آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » عشق الحرية والجمال في “مغامرات جوليو”

عشق الحرية والجمال في “مغامرات جوليو”

شاهر أحمد نصر

“مغامرات جوليو” قصة طفل تأبى معصماه القيود،ويمتلك طاقات فذة، وإرادة أبية، ورغبة جامحة في أن يُثبت ذاته؛ إنّه “عصام نداف” مواليد “الخريبات” في ريف طرطوس، عام 1947، وقد ترعرع في أسرة ريفية متسامحة غمرت كيانه، وروحه بالحبّ… ورضع مع حليب أمه، وعطف أبيه قيم الكرامة، وعشق الحرية، والهيام بجمال الطبيعة والريف ذي الفضاء الرحب الواسع وسع أحلامه… بل هي قصة أسرة فلاحية مكافحة من أسر ريفنا المعطاء ترعاها أم ٌحنون، وعمادها أبٌ نشيطٌ يعيل أسرته من عرق جبينه، ومن فلاحة الأرض بوساطة ثورين، وبغل، ذوي مكانة مميزة ومعتبرة في حياة الأسر الريفية… فضاء الرواية التاريخي هو فضاء العهد الوطني، في خمسينيات القرن الماضي،حينما لخّص الأب غاية وجوده وبذل كلّ طاقته وما يمتلك – كأغلب أهلنا في الريف – كي يتعلم ابنه، ويحقق ما يحلم به من مكانة لائقة، وحياة رغيدة هانئة… ويبقى الأب يعطف على ابنه الوحيد، ويحاول توجيهه نحو السبيل السليم لبلوغ المجد، على الرغم من شقاوة الابن، وتخييبه أمله باستمرار، وهنا نلمس جانباً إنسانياً مرهفاً وسامياً في علاقة الأب بابنه بعيداً عمّا يُعرف بصراع الأجيال، وعن عقدة أوديب، التي تلاحق ظلالها كثيراً من الروائيين؛ كأنّ “جوليو” وأباه يقولان لنا: في الحياة علاقات أخرى أوسع من تلك التي تتم قولبتها وحصرها في نظريات عدد من علماء النفس… ويستمتع قارئ هذه الرواية بلمسات السرد الفني المميزة للأديبة الروائية “نهاد أحمد”، أستاذة الأدب الإنكليزي، والشغوفة بالمكتبات، ومبدعة روايات “ديلارا”، و”ليلك يستحق الانتظار”، و”الراغبون” والمتميزة بأسلوبها الفني الرفيع في السرد الروائي… فتنقلنا مع الأستاذ “عصام نداف” إلى عالم واقعي حيّ تخال من وصفه البديع أنّك تعيش في عالم الخيال… إنّ موضوع هذه الرواية الذي يعالج مغامرات طفل في السادسة من عمره صقلته حياته المتناغمة مع نبض الطبيعة لتصبح كحياة الرجال الناضجين – مع استمتاعه بطفولته –تلك الحياة المترافقة مع الهم الإنساني الرفيع لدى أسرة ريفية تسعى لتنشئة ابنها أفضل تنشئة، وإن استدعى ذلك فصله وهو طفل عنها، وعن رفاقه وعالمه المحبب، وعن الطبيعة – جسده وروحه الثاني – وإرساله إلى المدينة، وما ينجم عن ذلك من تناقضات تعتمل في كيانه ونفسه الغضة الأبية العاشقة للجمال والحرية؛ موضوع ممتع ومفيد للقارئ مهما كان سنّه؛ فالبالغون، كما الأطفال واليافعين، في كل زمان ومكان، يستمتعون، ويستفيدون جداً من قراءة هذه المغامرات، كما أنّ تضافر وتناغم موضوع الرواية مع أسلوب سردها الرفيع في وصف الإنسان (الطفل)، ومغامراته، وتوقه للحرية، وهو يتفاعل مع جمال الطبيعة من ريف، وأشجار، وطرق ترابية صخرية، ونهر يغوص في أعماقه ويستل الحصى من قاعه، وبحر تسكنه السفن وترعاه النوارس،وفضاء بديع يعج بالعصافير، ويزينه ضياء القمر، وبريق الشمس ومتعة دفئها، وتفاعل أهل هذا الريف والطفل فيما بينهم، ومع المدينة يجعل من هذه اللوحات الفنية ترتقي بالرواية من المحلية إلى العالمية… وتحمل هذه الرواية، التي تتميز بالصدق، قيماً جمالية تربوية، تصلح لأن تُدرّس في معاهد إعداد المدرسين، ولا سيما الموجهين التربويين، لمعرفة أساليب حسن التعامل مع الأطفال والتلاميذ، وليعلم الجميع أنّ كرامة الإنسان وحريته أهم ركن من أركان حياته، وهذا الأمر ليس حكراً على البالغين وكبار السن، بل من أهم متطلبات الإنسان منذ نعومة أظفاره… “… توقف عن دفع زميلك توقف حالاً! الراهبة تنبّهه وهو يدفع زميله في المقعد. استغربت الراهبة سلوكه من دون أن تجد حلاً ناجحاً لإنهاء المشكلة التي عكرت جو الصف وأربكتها كمعلمة، إذ كانت تعتقد أن أوامرها ستلقى طاعة مباشرة من التلاميذ الصغار… اركع هنا على ركبتيك! – لن أركع!… قال لي والدي نحن نركع فقط عندما نصلي ونتحدث إلى الله… في اليوم التالي دخل جوليو الصف، فرأى فتاة صغيرة شعرها حريري منساب كالشلال ومتموّج في أطرافه، وعيناها عسليتان، لوزيتان واسعتان ساحرتان. كانت تبتسم بهدوء فتبدو كأميرة قادمة من حكايات خيالية، فشعر بارتياح عميق،وجلس إلى جوارها بتهذيب واحترام… لقد غيرت الفتاة سلوكه ومشاعره وأخذ يسير إلى جوارها بفرح كبير.” ما أروع هذا الدرس، الذي يصلح لتربية بني البشر على حبّ الرقة والجمال، لتحويل همجيتهم، ونزعاتهم العدوانية وميلهم إلى العنف، والحرب إلى نزعات للسلام والمحبّة… أجل،هذا مثال تربوي، ذو أبعاد عميقة للدلالة على دور الثقافة والأدب في مواجهة نزعات العنف والحرب بنشر معاني وقيم الجمال والحبّ… وفي كل مغامرة من “مغامرات جوليو” تقابلنا لوحات فنية، ودروسٌ وعِبَر، تستحق الدراسة والاستفادة من مغزاها… “انتهز “جوليو” فرصة وجود الراهبات في صلاة المساء. دخل تحت أقرب سريرٍ من مدخل المهجع، ومكث هناك مستلقياً على ظهره منتظراً دخول الراهبات إلى النوم… ساد الصمت. بعد قليل شعر “جوليو” بحركة خفيفة فوق السرير،ثم سمع همساً… قالت إحداهما للأخرى: – آه، كم أتمنى أن أهرب إلى مكان لا يعرفني فيه أحد! – أخبريني، ماذا حدث بينكما؟ كيف سمحت له أن يرى جسدك؟ هل استمتعت كثيراً؟ تنهدت الراهبة وقالت: – كنت أحبه. كنا وحيدين… قبّلني كانت شفتاه حارّتين جداً. تنهدت الراهبة الأخرى وهمست: – هنيئاً لك… لقد عرفتِ الحبّ، يا “روزي”. ليتني فعلت ذلك قبل أن يسافر حبيبي! كم أشتهي أن أكون بقرب رجل يحضنني بقوة وأنام إلى جواره!” والرواية موفقة في طريقة عرضها الفنية لهذه المسألة الإنسانية العامة، التي لا تقتصر على الفتيات الراهبات في الأديرة، بل تشمل المدارس الداخلية، وكثيراً من أماكن العمل وغيرها،التي تتطلب معالجة اجتماعية وقانونية، مثلها مثل كثير من المسائل التي تلامس هموم الإنسان وحاجاته النفسية والبدنية… “مغامرات جوليو” تشدّ القارئ إلى موضوعاتها في كل سطر من أسطرها، وتدفعه إلى التفاعل معها كأنّه يعيش الأحداث بنفسه، وتشدّه لوحاتها الفنية التي رسمتها أحاسيس إنسان مرهف، ولونتها ريشة أديبة أصيلة ومتمكنة… تصلح لأن تمثل في فيلم سينمائي، ترعاه وزارتا الثقافة، والسياحة، ويفيد الرسامين في إبداعهم لصور ولوحات فنية تعرّف بمعالم “الخريبات”، ونهر “الغمقة”، و”طرطوس”، وأديرتها، ومعالمها التاريخية، وبحرها، و”أرواد”،والريف عموماً… “أحبّ الصبي الطبيعة حبّاً جماً ولطالما تأملها وهو يقف فوق التلة متجهاً إلى الغرب المطل على بساتين الزيتون،يليها البحر بجمال زرقته المجاورة للبساتين الخضراء فيبدو المشهد لوحة ساحرة. ومن فوق التلال يلوّح دائماً بيده الصغيرة معتقداً أنّ المبحرين يرونه، وهم يبتعدون عن الشاطئ… … حيّره مشهد إحدى السفن الثابتة لوقت طويل, إذ ظل ّيراقبها كلّ يوم, منتظراً أن تغيّر مكانها… وذات يوم مرّبرفقة والده فوق التلة فسأله: لماذا لا تتحرك تلك السفينة الضخمة من مكانها؟ فأجاب والده: لأنها ليست سفينة, إنها جزيرة “أرواد” الفينيقية…” تُظهر الرواية دور المرأة، والأم الفعّال في الأسرة الريفية عموماً، وتسلط الضوء على العلاقات الأسرية الريفية، وعلى المهن الريفية، وبعض العادات والتقاليد التي سادت فيها،وأساليب التبادل السلعي، وصوت العطار، كما في أي قرية من ريفنا، وهو يغني على ظهر حماره: “فتح .. فتح يا زهر القيلوح لسا هالبيعة ومنروح…” فيهرع “جوليو” نحو الرجل ليشتري (الكلة) بألوانها المتعددة، ويتقدم العطار تاركاً الأطفال يحتفلون بلعبتهم المفضلة في أزقة القرية. يعلو صوته مرة أخرى، فتخرج النسوة من منازلهن، وهن يخرجن نقودهن من صدورهن لشراء الحنة، والكحل العربي، والعطور، وصبغة لأطباق القش، وتشتري الجدات خشاخيش، وأساور من الخرز الأزرق لأحفادهن, قبل أن يسألن عن الأمشاط العظمية الخاصة لنزع القمل, والصئبان”. وتؤرخ الرواية لتاريخ “الخريبات”، ووصف كنيسة الضيعة، التي بنيت عام 1820، ومدرستها المؤلفة من غرفة واحدة من الأحجار الرملية الضخمة، وقد بنيت عام 1880… وتعرفنا بتاريخ المسيحين الموارنة فيها، وفي الوقت نفسه تعكس العيش المشترك لأبناء ريفنا من كافة الطوائف والمذاهب وتحابهم، وتعاونهم الصادق فيما بينهم، وعلاقتهم الأليفة مع المدينة، والناس من مختلف الديانات والمذاهب، وتفيدنا أنّ جذور الحياة العلمانية كامنة وأصيلة في أعماق مجتمعناالسوري… أما تفاصيل مغامرات هرب “جوليو” المتكرر من “دير راهبات القلبين الأقدسين” في “طرطوس”، وقطعه، وهو في سن السادسة من عمره، المسافة سيراً بين الدير وقريته “الخريبات”، في مختلف الأحوال الجوية، وتفضيله الخوض في الوحول والأوساخ على البقاء بين تلك الأسوار، ووسط أناس أقرب إلى الروبوتات المغلفة في لباس أسود كئيب، وتعريجه مرة إلى “الشيخ سعد”، وتفاصيل عودته ليلاً مرة أخرى من منتصف الطريق إلى الدير بسبب الظلام الدامس… تلك المغامرات التي تسببت في فصله فصلاً نهائياً من الدير، مما دفع والده إلى تسجيله في “دير مار امطانيوس Saint Antione” في جبال بيروت… فتستحق كلّ مغامرة منها أن تُخرج في لوحة سينمائية خاصة. لقد رافق عشق الجمال والحرية الأستاذ “عصام نداف”ليس في “مغامرات جوليو”، فحسب، بل طوال حياته، وربما دفعه بحثه عن فضاءات الحرية الأوسع والأشمل إلى الهجرة إلى البرازيل، لكنّ عشقَ بلاده ومسقط رأسه ظلّ يتفوق على كلّ عشق، مما دفعه لخط هذه اللوحات التي يحاول من خلالها تخليد جمال “الخريبات”، وطبيعتها، وجمال أهلها، وعاداتها وتقاليدها، ومحبة الإنسان لوطنه مسقط رأسه، لعله يوفيه بعض حقه… ووفقت الأديبة “نهاد أحمد” في أسلوبها الفني الرفيع ولغتها الرشيقة بأن تتناغم وتتسامى مع نص أحبته، فكانت ثمرة جهدهما لوحات فنية تفيض بالجمال، لوحات أصيلة مفيدة وممتعة، كأنّ لسان حالهما يقول: لكلّ إنسان مهما كان جنسه، أو عرقه، أو عمره الحقّ في أن يحيا حراً كريماً، وأن يثبت ذاته… وإذا أردتم أن يبدع الإنسان،فأمنوا له حياة كريمة، وفضاء من الحرية والجمال. تقع رواية “مغامرات جوليو” في 116 صفحة من القطع المتوسط، وهيصادرة عن دار بعل – دمشق

(سيرياهوم نيوز6-العاشر من حزيران2022)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ندوة حوارية حول التراث الثقافي وحقوق الإنسان ضمن فعاليات مشروع الوردة الشامية في سانريمو 2024 بإيطاليا

أقيمت اليوم ندوة حوارية حول التراث الثقافي وحقوق الإنسان خلال عرض الفيلم الوثائقي “قسم سيرياكوس في أول أيام فعاليات “الوردة الشامية في سانريمو 2024” بإيطاليا، والتي ...