كثيرة هي القضايا التي كانت موضع بحث بين الرئيسَين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب
طيب إردوغان، خلال لقائهما في سوتشي، أول من أمس، والذي تأخّر لنحو شهر. وفي انتظار نتائج القمّة الرئاسية التي استمرّت على مدى ثلاث ساعات (من الثانية وحتى الخامسة من بعد الظهر)، ساد الحذر الأوساط المعنيّة. ودعت وسائل الإعلام الغربية، مثلاً، إلى ترقُّب نتائج اللقاء الذي وصفته الصحافة التركية قبل انعقاده، بأنه سيكون «تاريخيّاً»، فيما قال إردوغان إنه سيخرج بـ»مواقف مهمّة».
غير أن مجريات «الحدث» لم تكن على قدْر التوقّعات؛ بل إن فوز منتخب تركيا للسيدات في بطولة أوروبا لكرة السلّة، على حساب صربيا، مساء السبت، كاد، حتى في صحف يوم أمس، يطغى كليّاً على قمّة سوتشي. ويمكن القول إن اللقاء «لم يكن ناجحاً»، بل وربما انتهى إلى الفشل؛ ذلك أن إردوغان لم يذهب إلى نظيره بمقترح جدّي ومتكامل، اعتقاداً منه بأن روسيا محكومة للانصياع لتركيا. وهذا يعني أن الرئيس التركي لم يَعُد إلى بلاده متأبّطاً – تحديداً – جائزة «اتفاق الحبوب»، لتتواصل نكسات إردوغان الخارجية، من تأجيل زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى تعثُّر المصالحة مع سوريا، والخلافات الكبيرة مع الجانب العراقي، وفق ما أظهرته الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية، حاقان فيدان، إلى بغداد. وإذا كان من «وميض» إيجابي، وفقاً للصحافة التركية، فهو أن اقتراح تصدير روسيا مليون طن من الحبوب إلى أفريقيا عبر تركيا، قد يأخذ طريقه لاحقاً إلى التنفيذ.

وفيما أعرب إردوغان عن أمله في أن تسفر جهود الأمم المتحدة مع تركيا عن استئناف العمل بـ»اتفاق الحبوب»، ردّ بوتين بوضوح شديد، مكرّراً ما كان يقوله سابقاً من أنه «عندما تُرفع العقوبات المفروضة على روسيا في ما يتّصل بهذا الاتفاق، يمكن الحديث عن عودة العمل به». وفي الموقفَين انعكاس لعدم إحراز أيّ تقدُّم في القضيّة الأهمّ التي ناقشها الزعيمان. ووفق ما قاله إردوغان، في المؤتمر الصحافي المشترك مع بوتين، فإن الاتفاق المذكور يشكّل «مفتاح حلّ أزمة الغذاء العالمية»، معترفاً بأن المقترحات المقدّمة، إلى الآن، «ناقصة، ولم تقدّم نموذجاً موثوقاً وبنّاءً»، داعياً إلى ضرورة «مواصلة العمل على سدّ الثغرات»، وإن أكّد أيضاً أن بلاده «ستتقدّم لاحقاً بمقترح جديد»، على أمل أن يحظى بـ»نتائج إيجابية». ولفت إردوغان الانتباه مجدّداً إلى أن روسيا «لا توافق على أن تذهب 44% من حبوب الاتفاق، إلى الدول الغربية»، مضيفاً أن العمل جارٍ «على أن ترسل روسيا مليون طن من الحبوب المدعومة من قِبَل قطر عبر تركيا إلى الدول الفقيرة». أمّا عن الدور التركي في الوساطة بين أوكرانيا وروسيا، فأشار الرئيس التركي إلى أن بلاده «عملت ما في وسعها لتحقيق السلام بين البلدَين، من خلال جمْع مسؤوليهما»، وأنها «لا تزال مستعدّة لبذل المزيد في هذا الإطار».

لاحظ المحلّلون الأتراك «تراجعاً» في الانسجام بين تركيا وروسيا في الآونة الأخيرة على مختلف الصعد

من جهته، قال بوتين إن روسيا «اضطرّت» للانسحاب من «اتفاق الحبوب»، لأن الدول الغربية «خدعتنا، ولم تفِ بوعودها لأنها لم تأخذ مطالبنا على محمل الجدّ، بل إن الطرف الآخر استخدم وسائل إرهابية وهاجم ممرّاتنا الإنسانية». وفي هذا الإطار، ذكر عبد القادر سيلفي، في صحيفة «حرييات»، أن موسكو تريد إعادة «بنك آغرو» الروسي إلى نظام «سويفت»، وأن تكون السفن الروسية التي تحمل الحبوب مشمولة بنظام التأمين، وأن يُسمح للسفن الروسية الحاملة للحبوب بالرسو في الموانئ الغربية، وأن يتمّ الإفراج عن أموال شركات الحبوب الروسية المجمّدة في البنوك الأوروبية.
وحول سوريا، اكتفى بوتين بالقول إنه تبادل مع إردوغان وجهات النظر، وإنه «من المهمّ إعادة تشييد البنى التحتية»؛ علماً أنه نُقل عن مصادر معنية قولها إن الجانب الأهمّ من زيارة وزير الخارجية التركي، فيدان، إلى طهران، ولقائه نظيره الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، تركّز على الوضع في سوريا، إضافة إلى الوضع في القوقاز، لتكون لدى إردوغان صورة أوضح عشية لقائه مع بوتين.

وفي ظلّ هذا التباين في المواقف، كان لافتاً إعلان الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن القسم الأول من الاجتماع كان «بنّاءً»، وأنه» لا يُتوقّع توقيع أيّ اتفاقات». ولكن بوتين وإردوغان حاولا تظهير صورة إيجابية عن العلاقات الثنائية، ولا سيما الاقتصادية. ووفق الرئيس التركي، فإن حجم التجارة الحالي يبلغ 62 مليار دولار، يؤمل أن يرتفع إلى 100 مليار دولار. وبيّن، في هذا الجانب، أن البلدَين في صدد تبادل الدفع بالعملة المحلّية، مشيداً بالسياح الروس الذين يتصدّرون أعداد السياح الأجانب في تركيا، بما يقارب الـ3.5 ملايين سائح. كذلك، أكّد إردوغان استمرار العمل في المفاعل النووي الذي بنته روسيا في «آق قويو»، كما في مفاعل «سينوب» قيد التحضير. ولفت بوتين، من جانبه، إلى أن 25 ألف مهندس كهربائي روسي وتركي يعملون في مفاعل «آق قويو» لإنتاج الطاقة النووية، مشيراً إلى أن روسيا تصدّر إلى تركيا 21.5 مليار متر مكعّب غاز طبيعي، وأن الأخيرة مستعدّة لأن تكون مركزاً لتوزيع الغاز الروسي إلى دول ثالثة.
مع ذلك، لاحظ المحلّلون الأتراك «تراجعاً» في الانسجام بين تركيا وروسيا في الآونة الأخيرة على مختلف الصعد، إذ لفت الكاتب المعروف، فهمي قورو، إلى أن الدعوة إلى اللقاء جاءت أصلاً من أنقرة، وليس من موسكو، وأن إردوغان هو الذي سعى إليها، مستدركاً بأنه «يمكن تجاوز البروتوكول، لأن المهمّ هو أن يتمّ التوصّل إلى اتفاق جديد لتصدير الحبوب». ولكنه رأى أن «المنظر العام لروسيا في الخارج، هو أنها تفقد من قوّتها، وأنها، إلى السلاح، تَستخدم ممرّ الحبوب وسيلةً في حربها مع الغرب. فالحظر الغربي يستهدف شريان الحياة الروسي، وبوتين يريد مقاومة ذلك. ولكنّ الغرب يَنظر بابتسامة ماكرة إلى روسيا، معتقداً أنها تخسر الحرب من دون أن تتّسخ يده فيها». واعتبر المحلّل أنه بعد ما سمّاه «تحطيم فاغنر»، سيكون صعباً على روسيا أن تحقّق نتائج في سوريا وليبيا. أمّا بالنسبة إلى العلاقة مع تركيا، فإن «بوتين يحاذر تخريبها في موضوعات مثل سوريا وليبيا، وروسيا بدأت تنظر إلى أنقرة بعين مختلفة. وهذا ما يفترض بإردوغان أن يكون لاحظه في لقائه مع بوتين. وعلى تركيا أن تتبع سياسة خارجية موائمة للوضع الجديد، وقد يشكّل ذلك فرصة لتوسيع هامش المناورة بالنسبة إليها».

من جهته، يقول محمد علي غولر، في صحيفة «جمهورييات»، إن إردوغان، ومنذ «قمّة فيلنيوس» الأطلسية، وزيارة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى تركيا، ظهر على أنه جزء واضح من المعسكر الغربي، فيما «لم تكن مصادفة أن يتصوّر السفير الأميركي في أنقرة، جيف فليك، مع رئيس شركة المُسيَّرات التركية، صهر إردوغان المهندس سلجوق بيرقدار، على متن إحدى سفن الأسطول الأميركي السادس الذي رسا في ميناء سراي بورنو، في الـ18 من آب الماضي، وأجرى مناورات مشتركة مع سفن تركية». وقد نشر فليك الصورة مع تعليق: «معاً نكون أقوى». ورداً على سؤال عمّا إذا كان سيدخل السياسة، قال بيرقدار: «سأفعل ما تتطلّبه المعركة». كذلك، قام فوج الطيران الأميركي 173 بمناورات جوية في قيصري في الـ22 من آب. ووفق غولر، فإن «سياسة إردوغان الآن، هي في وضع كسر التوازن بين روسيا وأميركا، لمصلحة الأخيرة»، وإن التطوّرات دفعت روسيا، أثناء اجتماع بوتين – إردوغان، إلى أن ترسل إلى تركيا رسالة مفادها أن لديها بدائل عنها. فأصل اللقاء بين الزعيمين، كما يورد الكاتب، «ليس اتفاق الحبوب، بل مستقبل العلاقات التركية – الروسية»، وتحت هذا العنوان الرئيس «تقع كل الموضوعات الأخرى، من اتفاق الحبوب إلى سوريا وليبيا وناغورنو قره باغ». وأضاف غولر أن تركيا يجب، إلى جانب رغبتها بأن تكون قاعدة للحبوب والغاز، أن توسّع «اتفاق أضنة»، وتطبّع العلاقات مع سوريا.