| سعيد محمد
لندن | تدفّق حوالي اثني عشر ألفاً من اللاجئين القادمين عبر القوارب إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطاليّة، خلال أقل من أسبوع، ما أربك السلطات المحليّة، وأثار احتجاجات في أوساط السكان، وتسبّب باندلاع أعمال شغب في مراكز الإيواء. وعلى إثر ذلك، سارعت جيورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا، إلى زيارة الجزيرة برفقة رئيسة المفوضية الأوروبية، ودعت من هناك الشركاء الأوروبيين إلى العمل معاً لمواجهة من «يهدّدون مستقبلنا كأوروبيين». وبحسب مطلعين، فإن معظم هذه الدّفعة الجديدة من اللاجئين عبرت من ميناء صفاقس التونسي، ما يشير إلى نفاد صبر الحكومة التونسية من تلكّؤ الأوروبيين في دفع ما وعدوا به لتعزيز قدرتها على منع الهجرة
أصبح رصيف ميناء جزيرة لامبيدوزا، أقرب نقطة أوروبيّة إلى الموانئ التونسيّة، بمثابة المركز الرّمزيّ لاحتكاك متصاعد بين الشّمال الغنيّ والجنوب الفقير حول مسألة الهجرة غير الشرعيّة. ووصف ماتيو سالفيني، زعيم حزب «رابطة الشمال» اليميني المعادي للهجرة ونائب رئيسة الوزراء الإيطالية، تدفّق المهاجرين إلى بلاده بأنه «إعلان حرب» على إيطاليا، بعدما وصل إلى لامبيدوزا خلال أيّام قليلة، حوالى اثني عشر ألف مهاجر يُعتقد أنّهم استقلّوا قوارب من جوار ميناء صفاقس التونسي. وتقول السّلطات الإيطاليّة إن آلافاً آخرين ينتظرون القيام بالرّحلة القصيرة نسبياً من هناك، إلى الجزيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها من الإيطاليين ستة آلاف. ووجّهت رئيسة الوزراء الإيطالية، جيورجيا ميلوني، نداء لمساندة بلادها في مواجهة موجة متصاعدة من مهاجرين يائسين يحاولون العبور من شمالي أفريقيا نحو القارة الأوروبيّة، ودعت شركاءها في الاتحاد الأوروبيّ إلى العمل معاً «لوقف مغادرة اللاجئين (من أفريقيا)، وترحيل أولئك الذين رُفضت طلبات لجوئهم»، والذين قالت إنهم «يهددون مستقبلنا كأوروبيين».
لكن نداء الاستغاثة ذاك جاء في خضمّ توترات متزايدة بين روما وكل من برلين وباريس بشأن صيغ التعامل مع الهجرة. وتتهم الحكومتان الألمانية والفرنسيّة، نظيرتهما الإيطاليّة، بتعمّد عدم تسجيل الوافدين الجدد الذين يواصل أغلبيتهم رحلتهم لاحقاً نحو قلب القارة الأوروبيّة وبريطانيا حيث يتقدمون هناك بطلبات للجوء، الأمر الذي يتعارض مع قواعد الاتحاد الأوروبي بهذا الشأن. وبحسب التوافقات، فإن تسجيل اللاجئين يجب أن يتم في أول نقطة من أراضي الاتحاد يصلون إليها. وقد اتخذت السّلطات الفرنسيّة إجراءات عاجلة لتشديد مراقبة حدودها مع إيطاليا، بينما ذهبت برلين إلى حدّ تعليق قبولها الطوعي للمهاجرين من إيطاليا، قبل أن تتدخل بروكسل (حيث مقر المفوضيّة الأوروبيّة) للتوسط بين الحكومتين. وأجرى وزير الداخليّة الإيطالي مكالمة عبر الفيديو مع نظرائه من الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسهم وزراء فرنسا وألمانيا وإسبانيا، للتوصل إلى تحرّك أوروبيّ منسّق، فيما كافحت فرق إيطاليّة إضافيّة لنقل آلاف المهاجرين من لامبيدوزا إلى جزيرة صقليّة والبر الرئيسي، بعدما اندلعت أعمال شغب في معسكر استقبال اللاجئين الذي يتّسع بالكاد لأربعمائة شخص.
وتفقّدت أورسولا فون دن لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، ويلفا يوهانسون، مفوضة الهجرة في الاتحاد الأوروبيّ، الجزيرة برفقة ميلوني الأحد الماضي، واطلعت السيدات الثلاث في ميناء فافالورو على القوارب المتهالكة التي أقلّت بعض المهاجرين، لكن الأشخاص أنفسهم كانوا نقلوا قبلها بقليل إلى جزيرة صقلية. وقالت ميلوني للصحافيين على هامش الزيارة: «هذه هي حدود إيطاليا بالتأكيد، لكنها بنفس القدر حدود أوروبا». واعترض سكان الجزيرة الإيطاليون موكب الضيوف الرسميين لدى انتقاله من المطار إلى مركز استقبال المهاجرين في منطقة إمبرياكولا، قبل أن تتدخّل قوى الأمن لفتح الطريق. وتحدثت ميلوني إلى سكان الجزيرة الغاضبين قائلةً إن حكومتها تبذل «كل ما في وسعها للتعامل مع الأزمة»، وتعهدت لهم بتخصيص 50 مليون يورو (53.4 مليون دولار) لمساعدة السلطات المحليّة في الجزيرة على مواجهة الأعباء الإضافية. ولاحقاً، دعت ميلوني إلى فرض حصار بحري على شمال أفريقيا لمنع المهاجرين على متن قوارب المهربين من المغادرة، وهو أمر ليس من المرجح أن تتشجع برلين وباريس لفرضه في مدى منظور.
اللجوء منتج غربيّ بامتياز، ولن تفلح الحلول الجزئية للتعامل مع تمظهراته الموضوعيّة، سواء أمنياً أو من خلال الرشوة، في إنهائه
ووفق صحف روما، فقد عرضت فون دن لاين على الحكومة الإيطالية أن تمدّها بكوادر إضافية للمساعدة في تسجيل الوافدين الجدد وأخذ بصماتهم، ودعم لوجستيات نقلهم خارج الجزيرة ضمن خطّة للتدخل العاجل تضمنت 10 نقاط. كما وعدت فون دير لاين، من لامبيدوزا، بالترحيل السريع لأولئك الذين تُرفض طلبات لجوئهم، وبشن حملة على «الأعمال الوحشية» لمهربي البشر، وحثّت أعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين على استيعاب المزيد من المهاجرين الذين يتدفقون عبر إيطاليا، مؤكدة أنّ «الهجرة هي تحدٍّ لأوروبا يتطلّب بالضرورة استجابة أوروبيّة». وحاولت رئيسة المفوضيّة تصنّع السيطرة على الأمور، من خلال قولها «إننا – أي الأوروبيين – سنقرر من يمكن أن يأتي إلى الاتحاد الأوروبي وتحت أي ظروف، ولن نخضع لأجندات المهربين وتجار البشر»، لكن الأمور كما يقول الفرقاء الأوروبيّون لا تزال بعيدة عن السيطرة.
ويمثل سيل الهجرة المتصاعد عبر إيطاليا تحدياً سياسياً حقيقيّاً للتحالف الحاكم هناك – أقصى اليمين -، والذي قفز إلى السلطة في تشرين الأوّل الماضي بعد وعود عالية النبرة بوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى مقرّ ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبيّ، بينما يواجه هذا الأخير ضغوطاً شديدة منذ بعض الوقت. وعلى الرغم من التفاهمات التي بنتها روما مع المليشيات المتطرفة التي تحكم الفوضى الليبيّة لمنع انطلاق قوارب اللاجئين من هناك من خلال تبني إجراءات قاسية وانتهاكات لحقوق الإنسان، إلا أنّ عشرات الآلاف تحولوا بدلاً من ذلك إلى مسار الهجرة عبر تونس. وارتفع عدد الذين وصلوا بالفعل إلى الشواطئ الإيطالية العام الجاري إلى حوالي 129 ألف مهاجر، مقارنة ب66 ألفاً خلال الوقت نفسه من العام الماضي، بالاستفادة فيما يبدو من الطقس المعتدل في البحر المتوسط الصيف الحالي. وسجّلت وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي (فرونتكس) أعلى الأرقام على الطريق المذكور منذ عام 2016 – عندما فتحت أوروبا أبوابها لأكثر من مليون لاجئ سوريّ وفلسطيني ضمن سياسة استهداف النظام السوريّ -. وتقول «فرونتكس» إن العصابات التي هرّبت اللاجئين من شرق المتوسط أصبحت بشكل متزايد أكثر تطوراً وتعقيداً وتنافسية.
وتخطّط روما الآن لإنشاء مراكز إضافية في مواقع نائية لاحتجاز المهاجرين الذين رفضت طلباتهم لجوئهم بغرض إعادتهم إلى أوطانهم. وأعادت إيطاليا ما يزيد قليلاً عن ثلاثة آلاف مهاجر هذا العام، مقارنة بـ2.700 خلال الفترة نفسها من العام الماضي. وحذرت ميلوني – في رسالة مصورة أذيعت يوم الجمعة الماضي – الأفارقة العازمين على ركوب البحر نحو بلادها بسبب الأخطار، وقالت إن أولئك الذين يتبين أنهم لاجئون غير قانونيين سيتمّ «احتجازهم وإعادتهم إلى أوطانهم». ويقول مطّلعون على ملف الهجرة نحو أوروبا إن السلطات التونسيّة قد تكون غضت الطرف عن تحركات قوارب اللاجئين، كوسيلة للضغط على الجانب الإيطالي الذي تلكّأ في تحويل مساعدات ماليّة بقيمة 700 مليون يورو كانت ميلوني قد وعدت بها التونسيين إبان زيارتها إلى هناك في وقت سابق من العام الجاري، بالإضافة إلى تلميحات بتسهيل حصول الحكومة التونسيّة على قرض من صندوق النقد الدّولي ب1.6 مليار دولار. كما وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقاً مثيراً للجدل مع تونس الصيف الحالي، لمدّها بـ 100 مليون يورو تخصَّص لشراء معدات لتعزيز أمن الحدود، ومنع رحلات الهجرة غير الشرعيّة عن طريق البحر، وهذه الأموال بدورها لم يتمّ دفعها بعد. وأصبحت تونس بشكل متزايد البوابة المفضلة لعبور المهاجرين من شمال أفريقيا، بعد تشديد الإجراءات في مصر وليبيا والمغرب ضمن ترتيبات خاصة بين الأنظمة الحاكمة والأوروبيين. ويدفع المهاجر للمهربين ما يُراوح بين 1500 – 2500 يورو مقابل نقله إلى أوروبا، ويغامر أغلبهم مرّات عدة قبل نجاحهم في الوصول إلى البر على الجهة الأخرى.
وفي السنوات القليلة الماضية، أصبحت سياسة الهجرة على رأس جدول أعمال وزراء داخلية دول الاتحاد الأوروبي، وفي قلب الجدل المحليّ في معظم أجزاء القارة، ومصدراً للاستقطاب السياسي والثقافيّ فيها. وتعمل الأنظمة الأوروبيّة على بناء تفاهمات لتعزيز الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي وضمان اختيار «نوعية» المهاجرين، بالنظر إلى أن أكثر من نصف الذين يصلون بالفعل إلى البر الأوروبيّ ليست لديهم أسباب وجيهة للجوء وفق وجهة نظر بروكسل، وبالتالي لا ينبغي منحهم حق الإقامة في دول الاتحاد. ويغفل الأوروبيّون، بذلك، متعمّدين، النظر في الأسباب الجذرية لمسألة الهجرة، والتي تتلخّص في التباين بين الشمال والجنوب بسبب الحروب التي يشنّها أو يرعاها الغرب، كما سياسات النهب المنظّم لموارد الشعوب، ودعم البرجوازيات الحاكمة. ولذلك، فاللجوء منتج غربيّ بامتياز، ولن تفلح الحلول الجزئية للتعامل مع تمظهراته الموضوعيّة، سواء أمنياً أو من خلال الرشوة، في إنهائه.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار