آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » البحر والحضارة الفينيقية في أعمال الفنانين السوريين

البحر والحضارة الفينيقية في أعمال الفنانين السوريين

خير الله علي

من الأمور البدهية أن يتأثر الفنان التشكيلي ببيئته، وأن يتجلّى هذا التأثر في أعماله، سواء في التصوير ،أو النحت ، أو الغرافيك، أو حتى في المشغولات اليدوية التّزيينيّة، أو غير ذلك. وقد يعتمد الفنان، مرة ،التمثّل الواقعي والحرفي لمفردات ومكونات هذه البيئة ، أو تصوير هذه المكونات والعناصر بإسلوب تعبيري خاص، مرة أخرى ، وذلك من خلال التحوير والايحاء والتلخيص، فيقدمها كرموز في منتوجاته الفنية، أو كقيم لونية تعكس الزاوية التي يرى من خلالها هذه الاشياء. في هذا السياق شكل البحر لوحده مادة ملهمة ومهمة أسرت قلوب ووجدان الكثير من الفنانين التشكيليين في الساحل السوري، وذلك بسبب قربهم منه، وحبهم له، وتفاعلهم مع جميع حالاته الطبيعية، حيث تحولت العلاقة مع البحر لدى بعض منهم إلى عشق لا فكاك من توهجه ، حتى أصبح علامة فارقة وثيمة في أعمالهم ولوحاتهم . بل يمكن القول أكثر من ذلك بأن كل فنان سوري من الداخل زار البحر أو المنطقة الساحلية في رحلة عابرة، أو جاء كي يصطاف أياما معدودات على شاطئه تحول البحر لديه إلى مصدر الهام انعكس في أعماله وتجلّى في ألوانه ولوحاته ومنحوتاته. طبعا من الصعوبة بمكان الإحاطة بكل التجارب الفنية التي كان البحر والبيئة المحيطة به مادتها الخام، فدون ذلك مشاق كثيرة، لذلك سنكتفي في هذا المقال بالتركيز على تجارب بعض الفنانين الذين كان موضوع البحر وبيئته مادة رئيسة في أعمالهم، ونلقي الضوء على الأسلوب والطريقة التي تناول كل منهم هذه العناصر بها، بما في ذلك التراث الفينيقي العريق الذي يعد، بلا شك، وليد البيئة البحرية المتوسطية الدافئة والساحرة معا. فهناك من قارب البحر بلوحات واقعية أو انطباعية وهؤلاء يمثلون الغالبية من الفنانين /وليد الشيخ ..أحمد خليل…علي إبراهيم .. علي الشيخ ديب …تانيا نبهان وكثيرين آخرين / فصوروا الشاطئ ورماله وصخوره ، والامواج وزبدها ، والقوارب بأنواعها ،والصيادين وشباكهم، فجاءت أعمالهم نتيجة تفاعل حسي ووجداني مع البحر من خلال التركيز على مناظر محددة من الشاطئ، أو باقتناص لحظة يكون المشهد فيها ساحرا لاسيما وقت الصباح ومعظم الأحيان عند الغروب، حيث ترسم خيوط الشمس المنسكبة على صفحة الأزرق البهي لوحات تتبدل كل لحظة لتقدم لنا مع كل حركة مشهدا جديدا ولوحات لا نهاية لعددها ولا إحاطة بروعتها . الفنان النحات حسن عزيز محمد الذي ولد بين الزبد على بعد أمتار من الشاطئ وعاش وعايش البحر على مدى نصف قرن حتى الآن، كان البحر صديقة وعشقه وملهمه. سحره التراث الفينيقي فراح يبحث في خفاياه وكنوزه ليخرج علينا بمجموعة كبيرة من الاعمال النحتية استحضر من خلالها تلك الإنجازات التي أبدعها الفينيقيون على شكل مجسمات ومنحوتات من الحجر الرملي، كالسفينة الفينيقية الشهيرة ومعبد الإله ماكارت وكرسي الملك ومدافن عازار، التي تسمى أيضا المغازل، وبوابة طرطوس والبار الفينيقي والطاحونة. إنها تجربة فنية زاخرة بالعاطفة الصادقة تهدف إلى إحياء ذاكرة غنية بكل ما هو عظيم وجميل وله علاقة بالحضارة الفينيقية العريقة التي فاضت على الكرة الأرضية بالعلم والنور والأرجوان. تعكس أعمال الفنان حسن عزيز محمد حالة خاصة، فهو لا يتعامل مع الحضارة الفينيقية كموضوع جمالي فحسب، بل كهوية شكلت روحه وعقله وفكره وكيانه كاملا، ويمكن القول هنا أنه من المؤسف أن تلك المنحوتات التي أبدعها لم تجد من يقدرها ويحتضنها ويضعها في مكانها المناسب الذي تليق به، حيث يمكن أن تكون على مدخل كل منشأة سياحية أو مؤسسة رسمية في المحافظة. البحر وبيئته تحولا إلى موضوع شخصي لدى الفنان الكبير غسان جديد، أي بمعنى ما وكأنه يقول: هذا البحر …هذه القوارب ..هذه الييوت .. هذه الألوان لي وحدي، فقد كرس لهذه المفردات مئات اللوحات والاعمال الفنية، يقدمها مجتمعة وفرادى، لا يمل ولا يكل وهو يعيد صياغتها وهندستها من زوايا كثيرة، وبإحساس جديد، وروحانية مختلفة. لطرطوس القديمة وأرواد والبحر والقوارب فلسفة خاصة عند غسان جديد، فعندما يرسم كل هذه المعالم يغيب الانسان فيها كوجود مادي بارز، لكنه يحضر من خلال مجمل الجمال الذي يتجلى في كل تلك المعالم، حيث تتبدّى العلاقات واللمسات والحميمية الإنسانية في كل تفصيل، ومع كل خط وباب ونافذة ومصطبة وزقاق وشارع. لا توجد عفوية في بناء اللوحة عند غسان جديد كما يخيل للبعض، بل هناك تحوير وتلخيص تعبيري مدروس بعناية فائقة، هناك موسيقى لونية… هارموني ساحر ليس فقط في توزيع اللون وإنما في تموضع الكتلة داخل مساحة اللوحة، وإن كان هناك ثمة عفوية ما فهي ناتجة عن حالة التماهي الكلي بين الفنان وموضوعه، تماه يجعل الألوان والخطوط تنتقل إلى اللوحة بآلية تتحكم بها روح الفنان من خلال أنامله التي تقبض على الريشة. هذا العشق نتلمسه في أعمال الفنان القدير محمد هدلا مع فارق أن الفنان هدلا قارب موضوع البحر وطرطوس القديمة والقوارب وجزيرة ارواد بأساليب عدة؛ واقعية حينا، وتعبيرية حينا، وتعبيرية تجريدية مرة ثالثة، وفي كل الحالات كان فنانا خلاقا ومبدعا وأستاذا بكل ما للكلمة من معنى. أبعدت العاصمة دمشق الفنان والناقد المتميز أديب مخزوم عن البحر، لكن من ينسى طفولة قضاها مع البحر؟ وهكذا تحولت الصور القابعة في مخابئ الذاكرة إلى لوحات تناول فيها مخزوم القوارب الورقية التي ترمز إلى طفولته، وتعيده إلى ذكريات ومشاوير البحر في مدينته ومسقط رأسه طرطوس. شغف الفنان علي بهاء معلا بالتراث الفينيقي لم يوقفه عند تجسيد السفن الفينيقية بمنحوتات خشبية متقنة تحاكي أبداعات حضارتنا العريقة على شاطئ المتوسط، بل راح يغوص ويحفر في طبقات التاريخ كاشفا بعزيمة عالم الآثار وروح الفنان العاشق عن الكثير من المعلومات المتعلقة بأنواع السفن وأشكالها وحجومها، فنفذ آلاف القطع الخشبية التي تمثل مختلف أنواع السفن البحرية التجارية منها والخاصة بنقل الركاب، وعمل على توثيقها كموروث وطني يحاول البعض طمسه والاستحواذ عليه ونسبه له. الفنان الكبير لؤي كيالي وهو ابن حلب الشهباء صور، كذلك، البحر والقوارب والصيادين بريشة ماهرة، فهو لم يجسد في أعماله الخالدة تلك، صورة القوارب الراسية في الميناء، ومشاهد الصيادين المنهمكين بإعداد وتجهيز شباكهم للصيد فقط، بل استطاع أن ينقل لنا في لوحاته روح الحياة ونبضها، على شاطئ المتوسط بخطوط منحنية ، رقيقة ، شفافة ، تكتنز إحساسا فنيا رائعا من حيث الخط القوي والمساحات اللونية المسطحة والواضحة. وكما في مجمل أعماله نرى كيالي قد ركّز على الموضوع بألوان مستمدة من طبيعة المكان والبيئة بما يخدم الفكرة، فقدم للفن التشكيلي السوري، بهذه الاعمال الواقعية التعبيرية، إرثا فنيا راقيا رفيع المستوى يرتقي إل مستوى أعمال ومنجزات الأجداد الذين أجادوا وأبدعوا. في حين استفاد الفنان محمود هلهل من خلال خبرته في البحر وعلاقته مع كائناته وأصدافه و شواطئه من خامات غير مستخدمة سابقا بإنتاج أعمال فنية كثيرة ومتنوعة فقدم لوحات من التوالف البحرية و كذلك أعمالا حرفية بالأصداف و الرمال و فنون الشواطئ . مهما يكن من أمر سيبقى البحر موضوعا أثيرا لدى الفنان، ثرّا ملهما لا ينضب عطاؤه، ما خفي من أسراره وأسرار الحضارة الفينيقية أكثر مما ظهر حتى الآن، وعلى عاتق الفنان السوري اكتشاف تلك الكنوز باساليب وتقنيات تبين اصالته وقدرته على الابداع وخلق الجمال والسلام، تماما كما فعل ذلك أولئك الذين زرعوا القمح وابتكروا الأرجوان وصنعوا السفن التي أبحرت في أربع رياح الأرض.

(سيرياهوم نيوز6-خاص بالموقع26-5-2022)

 

x

‎قد يُعجبك أيضاً

اليوم 23 نيسان يوم الكتاب العالمي

    محمد عزوز   يصادف اليوم الثالث والعشرين من شهر نيسان اليوم العالمي للكتاب، وهو اليوم الذي يصادف رحيل الشاعر وليم شكسبير والشاعر الإسباني ...