آخر الأخبار
الرئيسية » مجتمع » «بالطو»: كوميديا مصريّة تضع الخُرافة في مواجهة العلم

«بالطو»: كوميديا مصريّة تضع الخُرافة في مواجهة العلم

أحمد الخطيب

 

تواجه الدراما المصريّة أزمة مُتعدّدة الطبقات، ذات انعكاسات عدّة على وضع السوق وكيفيّة تصدير المُنتج إلى الجماهير، ولا يتعلّق الأمر بشكل السوق بقدر ما يبتغيه بعضهم أن يكون، فالمساحة المُتاحة للإبداع تُصبح أقل وأشد ضيقاً من ذي قبل، وفقاً للمنهجيّة المفروضة على الشكل العام للإنتاج، أو تعلّق المُنتجين بالأسماء الكبيرة والنجوم كملاذ آمن للخروج بأكبر مكسب مُمكن. مساحة آمنة من اللّعب، والحقيقة أن لا نوع من اللّعب أو المُغامرة الإنتاجية، حتى ما يُسميه بعضهم مُغامرة يكون بمثابة دراما مُبتذلة قليلة القيمة والإنتاج. بيد أن ظهور المنصّات أتاح مساحةً للمُغامرة بشكل أكثر جديّة، تنفيسة درامية وإبداعيّة، وخصوصاً مع دخول منصات مثل «شاهد» و«واتش إت»، بالإضافة إلى نتفليكس السوق العربي بمُنتجات أكثر تحرراً من الرقابة الإبداعيّة والاجتماعية. فالجمهور المُستهدف من المنصات يختلف قليلاً عن جمهور التلفزيون العام، ما يخلق حيّزاً من البراح الإبداعي، فالرقابة تتراجع خطوتين إلى الخلف حين يكون الأمر متعلّقاً بالوسط الإلكتروني. ولولا ذلك الوضع التي أنتجته ظروف متعددة تراكمت وخلقت وسيطاً جديداً، لم تكن مُسلسلات مثل «بالطو» لتخرج إلى الشارع المصري، ولا سيّما أنها مثل بعض التجارب السابقة، هادمة لكُل الكليشيهات المصريّة من حيث الشكل. فالمسلسل الذي يُعرض على منصة Watch It، يكثّف حلقاته في عشر، ويبتعد عن نمط الثلاثين حلقة المُعتاد. إلى جانب ذلك، فأبطالهُ وجوه دراميّة شابة وجديدة، وإنتاجه لا يرقى إلى التنافس مع ضخامة المُسلسلات الرمضانيّة التي تصرف الملايين للمُنافسة في الموسم السنوي للدراما المصريّة والعربية.

 

 

 

 

 

يقع مُسلسل «بالطو» بين الإسكتش والكوميكس، وما هو قصصي مُتدفّق. يربُط بسلاسة بين ثيمات كوميديا الموقف التي تتحرّك من سُخريّة وهزليّة الموقف وتنتهي عنده أيضاً. يجمع تلك المواقف ويموضعها في إطار سردي عام، يطرح خلاله إشكاليات اجتماعيّة مُهمّة بالنسبة إلى البيئة والواقع الاجتماعي الذي يشتبك معه، فيخلق صراعاً مكوّناً من طبقات عدة لا تحمل الكثير من العُمق بقدر ما تؤطّر رسالة الحكاية في أشكال سهلة الهضم بصرياً وقصصياً، وتمنح المُشاهد الفُرصة لأخذ جرعة غير مُبتذلة من الكوميديا والطرافة. على هذا المنوال، يؤسس المُخرِج عُمر المُهندس وكاتب السيناريو أحمد عاطف فيّاض (السيناريو مقتبس عن روايته «بالطو وفانلة وتاب») متواليتهما الدرامية من حيث الإيقاع والحبكة، قصّة تنطلق من الداخلي ثُم تمتد إلى ما هو خارجي وعمومي. الأمر أشبه بالنوعيّة السينمائية Coming Of Age التي تتسم بنمط مُعيّن من الأبطال، وتعرض لأشكال من المُعضلات التي تواجه الشخصيّة للانتقال من مرحلة الطفولة والمُراهقة الفكرية إلى مرحلة النضوج وتحمّل المسؤولية. يتماسّ التصنيف النوعي مع شكل الشخصيّة الرئيسية، اللابطل، دكتور عاطف (عصام عُمر) طبيب حديث التخرّج، مهزوم داخلياً وخارجياً، مصيرهُ مُحدد مُسبقاً من قِبل والده. في حياته لم يكُن مخيّراً، إذ ألزمه والده بالطب. وعندما تخرّج ألقت به المقادير في وحدة صحيّة داخل قريّة مُهمّشة ومتخيّلة اسمها «طرشوخ الليف» في كفر الشيخ.

ad

 

 

 

 

 

 

 

تتجلى طبقة الصراع الدرامي الأولى، بين عاطف ووالده، في المنطقة الآمنة، حيث يقبع طوال حياته سجيناً لمُخيّلة والده، لكنه فجأة يشعُر بالتحرر من وطأة التكهنات والخطط المُسبقة. شيء لم يتعرّض له من قبل، موازٍ لمُغامرة يجب عليه خوضها حتى النهاية. ومن تلك النُّقطة تبدأ لحظات النور ومُكاشفة الذات بالانبلاج، ويرتفع النسق من خلال متوالية من الوقائع والمواقف الكوميدية، التي ترصُد هشاشة الطبيب الجديد في مجتمع يقوم على الخُرافة والعشوائيّة المُطلقة، غير محكوم إلا بسياق بيروقراطي حكومي لا يعمل إلا بالمُحاباة والورق والأختام. يرى عاطف نفسه داخل أعين مُمرضات وأطباء وممرضي الوحدة؛ فتى صغيراً أو «عيّل» كما يلقّبه بعضهم، وخصوصاً بعدما تورّط في وظيفة مدير الوحدة. خلقت تلك المُسمّيات حاجزاً داخل عاطف. شيء يحاول إثباته ولكنه لا يقدر، فيُلاقي نفسه في صراع مع ذاته، ضد صورته الاجتماعيّة التي تنمو بشكل مُستقل بدافع السنوات المُتراكمة وراءه وشكّلت شخصيته، ليرتقي إلى الطبقة الثالثة من الصراع، توحش البيروقراطية الحكومية. فالجميع هُنا يدور بالورق، ورقة فوق حفنة من الأوراق فوق كومة من الملفات. نظام مُصاب بالشلل كأنه لا يراه، يتحرّك ببطء، آفته الأختام والموظفون فوق المكاتب. يتضح ذلك في أكثر من مُشكلة تعرّض لها الطبيب، أحد امتداداتها طبيب الأسنان سمير (محمود حافظ) الذي يعمل بشكل مُخالف للبروتوكول الطبي والأخلاقي، يتعرّض له عاطف كغريم كلاسيكي مُناقض له في كُل شيء، الشكل والصوت ونمط المُعاملة وكيفية إدارته لوحدة الأسنان واستغلاله لتلك البيروقراطيّة الحاكمة في خلق مُشكلات كبيرة تتعلّق بالورق والأختام كانت كفيلة بإنهاء مستقبل عاطف… حتى نصل إلى الطبقة الأعمق، نواة الصراع الدرامي، الخُرافة ضد العلم، الشيخ مرزوق (محمود البزاوي) ضد طبيب حديث التخرج. والحقيقة أن ذلك النوع من الصراعات يتعاطى مع الوحدة الصحيّة كرمز، فيما يرتبط بإشكاليات أكثر عموميّة داخل النظام الاجتماعي، فالشيخ مرزوق هو المُضاد الكُلي للعلم والمنطق، دجّال، يُتقن الحيل ويُنفّذ مخططات ساذجة وهشّة، لكنها تنفذ إلى عقول أهل القريّة بسهولة، لأنهم أشد سذاجة وجهلاً من كشف الحيل الرخيصة، يرون الأشياء وفقاً للموروث الشعبي، فالأمر يأخذ منحى أكبر من كونه صراعاً بين رجُلين على الهيمنة، وخصوصاً مع غياب أي نوع من الرقابة الداخلية على الوحدة الصحيّة.

ad

يكثّف حلقاته في عشر، وأبطالهُ وجوه دراميّة شابة وجديدة

 

نجح المُسلسل في خلق مزاجه الخاص، كوميديا أقرب إلى الإسكتشات الهزليّة. والحقيقة أنّ للممثل عصام عمر دوراً كبيراً جداً في نقل تلك النصوص الإسكتشيّة إلى حيّز التفاعل البصري، لأنه لا يبتذل الضحك، ولا يمنح المُشاهد انفعالات زائدة أو ضحكات في غير محلها. وجهُه هادئ دائماً، وطرافته تتمثل في الانفعال المُحكم؛ ما جعل النص يأخذ شكلاً أكثر تدفقاً، فهو لا يقف عند موقف هزلي مُعين، ولو كان هذا الموقف مقتطعاً من السياق، أو يتعاطى مع المُشاهد في منطقة كاريكاتورية تماماً، مثل موقف اللّص الذي أخذ من عاطف والدكتورة هاجر (مريم الجندي) حاجاتهما ثم تركها لهما وذهب. هذا موقف غريب، لا يخضع للمنطق، ويُضعف السيناريو بشكل كبير، بيد أن المزاج العام يغفر تلك المواقف، ويطوعها داخل سياق حكي أقرب إلى الإسكتشات الضاحكة. والجدير بالذكر أن المُسلسل لم يسلُك الطريق السهل في وضع النهاية، لم يُداعب المُشاهد أو يخلق الخاتمة السعيدة، بل اختار النهاية الأقرب منطقيةً في البيئة المحليّة الريفية، أي انتصار الخُرافة على العقل، غير أنه نجح في تطوير الشخصيّة بشكلٍ جيد إلى حدٍّ ما.

ad

 

مُسلسل «بالطو» يجد لنفسه مكاناً جيداً بين كوميديا الإسكتش الطازجة والدراما الاجتماعيّة المُهمة، رُبما وقع في أكثر من كليشيه داخل النص الدرامي، ولكنه على أي حال قدم مُنتجاً إبداعياً أكثر خفّة وانفتاحاً من أغلب مسلسلات الثلاثين حلقة الممطوطة، فهو مكثّف ومختلف وشجاع، وفي ظل طرافته يُمكننا تأطير وكشف الكثير من المشاكل الحقيقية.

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

متقاعدون يعودون إلى ميدان العمل من بوابة الحاجة..

يضطرّ العديد من العمال المتقاعدين إلى الالتحاق بعمل مجدداً بدلاً من الراحة، بعد أن قضى معظمهم سنوات طويلة تزيد على ٣٠ عاماً وهم يخدمون في ...