آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » «قانون قيصر»… والحرب المستمرّة

«قانون قيصر»… والحرب المستمرّة

في لقاء جمعنا كأمانة عامة لـ«المؤتمر القومي العربي» مع الرئيس بشار الأسد، في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر 2005، مع بداية انطلاق العاصفة الأميركية ضد سوريا ولبنان، بعد رفض الرئيسين الأسد وإميل لحود «عرض الاستسلام» الذي قدّمه لهما وزير الخارجية الأميركي آنذاك كولن باول، بعد احتلال العراق في نيسان / أبريل 2003، عدّد الأسد أمام الحاضرين ـــــ وكانوا من معظم أقطار الأمّة العربية من المحيط إلى الخليج ـــــ لأوجه الحرب التي ستتعرّض لها سوريا، ومعها لبنان، بسبب تمسّكهما بخيار المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، ورفضهما الانزلاق في برنامج تصفية القضية المركزية.
بين أوجه تلك الحرب المتعدّدة، توقف الأسد أمام الحصار المحتمل على سوريا (وبالمناسبة فهذا الحصار لم يتوقف منذ الخمسينيات ولو بأشكال متعدّدة)، وكان قد قال قبل هذا اللقاء بأيام، في كلمة له على مدرج جامعة دمشق، إن «كلفة المواجهة مهما كانت تبقى أقل من كلفة الاستسلام». وبالفعل، بدأت المواجهة وما زالت مستمرة، يدفع فيها الشعب السوري، والجيش السوري، وحلفاء سوريا أثماناً باهظة مدركين أن البديل سيكون باهظاً أكثر، كما رأينا بعد احتلال العراق، وبعد غزوة «الناتو» لليبيا، وبعد ما يشهده اليمن من حروب عليه وحروب فيه، منذ خمس سنوات وأكثر.
واليوم، مع دخول «قانون قيصر» الأميركي حيّز التطبيق، أتذكّر تلك الجلسة، وأتذكّر حجم الحرب التي شنّها أعداء سوريا عليها بذريعة إسقاط النظام، فإذا بالشعب «الذي يدّعون حمايته» بهذا القانون، هو الذي يدفع الثمن باهظاً من حياته وممتلكاته وأمنه وسلامة اقتصاده ولقمة خبزه، ناهيك عن تشرّد الملايين من أبنائه في جهات الأرض الأربع، وسط تنكّر رهيب لهم ممن كان يفترض أن يكونوا رعاته بعدما كانوا محرّضين على «الثورة». بل بات السوريون، ومعهم أبناء الأمة كلّها، يتساءلون هل أصبح العراق أفضل بعد احتلاله عام 2003، وهل أصبحت ليبيا أفضل بعد غزوة «الناتو» عام 2011، وهل اليمن اليوم في حال أفضل مما كان عليه قبل عام 2011.
إلّا أنّ هذا «القانون» ذا الطبيعة «الإبادية» لشعب بأسره، قد كشف بالمقابل جملة حقائق ينبغي أن تبقى حاضرة في الأذهان، بل هو يحمل في طياته بذور تناقض بين أهدافه المعلنة ومخططاته، بل يكشف جملة وقائع تبدّد كل مبررات وادعاءات القيمين عليه والمروّجين له.
أولاً: إنّ هذا القانون الفاقد لأي شرعية دولية، بعد فشل واشنطن ودول «الناتو» في جرّ مجلس الأمن إلى إصدار قرارات مشابهة بحق سوريا، يتحوّل إلى «عدوان» من دولة كبرى على دولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة، بل يكشف هشاشة ادعاءات واشنطن الدائمة بأنها حريصة على احترام القانون الدولي وتنفيذ إرادة المجتمع الدولي، حيث باتت تخالف في سوريا، كما في بلدان عديدة، هذا القانون والميثاق الأممي الذي انبثق عنه هذا القانون، بل تظهر أن الإدارة الأميركية تحترم المجتمع الدولي، حين يكون هذا المجتمع منصاعاً لإرادتها، وتتنكّر له حين يرفض الانصياع لهذه الإرادة حين تتنافى مع سيادته واستقلاله ومصالحه.
ثانياً: إنّ هذا القانون الذي يصدر باسم «حماية المدنيين في سوريا» يصبّ مباشرة في زيادة معاناة الشعب السوري التي فاقت كل وصف، والتي تؤكّد أن الحرب على سوريا قبل أن تكون حرباً على نظام أو رئيس أو حزب، هي حرب على الشعب السوري الذي وقف منذ الاستقلال عقبة كأداء في وجه كل المشاريع والأحلاف الاستعمارية، وكان حاضناً لإرادة المقاومة في الأمّة من محيطها إلى الخليج، وقاعدة لحركة التحرّر العربي والعالمي. تماماً كما اتضح من الحرب على العراق وليبيا واليمن، وقبلهما الجزائر بأن الهدف هو الشعب ومقدرات البلد أولاً وأخيراً.
ثالثاً: إن هذا القانون ليس موجهاً ضد سوريا وحدها، وإن كان عنوانه يوحي بذلك، بل ضد كل من له علاقة إيجابية بدمشق من دول المنطقة والعالم، بدءاً من لبنان والعراق وإيران وصولاً إلى روسيا والصين وفنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية، وبل حتى إلى جنوب أفريقيا التي رفضت منذ بداية الحرب على سوريا أن تنصاع للإملاءات الأميركية، كما كان حال دول كثيرة وغيرها.
رابعاً: إن هذا القانون الجائر يستهدف بشكل خاص لبنان مثلما يستهدف سوريا، بل يستهدف إغلاق الباب أمام أي مشروع لإخراج لبنان من أزمته الاقتصادية والاجتماعية والمالية الكبرى عبر بناء اقتصاد منتج وذلك من خلال إقفال بوابته الوحيدة إلى العمق العربي والإقليمي المتمثلة بسوريا.

إنّ هذا القانون الأكثر وحشية بين القوانين الأميركية المشابهة يأتي في ظروف تعيش فيها الولايات المتحدة الأميركية الظرف الأكثر سوءاً في أوضاعها الداخلية

وما تزامن الحرب على العملة الوطنية في البلدين خلال الأيام الفائتة، والارتفاع غير المبرّر لسعر صرف الدولار تجاه العملة الوطنية في البلدين، إلّا طلائع هذه الحرب المزدوجة على سوريا ولبنان معاً، وهي حرب تؤكّد وحدة المصير بين البلدين، وأنّ ما يصيب أياً منهما يصيب الآخر، بل إنها حرب كشفت المروّجين لسياسة «النأي بالنفس»، حين تجد بعضهم مصفّقاً لهذا «القانون»، منحازاً بوضوح لواشنطن، وخلفها تل أبيب، بعدما ملأ الدنيا صراخاً عن «النأي بالنفس».
ووحدة استهداف لبنان من خلال سوريا، بل استهداف دول المنطقة كلها من خلال سوريا، تتطلب وحدة المواجهة، فكلّما تمرّدت دولة على هذا «القانون»، وهو قرار أميركي أولاً وأخيراً، ولا يحظى بتغطية دولية، تعطّلت مفاعيله وتعزّز التحرّر من الانصياع للإملاءات الخارجية.
خامساً: لقد جاء هذا القانون في سياق التمهيد الأميركي ـــــ الإسرائيلي لصفقة العار المسماة بـ«صفقة القرن» ولوليدها المشوّه قانون «ضم الضفة الغربية والأغوار»، وقبلهما القدس والجولان، إلى الكيان الغاصب، لإضعاف سوريا ولبنان، بعد فلسطين والأردن، كشرط من شروط إنجاح هذه «الصفقة»، التي لا تستهدف تصفية الحقوق الفلسطينية فحسب، بل توطين الفلسطينيين في الدول المضيفة، ولا سيّما في لبنان والأردن وسوريا، إذا لم يكن ممكناً تشريدهم في بلاد الله الواسعة..
سادساً: إن هذا «القرار» الجائر، كعنوان صارخ لحرب اقتصادية على سوريا ولبنان ودول المنطقة، هو استمرار لحروب اقتصادية متعددة عرفتها العديد من دول العالم، كبرى وصغرى، بعدما فشلت واشنطن في فرض إملاءاتها عليها، بل إنه يكشف التناقض بين الترويج الأميركي للتطبيع مع عدو العرب والمسلمين والتهديد الأميركي بوجوب القطيعة مع بلد عربي كسوريا.
ورغم الأضرار الكبيرة التي ألحقتها هذه العقوبات بدول مثل كوبا وفنزويلا وإيران وكوريا الشمالية وصولاً إلى روسيا والصين، إلّا أنها لم تحقّق نجاحاً يذكر، وكانت تضطر للجوء إلى حروب عسكرية لتحقيق أهدافها، كما رأينا في العراق بعد حصار دام 13 عاماً، وفي ليبيا بعد حصار استمر منذ تسعينيات القرن الفائت، وفي اليمن بعد فشل محاولات تقسيمه والانقضاض على شعبه، ناهيك عن الحروب الإسرائيلية على غزّة المحاصرة منذ عام 2007، وعلى لبنان المحاصر منذ تأسيسه بنظام طائفي فاسد قائم على المحسوبيات ومحمي من القوى الاستعمارية.
لكن الأمر في سوريا مختلف، فالحرب الاقتصادية لم تأتِ لتمهّد لحرب عسكرية تتحقق فيها أهداف عجزت عن تحقيقها تلك الحرب، ولكن عناصر هذه الحرب غير متوفرة، في ضوء ما تشهده المنطقة والعالم من متغيّرات فتأتي هذه الحرب الاقتصادية على سوريا، لتستكمل حرباً عسكرية مستمرة عليها وفيها منذ تسعة أعوام من دون أن تحقق أهدافها، بل ربما يمكن القول إن تلك الحرب جاءت بنتائج معاكسة أكثر، لم يدرك أبعادها ومخاطرها إلّا الكيان الصهيوني الغاصب نفسه الذي بات يواجه جبهة ثالثة متحفّزة لمقاومته بعد جبهتَي فلسطين ولبنان.
سابعاً: إنّ هذا القانون الأكثر وحشية بين القوانين الأميركية المشابهة يأتي في ظروف تعيش فيها الولايات المتحدة الأميركية الظرف الأكثر سوءاً في أوضاعها الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما في علاقاتها الخارجية حيث تتسع دائرة التململ منها، وحتى التمرّد عليها بين دول عديدة في العالم وبعضها كان من أكثر أصدقاء واشنطن قرباً.
ثامناً: إنّ «قانون قيصر» لا يختلف في أهدافه وأساليبه، عن قوانين وأحلاف ومشاريع واتفاقات مماثلة عرفتها سوريا وبلدان الوطن العربي، بدءاً من حلف بغداد الشهير (1954) ومشروع إيزنهاور الذي أرادت واشنطن من خلاله ملء الفراغ الذي خلّفته هزيمة الإمبراطوريتين الإنكليزية والفرنسية عام 1956 على مصر بقيادة جمال عبد الناصر، إلى الانفصال في الوحدة المصرية ـــــ السورية عام 1961، إلى مشروع جونسون لتوطين اللاجئين الفلسطينيين عام 1961، إلى حرب اليمن عام 1962، إلى الحلف الإسلامي 1965، إلى حرب حزيران / يونيو عام 1967، إلى «الدفرسوار» في مصر عام 1973، إلى الحرب اللبنانية عام 1975، إلى كمب دايفيد عام 1979، إلى الحرب العراقية ــــــ الإيرانية عام 1981، إلى الحرب على لبنان عام 1982، واتفاق 17 أيار / مايو في لبنان عام 1983، إلى العشرية الدامية في الجزائر عام 1991، إلى اتفاق أوسلو عام 1993، إلى اتفاق وادي عربة عام 1994، إلى حصار العراق واحتلاله (1990 ـــــ 2003)، إلى حرب تموز / يوليو في لبنان عام 2006، إلى تقسيم السودان عام 2010، إلى العديد من الحروب والانفجارات التي رافقت ما يسمى بـ«الربيع العربي»، وخصوصاً تلك التي استهدفت مصر واستقرارها وجيشها، وليبيا ووحدتها، واليمن وشعبه وثورته الجمهورية التحرّرية.
وإذا كانت تلك الحروب قد شُنّت، والاتفاقات قد عُقِدت، لصالح المشروع الأميركي ـــــ الصهيوني في ظلّ ظروف إقليمية ودولية مؤاتية لصالح هذا المشروع، فإنّ أحداً لا يستطيع أن ينكر أنّ الظروف الراهنة قد تبدّلت بشكل واضح، وأنّ ما كان سهلاً على واشنطن وتل أبيب والقوى الاستعمارية تحقيقه، في بدايات هذا القرن، لم يعد سهلاً تحقيقه مع دخول القرن عقده الثالث، ولا سيّما مع تبلور حركة مقاومة، التي لم تعد محصورة ببلد واحد، بل باتت مدعومة من أطراف لها وزنها على الصعيد الدولي.
ولن يكون مصير «قانون قيصر» مختلفاً عن مصير أمثاله من قوانين واتفاقات وأحلاف ومشاريع أجهزت عليها إرادة الأمّة. تماماً كما لن يكون مصير «صفقة العار» المسماة «صفقة القرن»، ولا قرارات الضم للضفة والأغوار، بعد ضم القدس والجولان، بأفضل من مصير كل قرار مناقض للحق العربي ولإرادة الأمّة المعبّرة عن هذا الحق.

* كاتب وسياسي لبناني

(سيرياهوم نيوز-الأخبار)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

طوفاننا وعصرهم الذهبي

موسى السادة   منذ أشهر، كتب شيخ إماراتي شاب التالي:«من ناحية، تشهد مدن الخليج ما قد يكون عصرها الذهبي من خلال المعارض الفنية والفعاليات والافتتاحات ...