آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب الأسبوع » كتاب(اسمي العلني والسري ..حوارات مختارة مع «شاعر الأرض» محمود درويش)

كتاب(اسمي العلني والسري ..حوارات مختارة مع «شاعر الأرض» محمود درويش)

يطرح كتاب «اسمي العلني والسرّي: حوارات مختارة» (الدار الأهلية للنشر والتوزيع) لجامعه الشاعر والباحث المصري محب جميل، ستة عشر حواراً مختاراً مع محمود درويش (1941-2008) جرت بين 1971 و1982. هذه اللقاءات جمعها الباحث الشاب بدقّة وعناية، من مجلاتٍ ومصادر عدة، لتُعيد تقديم الشاعر الفلسطيني بطريقةٍ تمظهره أكثر، لا كمجرّد شاعر، بل أيضاً للإضاءة أكثر على خلفيّته التي جعلته على ما هو عليه. لم يحدث أن حظي شاعرٌ عربي، بعد المتنبي بالطبع، بهذا الاهتمام بأدبه، وشعره، وحياته، بقدر ما حظي به «شاعر الأرض». اعتبره الفلسطينيّون والكثير من المبدعين، كما يُشير الشاعر الفلسطيني الراحل عز الدين المناصرة «شاعر فلسطين الأوّل ولسان حالها». لم يمتلك ناصية الشعر الفلسطيني فحسب، بل عاش أيضاً أهواء فلسطين وأنواءها، ومزاج بندقيّتها، ومصائب فصائلها وعثراتهم أيضاً. ولا ريب أن اختيار عنوان الكتاب «السري والعلني» مرتبط بما هو محمود درويش «داخلياً وخارجياً»، كإنسان، ومثقّف، وشاعر، ومناضل أيضاً. علماً أنّ العنوان مأخوذ ولو بتحريفٍ بسيط، من مقالة للصحافية ليلى سمارة، نشرتها في صحيفة «السياسة» الكويتية عام 1972.

في مقدّمة الكتاب، يشرح جميل: «الحوارات التي أجراها (درويش) خلال تلك المرحلة، تشكّل قاعدةً أساسيّةً للتقرّب من أفكاره، وقصائده، وهواجسه المتواصلة تجاه وطنه، وقصيدته، ورفاقه. لذلك، فإنّ الحوارات التي ضمّها هذا الكتاب، اختيرت بتأن، بمثابة شريط يمتد من ضفة النيل حتى شاطئ بيروت. فدرويش كان يعرف كيف يتعامل مع الأسئلة في حواراته، كيف ينطلق، وكيف يتوقف. يلقي بظلال على موقف بعينه، وينوّه بظاهرة أخرى. إنّها رحلة ممتدة تفيض بالأحلام، والهزائم، والانتصارات، والتنقّلات، والخيبات». فوق هذا، تعمّد الباحث المصري أن يكون «دقيقاً» في كتابه، إذ «آثرت أن أقوم بترتيب الحوارات بحسب المدة الزمنية التي نُشرت خلالها، إضافةً إلى التنويه بتاريخ المقابلة، والمصدر الأصلي الذي نُشرت به، وكذلك أسماء من حاوروه». وهذا يُفيد القارئ لا للتحقّق فحسب، بل أيضاً لمقاربة تاريخ المقابلة بالتشارك مع «البعد التاريخي» وتأثير الوقت على الشاعر. يُضاف إلى هذا، ما تركته تلك الأحداث من تغيّرٍ وتحوّل في شعر درويش وتجربته الثقافيّة والحياتيّة.
منذ بداياته، يظهر نفسٌ مختلفٌ لدى درويش. إنه يربط نفسه/ شعره بالأساطير اليونانية، كما بشعراء «قمةٍ» آخرين. في لقائه مع معين بسيسو لصحيفة «الأهرام» القاهرية عام 1971، يقول إنّه: «ما أكثر ما كنت أتصوّر نفسي كأحد أبطال المأساة القديمة. البطل يصبح قدره أن يربط إلى طاحونة ويأخذ في الدوران وتأخذ الطاحونة تدور. وأنا مدين حقاً لبريخت الشاعر والمسرحي الألماني العظيم الذي أعطاني القدرة كي أقرر كما قرّر هو أنّ الشاعر هو الذي يقرّر دور الطاحونة، وليست الطاحونة هي التي تقرّر دور الشاعر. وقرّرت بيني وبين نفسي أن ألعب الدّور الذي قدّر لي أن ألعبه كاملاً». إنّه شاعر مقاومةٍ قبل أي شيء وكل شيء: «المقاومة هي إحدى نوافذي إلى الأمل وتأشيرة مروري للعالم. وإنني أعتز أنني لا أنتمي الآن إلى مجموعة من اللاجئين المشرّدين في الخيام من حملة بطاقات الإغاثة الزرقاء؛ لكني أنتمي إلى شعب أصبح اسمه المقاومة». وهو أيضاً شاعرٌ ملتزمٌ كفاية: «الالتزام في شعري بقضية وطني وناسي؛ اكتشفته من دون أن أعرف أو أخطط بشكل تلقائي. أنا مدين لظروفي الخاصة، فأوضاع الكاتب العربي هناك تدفعه لتبنّي موقف واضح. لا يصل إليه بالانتقال من مدرسة إلى أخرى» (من مقابلة مع فريدة النقاش في صحيفة «الجمهورية» المصرية عام 1971). 

بالشكل البورجوازي، يمكنني محاربة البورجوازية لأنه لا يوجد أدب بروليتاري متبلور (م. د)


من المقابلة نفسها، يُقارب درويش صعوبة شعره بالسؤال الأهم: «أجمل أشعاري كتبتها عن أمي، وأمي لا تقرأ. والتفاعل بيني وبينها قائم، فهل أكتب شعراً لا تفهمه أمي؟». هو يصرّح بأنه «صانعٌ للشعر»: «أستخدم وأستفيد من كل أشكال التعبير. والرمز حجرٌ في البناء العام الواقعي في النهاية. وفي رأيي أن الواقعية كرؤية وكمنهج تستطيع أن تتّسع لكل أشكال التعبير وتستفيد منها». يمتلك درويش شجاعةً مختلفةً عن سواه، ففي مقابلة مع فؤاد مطر في صحيفة «النهار» عام 1971، يورد ما لا يستطيع غيره قوله، خصوصاً في تلك المرحلة الزمنية: «لم أحمل بندقية ولا مسدساً ولا سكيناً ولا عصا. كنت أعزل. كان سلاحي كلّه الكلمة. وكنت من شدة الإحساس بالقهر؛ أحتقر أحياناً هذا السلاح وأتمنى لو استُبدلت الكلمة بالفعل. لكن بعيداً عن الغضب، فإنه من الضروري أن نضع هذا السلاح/ الكلمة في اختبار صعب. يجب ألا نحرجه بالمقارنة. ومن واجبنا أن نعيد إليها اعتبارها من دون أن نحمّلها مهمة السلاح الآخر. أي يجب ألا تكون بديلاً لكل الأسلحة. هل أحمل السلاح؟ لا أعرف. لكنني سأكون مواطناً أفضل لو أحسنت صقل سلاحي/ كلماتي». يصرّح بالعلن وجهة نظره الأقسى: «لقد شبعنا خطباً؛ خطباً… خطباً. ونريد الأغنية. الأغنية الحقيقية البسيطة، الإنسانية والعميقة وحدها القادرة على إشباع المقاتل بمفهوم الوطن. الوطن بيت وطفل وزوجة وحقل؛ وليس صورة تجريدية أو موضوعاً إنشائياً». ولا يتوانى عن التعريف بنفسه على أنّه شاعرٌ غنائي: «نعم، أنا شاعر غنائي، حتى قصائدي التي تبدو صعبة لا تخرج كثيراً عن سياق الغنائية» (هيفاء زين الدين، منشورة في مجلة «الثقافة» السورية، 1967). ماذا عن الخلط بين المرأة والقصيدة، إحدى أبرز ميّزات شعر درويش: «(أنا) لا أخلط؛ لكن الحدود بين فلسطين والمرأة تضيع أحياناً. إني أحب فلسطين طبيعة وقضيةً وصراعاً وشعباً. مع ذلك، فقد أقع أحياناً في حب امرأة؛ من دون أن أؤذي فلسطين ومن دون أن تغار المرأة. إذ ليس بوسعي أن أتناول العشاء مع خارطة فلسطين وحدها» (من المقابلة مع مجلّة «الحسناء» عام 1975). أما عن فلسطين، فهو يقول الكثير: «أنا أحد أصوات فلسطين. وأنا الفلسطيني الذي يرفض ألقاب فلسطين. لا لأنني لا أحب الصفات الرسمية فحسب، بل لأنني مشبع بفلسطين إلى درجة تدفعني إلى اللّعب خارجها، فأراني فيها من جديد إلى درجة الإغراء بتمرّد طفل على أمه. إني أسعى إلى الفطام. فأنا واثق من علاقتي بها إلى الحد الذي يُبيح لي أن أقول لها ما أشاء، وأبتعد عنها كما أشاء» (من لقائه مع شربل داغر في صحيفة «الشرق الأوسط» عام 1979). 
كان درويش، مختلفاً في كل شيء، واعياً لذاته فكرياً وثقافياً، كما لتجربته الشعرية. ففي مقابلةٍ مع فاديا الشرقاوي لصحيفة «السفير» اللبنانية عام 1975؛ يوضح بأنه لم يصل إلى القمة؛ هو حتى لا يحاول: «لم أصل إلى أي قمة ولا أحاول الوصول إلى قمم، وهذه المسألة آخر ما يعني الشاعر. إنها همّ الناقد أو اجتهاده؛ لكن همّ الشاعر هو الوصول إلى أقرب منطقة من التشابه بين التعبير والحلم. وليس بوسعي أن أقيس مساحة هذه المنطقة في إنجازي الأدبي، لكني أن أكون جديداً أو مولوداً. أنا أحاول دائماً أن أكون جديداً في كل محاولة». يفاجئك درويش بأنه حتى في منحى الصراع الأدبي بحد ذاته، يقول ما لا يقوله الآخرون. يصرّح علانية في المقابلة ذاتها بأنه «يكتب للبرجوازيين: الثقافة الحاضرة هي ثقافة البورجوازية، الطبقة السائدة. ولم تتبلور حتى الآن ثقافة أخرى بسبب عدم توصل منتجيها إلى مركز السيادة. وهذه المشكلة ليست عربية فحسب؛ إنها تصلح لتصنيف معظم الثقافة العالمية السائدة. نعم أكتب للبورجوازية فماذا نستطيع أن نفعل إزاء الشكل؟». لا يخجل من طرح إشكالية مماثلة، لكنه سرعان ما يستدرك ليشرح وجهة نظره: كي تتخلص من «برجزة» الأدب، ينبغي أن تحارب البرجوازية بأسلحتها، ومن داخلها: «لهذا يحاول الكاتب الثوري أن يشكل عازلاً بين التعبير الذي أنتجته البورجوازية؛ وبين ضرورة امتلاء هذا الشكل بالمضمون البورجوازي. وهنا ندخل في مشكلة بالغة الصعوبة عن العلاقة بين الشكل والمضمون. وكما يُقال: إن النّسف هو بداية حلّ مؤقّت. بالشكل البورجوازي، بوسعي أن أحارب البورجوازية لأنه لا يوجد أدب بروليتاري متبلور».
كتاب جديد يُعيد إلى الواجهة مقابلاتٍ قد تكون أزمنتها قد تغيّرت، بالتالي قد لا يفهم قارئ اليوم لماذا كانت أجوبة الشاعر الفلسطيني على هذه الشاكلة، لكنها بالتأكيد تضعه تحت الضوء كعادته؛ وهو دأبه الدائم. إذ إن محمود درويش مذ بدأت ظاهرته بالتشكّل، كان تحت الضوء، وما زال بعد 14 عاماً على رحيله.

(سيرياهوم نيوز-الاخبار)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

“فلسطين قضية وطنية”.. كتاب يصون ذاكرة المغاربة في دعم فلسطين

“دار الملتقى” في المغرب تصدر كتاب “فلسطين.. قضية وطنية”، الذي يوثّق كتابات ومواقف أعلام مغربية من فلسطين والقضية الفلسطينية.   صدر حديثاً عن “دار الملتقى” ...