قال الإمام علي كرّم الله وجهه: “من انشغل بصغائر الأمور فاتته كبائرها “، وكم وجدتُ هذا القول مفيداً وصحيحاً وأنا أراقب وأتدبّر أشياء عديدة سواء أكانت في المجتمع والحياة العامة أم في السياسة والأمور الكبرى التي تهم الدول ومصائرها.
ولكنّي اليوم وأنا أراقب المشهد العربي من العراق إلى ليبيا وتونس أجد أن ما آل إليه هذا المشهد يكاد يكون تجسيداً حيّاً لانشغال العرب بصغائر الأمور بحيث فاتتهم كبائرها وما زالوا اليوم والخطر يتنازعهم من كلّ حدب وصوب يفكرون بهذه الطريقة المجتزأة والتي تحاول أن تعالج كلّ شأن وكلّ أزمة بمعزل عن أخواتها التي تصيب الآخرين، غير مدركين أنه لا يمكن معالجة أي أزمة بمفردها لأن المستهدف هو الجميع ولأن منشأ كلّ هذه الأزمات هو منشأ واحد ويهدف إلى تحقيق هدف واحد ألا وهو إلغاء الوجود العربي واستبداله بوجود صهيوني يهيمن على هذه المنطقة ويتحكم في خيراتها وثرواتها وحتى بمصائر أبنائها وحياتهم.
والسيطرة التي يقصدون لا تعني بالضرورة إفراغ المنطقة من العرب إنما سلبهم أي قرار يخصّ شؤونهم أو يخصّ أي شأن آخر، ويجعلهم تابعين لمن يتحكم فيهم. ومن هنا فإن فلسطين هي العنوان فقط والبداية، وما تتعرّض له اليوم قد يكون حقل اختبار لتطبيقه في المستقبل على دول أخرى.
إن شطب اسم فلسطين من “غوغل” و”أبل” هو جريمة بحق العرب جميعاً، ولو فهم العرب معناها ومقصدها لاعتبروا أن شطب هذا الاسم هو جريمة حقيقية تنال كل واحد منهم في الصميم، هذا إذا كنا نتحدث عن رؤية كبائر الأمور وعدم الانغماس في شظايا صغائرها. والأمر ذاته ينطبق على الخطر المائي الذي يهدد معظم العرب اليوم؛ فصفقة القرن تهدف أولاً وأخيراً إلى محاصرة الفلسطينيين في أراض جافة وحرمانهم مصادر المياه وتحويل كل الأرض الخيّرة إلى أيدي الصهاينة، وهذا بالذات ما حاولوا أن يحققوه خلال عملية السلام، وكان الصراع على المياه وليس على الأرض هو القول الفصل في إفشال آخر جولة مفاوضات بين الرئيس حافظ الأسد والرئيس بيل كلينتون في جنيف في 26 آذار/مارس 2000 ؛ إذ قال الرئيس كلينتون للرئيس حافظ الأسد: “لقد وافق الإسرائيليون على تعويضك عن طبريّا بضعف الأراضي في الجبال المحيطة بها”، وحين كان يشير بيديه إلى الخارطة ووجوب أن تبتعد سوريا عن مياه طبريّا قال له الرئيس حافظ الأسد الذي كان خبيراً بكلّ شبر من هذه الأرض: “أزِحْ هذه الخريطة عن الطاولة، ما هي حاجتي لأرض جرداء؟ أنا لي حق في مياه طبريّا ونحن لن نتخلى عن هذا الحق أبداً. حتى وإن لم أستطع تحريرها في حياتي فلن أصادر حق الأجيال في تحريرها”.
وها نحن اليوم نرى أن كلّ الخطوات الإجرائية التي يقوم بها العدو الصهيوني تهدف إلى مصادرة الأرض الطيبة والمياه وحصار الفلسطينيين ومن في حكمهم في أراضٍ تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة. وها هي إثيوبيا وبالتنسيق والتعاون مع العدو الصهيوني ومع العثماني الجديد وبلدان التطبيع الخليجية مع العدو تبدأ بملء سد النهضة لحرمان السودان ومصر شريان الحياة الذي يغذي هذين البلدين ألا وهو نهر النيل، وها هو العثماني الجديد أيضاً يملأ سدوده ويحرم سوريا والعراق الشريان الأساسي الذي يغذّي أراضيهما ألا وهو نهرا الفرات ودجلة، ولا شك في أن هذه القوى الثلاث المجتمعة تعمل بالتخطيط والتنسيق في ما بينها والهدف واحد ألا وهو العرب في أي قُطر من أقطارهم وحيثما كانوا وحلّوا؛ ولا فرق بين استهداف عربي وآخر، فالجميع يجب أن يواجهوا المصير المخطط لهم ذاته.
وما زال العرب ورغم هذه المؤشرات الخطرة التي تهدد مستقبلهم جميعاً ينفقون ثرواتهم على تدمير شعب أعزل في اليمن، كان منبع الموجات العربية التي تمركزت في جميع البلدان، وأصل حضارتها وأنموذج عزتها وكبريائها.
وها هو العثماني الجديد يشنّ هجوماً على دولتين عربيتين نتيجة التدخل أو النية للتدخل في ليبيا، بينما يرسل عدته وعديده ويتدخل في بلد عربي نهاراً وجهاراً، طمعاً بثروات هذا البلد وخيراته، وأملاً بالتمدد منه إلى أقطار المغرب العربي الأخرى، والتحكم في مستقبل شؤونها، تماماً كما يحتل أجزاء من أراضي الجمهورية العربية السورية والعراقية بأعذار وأساليب لا تقف أمام المنطق، ويطلق الهجمات على العراق، ومحرّكه الأساسي في كلّ ما يقوم به هو طمعه في إعادة حكم السلطنة العثمانية على الأرض العربية، بغض النظر عن الحدود بين الدول العربية وأسماء هذه الدول.
وفي بعض الدول العربية وصلت الأمور إلى أن بعض القائمين على شؤونها يدافعون بكلّ وضوح عن مصالح من يستهدفهم بحجة الولاءات والصداقات غير مدركين أن لا صداقة لهؤلاء إلا مع مصالحهم وأهدافهم التي رسموها ضدنا جميعاً. وفي هذه المرحلة تزوغ الأبصار لدى الكثير ويختلط الحق بالباطل وتصبح العمالة حتى ضد مصالح البلد الجوهرية وجهة نظر، ويتجرّأ المتواطئون والمرتهنون لإرادة الغير على الإدلاء بآرائهم من على منصاتهم السياسية التي وُجدت حصراً لخدمة البلد والشعب.
كل هذا ناجم عن غياب التفكير الذي علّمونا إياه في الصف الأول من مدارسنا الابتدائية، حين شبّهوا العرب جميعاً بحزمة من العيدان، يسهل كسرها الواحد تلو الآخر إذا تفرّقت، بينما يستحيل كسرها حين تكون رزمة واحدة. وللأسف، فإن سياسات دول عربية تابعة لمن يستهدف هذه الأمة، لم تأخذ هذا المفهوم وهذه الرؤية بعين الاعتبار، معتبرة أنها منيعة ضد الاستهداف، وأن مَن يظهر لها بوادر الصداقة والشراكة، فقط لينهب خيراتها، يعني ما يقول.
لو افترضنا جدلاً أن القائمين على شؤون هذه الأمة استشعروا كل هذه الأخطار الداهمة والمحيقة بهم وأدركوا أن طريقهم جميعاً إلى الخلاص يكمن أولاً وأخيراً في توحيد كلمتهم ومواقفهم قبل توحيد تحركاتهم لرأينا أعداءهم ينتفضون غضباً وخوفاً من الخطوات التي توحّد هذه المسارات العربية لأنهم يعلمون علم اليقين أن البناء على المشترك بين العرب من تاريخ وجغرافيا وثقافة ولغة ومصلحة أجيال هو الوحيد الذي يمكن أن يشلّ مخططات أعدائهم؛ كلّ أعدائهم، وهو الوحيد الذي يرتقي بهم وبكلمتهم وبمكانتهم في المنطقة والعالم. إذا كان التنسيق المستجد بين فتح وحماس في مواجهة صفقة القرن قد أقضّ مضاجع العدو الصهيوني، فماذا يفعل التنسيق الحقيقي بين العراق وسوريا ولبنان والأردن ومصر على سبيل المثال لا الحصر؟
ليست مصادفة أن الولايات المتحدة وضعت ثقلها العسكري في مفرق التنف وما زالت تغذي العصابات الإرهابية هناك وترعاها كي تمنع أي تواصل حقيقي وفعّال بين العراق وسوريا والأردن ولبنان. والغريب في الأمر أنه إذا كان عدونا يبني كل نظرياته وخطواته على دبّ الفرقة بين ظهرانينا وتشتيت قوانا وشرذمة صفوفنا، أوليس من البديهي أن نكتشف أن الانقلاب على مخططات العدو والعمل بعكس ما يشاء ويهوى ويرجو هو السبيل السليم لخدمة مصالحنا وبلداننا وشعوبنا؟ أم أن الذي تمرّس على الاهتمام بصغائر الأمور لا يستطيع الانتقال للاهتمام بكبائرها والترفّع عن التفاصيل التي لا تقدّم ولا تؤخر في مسار التاريخ الأهم وفي صناعة المستقبل الذي يجب أن يكون هو القصد والمبتغى دائماً؟
(سيرياهوم نيوز-الميادين٢٠-٧-٢٠٢٠)