه وقف كالجبل، ونقرّ بذلك أمام التاريخ والله، بوجه الزلازل الخارجية التي كانت تهدّد لبنان وجودياً، حين كانت أحلام كثيرين في الإقليم وأحقادهم هي التي تحرّكهم قبل أن يكتشفوا حدود قوتهم ويعودوا إلى لغة المصالح ومنطقها ويبادروا إلى منطق إدارة الخلاف بعقلانية بدل تجاهل الحقائق.

 

لو راقبنا خطابه وسلوكه السياسيَّيْن لوجدنا أنّ حزب الله عمل بجدّ وسعى ما استطاع لتثبيت الحضور المسيحي في المشرق وفي لبنان وتقويته وتحدّى اختلال الحالة السابقة

ad

 

لا تُهمل المقاومة، كما يُروَّج، مسألةَ الحاجة إلى إصلاحات داخلية، ولنتذكّر مواقفها المتقدّمة من جملة قضايا حساسة من مثل التحقيق الجنائي الذي كان يشكّل أكبر إنجازات الرئيس عون والعهد، ولم تقصر المقاومة في رفع ملفاتها إلى القضاء ولا في رفع الصوت والضغط المعنوي والنفسي على الفاسدين ولا في أي خطوة في المجلس الوزاري أو في التشريع تساعد في تخفيف حدة الفساد المستشري وتحدّ منه، لكن بتؤدة وشمول وعدم انفعال، خصوصاً أنّ لبنان يعيش حالة فساد متعدّدة الطبقات منها ما هو مقنّن (قوانين من تركة العقود الماضية تحتاج إلى معارك قانونية ضارية لتغييرها باعتبارها فساداً وهدراً مقنّنيْن) أو شبه مقنّنة (مثل الوكالات والحصريات) ومزاريب المجالس من خارج اجتماع ومراسيم عمل الحكومة (باعتبار كونها مجتمعة تمثّل السلطة التنفيذية)، وليس انتهاءً بالتوظيف العشوائي والمجالس المقابلة والفساد الذي يضرب، ليس طبقة سياسية فحسب، بل شرائح واسعة من اللبنانيين. وإلى كل ما يجب القيام به في هذه المعركة، خصوصاً أن لديها التزاماً تعاهدياً وهي تقف عند التزاماتها من موقعها الديني والأخلاقي والوطني، أولاً بما التزمت به في خطابها، وثانياً من خلال الدستور الذي تلتزم به كعقد اجتماعي، وثالثاً من خلال ورقة التفاهم مع التيار الوطني الحر، وهو أمر قامت وستقوم المقاومة له بقناعة تامة بكل جهد مطلوب على هذا الصعيد وفق رؤية تتلاقى في نهاية المطاف مع مصلحة لبنان ومع التزاماتها، خصوصاً أنّ لهذا الملف تعقيداته التي ليست خافية على أحد فهو يحتاج إلى حكمة لا إلى انفعال. ومستقبلاً ستكون المقاومة من أوائل من يقدّم رؤى في إصلاح القضاء والتوازن المهمل بقصد بين المناطق وهو أخطر أشكال الاختلال والفساد، وأيضاً بحثها الجاد لموضوعة «اللامركزية» التي أقرها الطائف وأيضاً وثيقة التفاهم مع التيار الوطني.

ad

 

– أمّا التهديدات، الممكنة والمحتملة والقوية: فلا شكّ أنّ الوجود السوري بات قضية ضاغطة على اللبنانيين وفيما لو لم يأت رئيس وحكومة لاحقاً يحملان بقوّة وشجاعة هذا الملف ويتحدّيان إرادة الغرب، فسنكون بعد حين إزاء واقع مختلف تصعب معالجته، وهذا يحتاج إلى رئيس يفهم عن قرب على المقاومة كيفية التعاطي مع هذا الملف البالغ الحساسية وأيضاً مع الحكم في سوريا ويفهم عقليته.

والثاني، التهديدات الإسرائيلية التي لا تتوقّف والمناورات التي تؤكّد كل يوم أنّها تتجهز لإعادة لبنان إلى العصر الحجري… وهذه التهديدات لا يمكن أن ننظر إليها كتهويل لأنّ إسرائيل تلمس اليوم عزلة تاريخية في مقابل خروج أعدائها إلى الفضاء الرحب بانتصارات كبيرة في معارك الوجود التي كان للبنان ومقاومته وحلفائها وصمودهم من عام 2006 إلى عام 2018 الدور البارز في تحقيقها. وبالتالي، الإسرائيلي الذي يشاهد بقلق غير مسبوق في تاريخه تحوّل إيران إلى دولة عتبة نووية وتراجع أميركا وفاعليتها في المنطقة والعالم وانعطافة عربية للتلاقي مع إيران وسوريا ومحور المقاومة وبدء الحديث المتبادل بين القوى عن التشبيك والتكامل الاقتصادي وفرص الاستثمار، ومع تنامي المقاومة في فلسطين وتهديداتها اليومية لأمنه الجاري وأكثر، والمقاومة الواثقة والمقتدرة من اليمن إلى العراق وبالأخص لبنان الذي باتت مقاومته نموذجاً وقوة مؤثرة وملهمة ورادعة في آن بل هاجساً وجودياً له (يصرّح أنّ حزب الله بات أكبر من تهديد استراتيجي له)، كل ذلك يضع في الحسبان إمكانية معتدّاً بها أن يقوم الإسرائيلي بتهور ونتيجة نزق بعمل عسكري على لبنان وشعبه ومقاومته، فمن سيكون في رئاسة الجمهورية أمراً حساساً! لا يجب أن يكون أقل من إميل لحود وميشال عون في عنادهما وشجاعتهما وثباتهما لصالح بلدهما وشرفهما العسكري، وهذا يفترض رجلاً مجرّباً يعرف عقل المقاومة وهو جزء من الدائرة السياسية الناضجة والمجربة وليس طارئاً عليها أو تكنوقراطاً أو هاوي سياسة أو قوياً في لغة الأرقام والبزنس وإدارة الأعمال والبروتوكول (ليست هذه المواصفات الأولى لرجل المرحلة). ويرى البعض أنّ إسرائيل تتحرّك اليوم بانفعال وقد تكثر حساباتها الخاطئة.

ad

 

وعلى خط آخر أو مواز، يتحدّث البعض عن مساع جدية أميركية وربّما دولية لمسألة تطبيع علاقات الأنظمة العربية – غير المطبّعة – مع الكيان الصهيوني (السعودية مثلاً) وفق صيغ ورؤى معيّنة، وإذا ما كان لهذه الفرضية مكانها، ولو من باب الفرض، فهذا يجعل المقاومة أشدّ حذراً لما يمكن أن يخفيه ذلك من مخاطر اعتدنا عليها لا تقلّ عن مخاطر الحرب بل ربّما أكثر. وبالتالي، بذل الجهد ليكون هناك رئيس ذو تجربة سياسية ومبان ناضجة ومتينة في نظرته إلى لبنان ونقاط قوته وسوريا والمنطقة، أي إن فرضية عودة النقاش في «السلام» تدفع إلى مزيد من إيلاء معيارية انتخاب الرئيس أهمية وطنية وليس طائفية أو حزبية كما يروق للبعض.

الثالث، مخاطر أن يدفع الأميركي، الذي تتراجع أوراقه في لبنان، إلى تغرير بعض القوى المسيحية بطرح خطاب استقطابي كما نشهد اليوم من مناخات يدفع فيها للتقسيم باسم الفيدرالية، ما يعرّض لبنان لمخاطر كبيرة. ولعل ما يقوم به من بناء سفارة أمنية وليس سياسية يجعل الحذر منطقياً، وليس لنا أن ننسى أنّ بعض اتجاهات القوى المسيحية يستهويها هذا الخطاب وتعيش عليه، وتحاول أن تتغافل أنّ هذا الخطاب لم ينجح في ذروة حزب الكتائب والجبهة اللبنانية، فهل له أن ينجح اليوم، ناهيك أنّ ذلك ليس مصلحة للمسيحيين بأي شكل، ورغم ذلك تصرّ عليه – ربّما لإضعاف خطاب التيار الوطني – بقيادة زعيمه الروحي اليوم الجنرال عون الذي رفض المساس بوحدة لبنان. فالمرحلة تحتاج إلى رجل في سدّة الرئاسة مقتنع بوحدة لبنان ورافض عن قناعة أخلاقية ووطنية أي شكل من الفدرلة وغير جاهز للخضوع لذلك.

ad

 

لا تريد المقاومة التي عُرفت بالتزامها بعقودها وعهودها مع خصومها، فضلاً عن حلفائها، أن تخلّ بأي من ذلك، فهي التزمت نهج استعادة الحضور المسيحي ليكون شريكاً مساوياً وموازياً لبقية الشركاء لما في ذلك من مصلحة وطنية جامعة، وهي التزمت بمسار إصلاحي متعدّد الجوانب مع نفسها ومع حلفائها ومع لبنان وعقده الاجتماعي، وهي التزمت بنموذج علاقة خاصة مع أصدقائها لا تريد أن تفرّط به، وهي التزمت أن تكون في الداخل اللبناني لاعباً كما غيرها من القوى بل أقلّ (بلحاظ النفوذ في المؤسسات) محيّدة بذلك فارق القوّة المتأتي من كونها مقاومة ذات تأثير إقليمي، وهي التزمت أن لا تفرض على أحد رأيها. ولكن في الوقت نفسه هي لديها التزام أمام لبنان ومستقبل أهله جميعاً وأمام إنجازاته وانتصاراته وشهدائه الذين تزدان الشوارع بالمئات من صورهم، وافتخرت الأرض باحتضان أجسادهم دفاعاً عن الوجود وعن المصير وعن الوطن، وهو رفض التغلّب وكل ما يأتي على صهوته. وفي الوقت نفسه، هي تعتبر نفسها لاعباً في حياة ديموقراطية – ولو أنها لا تزال منقوصة – في لبنان، فهي كغيرها، وبالتساوي، ولها الحق في كل ما لغيرها الحق فيه، وهذا المنهج يدعوها أن تكمل به في كل شيء لأنه لم يعد يصحّ بعد ما قدّمته للبنان هذا التواضع منها وعدم التوازن مع الأطراف الأخرى. فإذا كان البعض يعطي لنفسه الدور في نشأة الكيان اللبناني، فإنّ للمقاومة الحق بالقول إنّها سبب بقائه واستمراره وحضوره اليوم وتمايزه. وبالتالي، يجب أن تخرج من خجلها وحيائها الزائد وتقول نحن شركاء بالتساوي ولن نطلب أكثر من ذلك مع بقية الأطراف – لا نريد أكثر ولكن أيضاً لا نريد أقل.

ad

 

المرحلة المقبلة مفتوحة إقليمياً على الكثير من المبادرات وأظنّ أنّ هناك مصلحة أولاً في إخراج الاستحقاق الرئاسي وطنياً عبر الحوار المباشر والتطمين إذا ما كانت هناك ضرورة له – وأرى ضرورة لتطمينات وفيها وجه منطق – وإذا لم ننجح داخلياً فلعلّ الوقت يكون كفيلاً بتجلية الأمور، ولبنان اعتاد أن يعيش الانتظار وتكيّف معه.

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الجامعاتُ الأمريكيةُ وثورةُ الوعي

  كتب الدكتور المختار الدعايةُ العالميةُ التي عملَت عليها إ.سر.ائيلُ ما بعد 7 أكتو.بر تسعى إلى تثبيتِ أنَّها تحاربُ “إ.ر..ها.بيي ح.م.ا.س” وليس الشعبَ الفل.سطيني في ...