الرئيسية » إدارة وأبحاث ومبادرات » نحو تغيير الدور الاجتماعي للدولة في ضوء النظرية الوظيفية

نحو تغيير الدور الاجتماعي للدولة في ضوء النظرية الوظيفية

 

 

د. ذو الفقار عبود:

في مفهوم الوظيفية: تقوم النظرية الوظيفية على اعتبار أن الوظيفة هي الأداة المفهوماتية الرئيسية لدراسة الأنظمة الاجتماعية، وذلك انطلاقاً من الاعتماد على حقيقة أن كل نظام اجتماعي يتكون من عناصر مترابطة فيما بينها، وهذا الترابط يرجع إلى قيام كل عنصر بوظيفة، وقيام هذا العنصر بهذه الوظيفة مرتبط بقيام العناصر الأخرى بوظائفها، وهذا ما يؤدي إلى تحقيق التكيف والاندماج.

من هنا يتبين أن الوظيفة تُستعمل من منظور المماثلة العضوية: أي ارتباط الأجزاء الكلي، والمنظور الرياضي: أي تناسب القيام بالوظيفة مع حاجة الكل.

وتهدف الوظيفية إلى تجنب قضايا ومجالات النزاع، والتركيز بدلاً من ذلك على قضايا ومجالات التعاون، وتحاول خلق شبكة كثيفة من المصالح والاهتمامات المشتركة بين مكونات الدولة، وهو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى إقامة مجتمع مستقر وخالِ من الصراعات عبر التعاون في المجالات الاقتصادية والمنفعية.

كما تقوم الوظيفية على منهج معاكس للمنهج الدستوري، إذ أن منطق التكامل لا يجب أن يكون فوقياً (دستورياً)، بل يكون بالتركيز على التعامل مع الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في المقام الأول.

 

وتقوم الوظيفية على أن التعاون في مجالات السياسة الدنيا يتم من خلال إعطاء الخبراء والفنيين (التكنوقراط) سلطة كافية ومنحهم الصلاحيات المطلقة في إعداد وتنفيذ السياسات في المجالات الدنيا، وهذه السياسات لا بد أن يكون لها مردود منفعي على قطاعات واسعة في الدولة المعنية، كما أنها ستؤدي حتماً إلى خلق تعاون في مجالات أخرى وفق مبدأ التعميم أو الانتشار، وهكذا تصبح السلطة السياسية قائمة على شبكة من الأنساق المصلحية، وتصبح الدولة مندمجة في التفاعلات التي تتسع مع الوقت، بحيث يصبح ثمن تعطيل الأطر الوظيفية الجديدة من قبل السلطة السياسية أمراً مكلفاً جداً، وعليه فإن التركيز يتوجه إلى توفير الرفاه والرخاء الاقتصادي بدل الدخول في متاهات وصراعات السياسة العليا.

 

وحسب الاتجاه الوظيفي، فإنه ليس ضرورياً أن يحدث أي تغيير في البنية السياسية للدولة باتجاه انصهار سياسي، ولكن ما يحدث هو أن دور الدولة ومفهوم السيادة وقيمتها يتحولان إلى المنظمات الوظيفية المتخصصة في الدولة، أي أن مفهوم السيادة يتغير من كونه مبدأ سياسي إلى كونه ضرورة نفعية.

 

وعلى العكس من النظريات الدستورية التي تعتبر القرار السياسي هو المتغير المستقل في تحديد التكامل، تنظر المدرسة الوظيفية بعين الحذر إلى القرار السياسي والمسائل المتعلقة بالسيادة فتعتبرها من المسائل الحساسة التي ينبغي تفاديها على الأقل في المراحل الأولى من التكامل، حيث تحرص الدولة والسلطات القائمة فيها بشدة على عدم التفريط فيها وتدعو إلى التركيز على التكامل في الميادين الفنية والاقتصادية والثقافية التي لا تتمتع بهذه الدرجة من الحساسية.

ويرى الوظيفيون أن التكامل في مجالات السياسة الدنيا، والذي يجب أن يكون له مردود منفعي على الجماهير في الدولة المتكاملة، سيكفل أن ترتبط الفئات الاجتماعية في الدولة بشبكة من المصالح المتبادلة والأنساق المشتركة، ويفرض على القيادات السياسية في هذه الدولة انتهاج سياسات رشيدة ويدفعها إلى مزيد من التعاون بحيث يصبح تعطيل هذه المصالح بفعل أي توتر في العلاقات بين مكونات الدولة باهظاً، كما يكفل هذا النهج تعليم الجماهير التعامل مع المشاكل التي تواجهها بطرق تجريبية، ويصبح التركيز على توفير الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي بدلاً من الدخول في متاهات وصراعات السياسات العليا.

وتعطي المدرسة الوظيفية دوراً هاماً لجماعات المجتمع المدني والجماعات الوسيطة التي تعبر عن مصالح الجماهير (المنظمات والنقابات المهنية) في التكامل وتستطيع فرض هذه المصالح على قياداتها.

في مفهوم الدور الاجتماعي للدولة:

يقول الاقتصادي الأميركي من أصل صيني (ها جون تشانغ): إن حياة المشردين تقوم على الكسل والاتكال على خدمات الحكومة، وخدمات الحكومة تمولها الضرائب التي تجبى ممن يعملون، وهذا ما يمتص الحياة من شريان الاقتصاد.

المقولة السابقة مبنية على أساس أن اي خدمة اجتماعية ممولة تقدمها الدولة لمن لا يعمل، ستكون على حساب من يعمل، وفي هذا المبدأ ما فيه من الإشكاليات.

إن المفهوم الرعوي الاجتماعي للدولة عملياً مرتبط بمرحلة ما بعد الأزمات، حيث ظهر مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية (social welfare state) في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، كنتيجة لتردي الأوضاع الاجتماعية وانهيارِ القيم المعيارية التي ارتكز عليها الفكر الاقتصادي الليبرالي الكلاسيكي، وهذا ما دفع الدولةَ في أوروبا إلى التفكير بضرورة خلقِ توازنٍ بين متطلّبات التنمية وإعادة الإعمار من جهة، وبين متطلّبات الرعايةِ الاجتماعية من جهة ثانية، وذلك من خلال التوجُّه نحو التخطيطِ الاقتصادي المركزي.

 

وكنتيجةٍ لذلك ظهرت المدرسة الكينزية في الاقتصاد (نسبةً للمفكر الاقتصادي ووزير المالية البريطاني جون مَينارد كينز)، التي جادلت بأن الظواهر الاجتماعية هي محرك للعوامل الاقتصادية، وبدأ التفكيرُ في تمويل نفَقات الرعاية الاجتماعية من خلال إنشاء الضريبة على الدخل لتمويل نفقات هذه الرعاية، غير أن تضخُّم النفقات الاجتماعية أدى إلى تقلُّص الموارد بسبب التحولات الاجتماعية والديمغرافية والاقتصادية، وأدى تزايد حجم الاقتطاع الضريبي إلى بُروز القطاعات غير المهيكلة في الاقتصاد، وتراجع معدّلات النمو، وتدنّي الأجور، وانتشار البطالة ونِسب الفقر، وتحولت هذه الأوضاع إلى أزمة خانقة، ومن ثمَّ بدأ ظهور أزمة دولة الرعاية الاجتماعية.

 

ولقد أدى الحدُّ من الإنفاق إلى إعادة النظر في السياسات الاجتماعية، وظهور أفكار وأطروحاتٍ جديدة مع المفكر الأميركي ميلتون فرِدمان Milton Friedman، وبدأ تراجع المدرسة الليبرالية الكلاسيكية وبشكل خاص النظرية الكينزية، والدعوة إلى العودة إلى أفكار آدم سميث Adam Smith، وبالتالي إبعاد الدولة عن التدخل في الاقتصاد، في إطار عودة مفهوم الدولة الضابطة، من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد، وضبط المجالَيْن الاجتماعي والاقتصادي بواسطةِ خلق مسافةٍ بينهما وترك الحرية للمجال الاقتصادي كي يسترجع عافيته (يسميها سميث اليد الخفية)، وفي المقابل كبحُ جماح هيمنةِ المجال الاجتماعي على الاقتصاد وتأمين تحول الدولة واندماجها في نظام السوق، وتشجيع الخصخصة، والحد من هامش الحريات العامة، ومواجهة الاحتجاج باستعمال القوة العمومية، وفي المقابل تأمين هيمنة الرأسمال على صُنع السياسات العمومية وتدبيرها في إطار بُروز مفهوم الليبرالية الجديدة Neoliberalism، وهذا المعطى أدّى إلى تراجعِ دور القوى السياسية لصالح خَلق تحالفٍ بين التكنوقراط والرأسمال، وخضوع الدولة للمؤسسات المالية الدولية والشركات متعدِّدة الجنسيات، وبالتالي رفعُ الدولة يدَها عن الخدمات الاجتماعية كنتيجة لهذه الديناميات السوسيو-اقتصادية.

انطلاقاً مما سبق، تبرز ضرورة تطوير الدور الاجتماعي للدولة في سورية، من خلال تصويب وإصلاح منظومة الدعم الاجتماعي عبر إعادة هيكلتها، نظراً لمساوئها الكبيرة على مستوى الاقتصاد الكلي، فالصيغة التي كانت سائدة غير منطقية وتسببت في الكثير من المشكلات الاقتصادية ومن أهمها ضعف الأجور في القطاع العام وتصنيف المنظمات الدولية للشعب السوري تحت خط الفقر العالمي.

كما تبرز ضرورة تحديد هوية الاقتصاد السوري، وتصنيفه كاقتصاد اشتراكي أم رأسمالي أم نوع من أنواع اقتصاد السوق الاجتماعي، نظراً لوجود اتهامات بأن هناك إجراءات قد تقود الاقتصاد السوري نحو الانخراط في منظومات الليبرالية الجديدة ومؤسساتها وسياساتها الاجتماعية.

ما يعانيه الاقتصاد السوري ليس مجرد مشاكل بسيطة الحل، بل هي أزمة مزمنة تتمثل في تدني معدلات النمو وانحسار الاستثمار وتزايد البطالة، وهذا ما يعرضه في حال تطبيق المعايير الاجتماعية لمزيد من الاختلال على صعيد المنافسة، وبالتالي التهميش والإهمال، خاصة وأنه ينذرنا بآفاق سوداء في السنوات القليلة القادمة إذا لم نأخذ في الاعتبار الدعوة لتنشيط الاستثمار وتفعيل المنافسة لإنتاج وتصدير سلع ومنتجات غير نفطية.

فمن أين يحصل المجتمع السوري على الفائض الاقتصادي الذي يمكن اقتسامه بين الدورة الإنتاجية والتنمية الاجتماعية، خصوصا وأن الاقتصاد السوري بلا هوية بل تغلب عليه سمات الاقتصاد الرأسمالي وتسوده علاقات إنتاج يغلب عليها الطابع الطفيلي والريعي، ومعظم الخطوات التي رسمت سابقا باتجاه الإصلاح الاقتصادي لم تجدِ نفعاً ولم تحصد النتائج والثمار المرجوة.

إن اقتصاد السوق الحر رغم عيوبه الاجتماعية، قد أثبت قدرة أفضل على التطور واستخدام الموارد من الاقتصاد المخطط الذي يقوم على الأوامر الإدارية، ولعل ما يخفف مساوئ عشوائية اقتصاد السوق الحر ووحشيته أن يترافق هذا التحول بدور جديد للدولة ليس كمقرر في شؤون العملية الاقتصادية والإنتاجية بل كراع فقط للقضايا الاجتماعية وموجه لمسارات العملية الإنتاجية ومسائل التنمية البشرية والتكنولوجية، وأيضاً كأداة لمحاربة الفساد وإعادة تدريب قوى العمل وتأهيلها لمشاريع استثمارية جديدة، لا تسريحها تعسفيا بصفتها أحد أسباب الركود والخسارة كما يحصل في الدول الغربية.

لذلك لا بد من اتخاذ مجموعة من الخطوات الواضحة والحاسمة نحو إصلاح الاقتصاد السوري بدل تسميته بالاجتماعي، وإذا كان خيار اقتصاد السوق هو إقرار لواقع قائم واعتراف صريح بأن الشعارات الاشتراكية صارت من الماضي، فإن صفة الاجتماعي التي يتم إلصاقها بالاقتصاد السوري تبدو أشبه بتمويه لأشكال الضبط البيروقراطية للسوق، والتي لا يمكن الخلاص منها إلا بتحديد صريح لهوية الاقتصاد السوري.

 

ولاشك أن عدم الإقرار بذلك سوف يؤدي إلى رسم خطط للإصلاح غير دقيقة وغير واقعية، فنحن نسير من تراجع إلى تراجع ومرشحون أن نخرج من الزمن والحياة إذا لم نسارع لتحرير الاقتصاد من سيطرة المصالح السياسية ونحرره من القيود الاجتماعية وندمجه بحرية السوق والاستثمار وبالاقتصاد العالمي.

فالانخراط في النشاطات الاقتصادية العالمية هو قدر لا بد منه لأن العزلة سوف تؤدي إلى مزيد من التهميش دولياً وإلى المزيد من الفقر والتردي الاقتصادي وبالتالي إلى المزيد من انحسار الشروط التي تساعدنا على مقاومة مشاريع الهيمنة السياسية والاقتصادية على المنطقة.

إن حجز موقع في الاقتصاد الدولي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا اكتسب الاقتصاد السوري وجهاً تخصصياً وسعى للمنافسة في إنتاج سلع يستطيع أن ينافس فيها وأن يمتلك شروط النجاح في التنافس الدولي من حيث المواد الخام والخبرة البشرية، مثل الصناعات القطنية أو الصناعات الغذائية.

بالتأكيد هناك آثار سلبية اجتماعياً سوف تقود إليها سياسة الانتقال من الاقتصاد المركزي، والتحولات العالمية عرفت مثل هذه الآثار، لكن ما يجب أن نتطلع إليه هو الأنفع استراتيجياً لمستقبل المجتمع وأفاق تطوره، فالمستقبل ليس للاقتصادات المكبلة بالاعتبارات الاجتماعية، وعلينا أن ندخل إلى المستقبل من بابه العريض، دون تردد أو غموض، الأمر الذي يمكننا جميعا من وضع الخطط الكفيلة بقيادة عملية الانتقال بأقل الخسائر الاجتماعية، وإن الاستمرار بسياسة تغليب الجوانب الاجتماعية على الاقتصادية سوف تُخرجنا من التاريخ.

* أستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة تشرين.

 

 

 

 

 

 

سيرياهوم نيوز٣_الثورة

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حزب البعث والولادة الجديدة.. 

  عاصم احمد   نعم حان الوقت للرفاق أن يشمروا عن سواعدهم بعد استراحة المحارب الطويلة هذه والترهل الذي أصابهم ،   صحيح ان المال ...