الرئيسية » كتاب وآراء » العنف المؤسّسي والمساواة الواهية في فرنسا العلمانيّة

العنف المؤسّسي والمساواة الواهية في فرنسا العلمانيّة

| خريستو المرّ

احتلّت فرنسا الجزائر وضمّتها إليها واعتبرتها أرضاً فرنسيّة وقمعت لغة السكّان الأصليّين، وكعادة الدول الاستعماريّة صوّرت احتلالها محاولة «تحضير» للسكّان بينما كان الهدف متابعة استغلال ثروات البلاد. عند نشوب الحرب العالميّة الأولى عام 1914 كانت الخدمة العسكريّة الإجباريّة للجزائريّين أطول بمرّتين من خدمة الفرنسيّين، واحتاجت فرنسا في تلك الفترة إلى مزيد من الجنود في الحرب وإلى رجال عمّال في المصانع التي خسرت عمّالها لصالح الحرب، فاستجلبت فرنسا 120 ألف عامل و175 ألف جنديّ جزائريّ أقاموا في فرنسا بين عامي 1914 و1918، دفع خلالها الجزائريّون ٢٥ ألف قتيل دفاعاً عن فرنسا. عاد الجزائريّون عمّالاً وجنوداً إلى بلادهم مع انتهاء الحرب، ولكن بعد النقص الفادح في عدد الرجال بعد الحرب وتحت ضغط حاجة الصناعيّين إلى يد عاملة رخيصة فتحت فرنسا الباب أمام اليد العاملة الجزائريّة للعودة لأنّ اليد العاملة الإيطاليّة والبرتغاليّة والإسبانيّة لم تكن تكفي، وكذلك لأنّ تلك الجزائريّة كانت تُعتَبَر أنّها مطيعة وطالما استخدمها أرباب العمل لكسر إضراب العمّال الفرنسيّين. الحاجة إلى العمّال الجزائريّين زادت أيضاً بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية وخاصّة مع تصاعد عمليّات التصنيع حتّى بداية السبعينيات. وتنبغي الإشارة إلى أنّ هؤلاء العمّال وُضِعوا في مبانٍ خاصّة بهم عادة ما تكون في منطقة نائيّة على أطراف المدن.

بالنسبة إلى الجزائريّين، كان العمل في فرنسا مجالاً لتحسين أوضاعهم الماليّة في الوطن وشراء أراض بعد أن كانت قد نهبتها فرنسا منهم بحجزها إلى مشروعها الاستيطانيّ (بييريت وجيلبير مونييه يشيران إلى حجز فرنسا 350 ألف هكتار من أراضي السكّان بعد انتفاضة 1871). في منتصف السبعينيات، ومع تصاعد البطالة، وضعت حكومة جيسكار ديستان حداً لهجرة الجزائريّين، بل حتّى لجمع الشمل بين الجزائريّين المقيمين في فرنسا وعائلاتهم المقيمة في الجزائر، بل إنّ ديستان كان يفكّر في ترحيل الجزائريّين جميعاً من فرنسا، ولكن لم يتسنَّ له تطبيق تلك الفكرة (ويتكلّم البعض عن مشكلة في «اندماج» الجزائريّين في المجتمع!).

هذا التذكير التاريخيّ ضروريّ لكي نفهم جانباً مهمّاً من وضع الجزائريّين في فرنسا، فإدانات عنف المتظاهرين من قبل السلطة الفرنسيّة أو العرب تأتي في سياق فوقيّ منفصل عن الواقع ومتناقضٍ في آن: إن لم تعجبهم هذه البلاد (أو بلادنا) فليعودوا من حيث أتوا، عليهم أن يشكروا الله على وجودهم في فرنسا عوض تخريبها فهي تؤمّن لهم ما لا تؤمّنه لهم بلادهم الأصليّة. بالطبع، تفضح هكذا تعليقات أمراً أساسياً: أنّها تعتبر هؤلاء الفرنسيّين غير فرنسيّين وإنّما تعتبرهم أناساً من مكان آخر، وهنا بيت القصيد. المواقف هذه هي مواقف عنصريّة تختصر أناساً بأصولهم الثقافيّة وتراهم «خارجيّين» و«تحت» بسبب تصرّفاتهم العنفيّة، بينما لا تأتي ردّات فعل المنتقدين نفسها لو أنّ «بيير» أو «بياتريس» هُما مَن قاما بأعمال عنفيّة أثناء أيّ تظاهرة، إذ عندها لا بدّ أن تكون المواقف منهما أقلّ حدة وأكثر تفهّماً، فقد يكون بيير مشاغباً مهمَّشاً، وبياتريس غاضبة انجرّت إلى هكذا أعمال، وحتّى يمكن أن يكونا كلاهما فوضويَّيْن، بل ومشاغبَين يستحقّان العقاب، ولكن لا تُطرح أبداً بالنسبة إليهما فكرة أنّهما يجب أن يكونا شَكورَين لله كونهما فرنسيَّين. عدا العنصريّة، لا يسع المرء في بلادنا إلّا أن يتساءل إن لم تكن إدانة العنف في تظاهرات فرنسا لدى المسيحيّين تخفي موقفاً سلبيّاً من الإسلام، برأيي أنها كذلك وأنّ تلك التعليقات تأتي من خلفيّة طائفيّة محضٍ لدى العديدين.
إن عدنا إلى واقع الفرنسيّين من أصول جزائريّة وأفريقيّة اليوم، تقول الأرقام إنّ نسبة البطالة في فرنسا في سنة 2022 للفرنسيّين من أصول أفريقيّة كانت 13.7%؛ وهذه النسبة هي 15.4% بالنسبة إلى الفرنسيّين من أصول جزائريّة و14.5% للمهاجرين من أصول تركيّة أو من الشرق الأوسط. هذا في الوقت الذي بلغت فيه نسبة بطالة الفرنسيّين من أصول غير مهاجِرة 6.3%، بحسب المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا. أي أنّ نسبة البطالة لدى الفرنسيّين من أصول أفريقيّة هي أكثر من ضعف نظيرتها بين غير المهاجرين. إحصائيّة مثل هذه تكفي ليفهم المرء ليس نسبة البطالة وإنّما مدى التهميش الذي يعيشه الفرنسيّون من أصول مُهاجِرة، وهذا التهميش ليس صدفة وإنّما ينبع من العنصريّة في فرنسا. بالطبع هناك عنصريّة اجتماعيّة بحيث نجد فرنسيّين عنصريّين ينظرون باستعلاء إلى العرب و/أو المسلمين ويحطّون من قدرهم، ولكن ما يكاد يغيب عن النقاش في فرنسا هو أنّ العنصريّة تقبع في عمل المؤسّسات. تلك العنصريّة المؤسّسية هي التي لا تسمح للفرنسيّين من أصول غير مهاجرة بفرص متساوية مع غيرهم. يمكن ملاحظة ذلك في جسم الشرطة الذي يكاد يخلو من الفرنسيّين من أصول مُهاجِرَة، ما يجعل الشرطة أكثر عرضة لتبنّي نزعة تمييزيّة ضدّهم. هذا التهميش المؤسّسي هو عنف مؤسّسي.

يُضاف إلى هذا العنف المؤسَّسي مقاربة الدولة الفرنسيّة، تلك المقاربة السطحيّة والعسكريتاريّة لظاهرة عنف الشارع. ففي حالات السلم الأهليّ تأتي مُقاربة الدولة الفرنسيّة لفظيّة، إذ تعلن الدولة بشكل دائم علمانيّتها وجمهوريّتها وأنّها بالتالي لا تميّز بحسب الدين واللون وغير ذلك. ولكن يبقى ذلك الإعلان مجرّد إعلان نظري، فالدولة تعلن «المساواة» لفظيّاً بينما تُبقي مؤسّساتها كما هي دون وضع وتطبيق سياسة تغيّر في سياسة مؤسّسات الدولة. الدولة مثلاً لا تجمع معلومات عن الخلفيّات الثقافيّة و«الأعراق» في ملفّاتها (ملفّات المدارس مثلًا) فتُبقي الأوضاعَ الحقيقيّة في العتمة ولا يتمكّن الباحثون من معرفة ومتابعة الواقع الحقيقيّ للفرنسيّين من أصول مهاجرة.
عنف المتظاهرين هذا العام لم يكن الأوّل، فقد وقعت أحداث مشابهة في الضواحي الفرنسيّة -وإن على مستوى أوسع انتشاراً وضرراً- في خريف 2005. لكنّ الدولة والإعلام الفرنسيَّين لا يطرحان في كواليسهما السؤال التالي: لماذا حدث العنف هذا العام في فرنسا ولم يحدث في بريطانيا، أو ألمانيا، أو في بلجيكا التي شهدت أحداثاً مثيلة في التسعينيات ثمّ انتهجت سياسات مختلفة تجاه الأحياء المُهَمّشة؟
القضيّة لا تكمن في توتّر بين الفرنسيّين من أصول مهاجرة والشرطة، أو شعور غضب لدى المهاجرين، بقدر ما تكمن في العنف المؤسّسي، العنصري الهويّة، للدولة وأدواتها، ذاك العنف الذي يُفرز هذا الغضب بسماحه بتفشّي التمييز العنصري في جسم الشرطة وغيرها من مؤسّسات الدولة.

 

سيرياهوم نيوز3 – الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

يا طلاب العالم اتحدوا..انها الثورة الاجتماعية العالمية

  جورج حدادين   الطلاب، العمال والفلاحين، الحامل الاجتماعي للثورة الاجتماعية العالمية حراك الطلاب في سيرورة التوحد على مشروع تحرر اجتماعي حراك النقابات العمالية، دمجت ...