باسل علي الخطيب
يطرح عالم السياسة الأمريكي “صمويل هنتجنتون” في كتابه الشهير (صدام الحضارات) رؤية للمستقبل الجيوسياسي للعالم ملخصها أن العامل الديني والثقافي والحضاري سيلعب دوراً كبيراً في شكل التكتلات الدولية الجديدة في القرن الحادي والعشرين. حسب هنتجنتون، تمتلك كل ديانة كبرى دولة مركزية رئيسية، المسيحية الشرقية الأرثوذكسية لديهما روسيا، الديانة الكونفوشيوسية– البوذية لديها الصين، الديانة المسيحية الغربية البروتستانتية – الكاثوليكية لديها الولايات المتحدة، أما العالم الإسلامي فيفتقد إلى (الدولة المركز)، والذي حسب رأيه يتسبب في عدم استقراره وكثرة الصراعات التي تجتاحه. يرشح هنتجنتون 6 دول إسلامية للعب دور الدولة المركز، هذه الدول هي إندونيسيا وإيران وباكستان والسعودية ومصر وتركيا، يستبعد هنتجنتون إندونيسيا بسبب وقوعها جغرافياً على أطراف العالم الإسلامي، وتم استبعاد مصر لأنها لا تمتلك اقتصاداً قوياً كفاية، واستبعاد السعودية بسبب قلة عدد سكانها، وباكستان بسبب عدم الاستقرار السياسي والانقسامات الأثنية التي تعصف بها، وإيران بسبب التنافر المذهبي الذي يحجم دور إيران على مستوى العالم الإسلامي ككل. يتوقف هنتجنتون مطولاً عند تركيا، ويقول إن لديها كل المؤهلات لتكون دولة المركز للعالم الإسلامي، حسب هنتجنتون لدى تركيا كل من التاريخ والتعداد السكاني والمستوى الجيد نسبياً في النمو الاقتصادي والتماسك الوطني النسبي والتقاليد العسكرية والكفاءة لكي تكون دولة مركز، لكن الذي يمنعها من ذلك حسب رأيه هو تشدد العلمانية الأتاتوركية. يطرح هنتجنتون السؤال التالي: ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها عند نقطة ما؟ ويجيب، في هذه الحالة تستطيع تركيا أن تتخلى عن دورها المحبط والمهين كمتسول يستجدي عضوية نادي الغرب، وتستأنف دورها التاريخي الأكثر تأثيراً كممثل أول للإسلام ودولة مركز له. يطرح هنتجنتون شرطين رئيسين حتى تستطيع تركيا أن تفعل ذلك، الأول أن تتخلى عن تراث أتاتورك، والثاني أن تجد زعيماً بحجم أتاتورك يجمع بين الدين والشرعية السياسية ليعيد بناء موقع ودور تركيا وتحويلها إلى دولة مركز. ما يظنه البعض عن كلام هنتجنتون أنه رؤية مفكر ثاقب البصيرة، لم يكن إلا خطة وُضعت لتركيا، ترى الولايات المتحدة في العالم الإسلامي كتلة كبيرة كامنة، تحتاج معها إلى دولة مركز تقود هذه الكتلة وفق الرؤية الأميركية، وذلك في سياق الصراع المحتمل والذي لاحت بوادره مع الصين وروسيا. حقق حزب العدالة والتنمية في تركيا عام 2002 نجاحا مفاجئاً وباهراً في الانتخابات البرلمانية في تركيا، ذاك النجاح لم يكن ليتحقق لولا الدعم الذي قدمته ماكينة الدعاية الغربية، أضف إلى ذلك أن حزب العدالة والتنمية قد لعب على الوتر الإسلاموي الذي لاقى الصدى عند جزء كبير من المجتمع التركي. طرح أردوغان زعيم حزب العدالة رؤيته لمستقبل تركيا على أساس مفهوم (العثمانية الجديدة) ممهداً الطريق لقطع الصلات مع الأتاتوركية. الخطوة التالية كانت تثبيت حزب العدالة وأردوغان في الحكم، الرافعة لذلك كانت النهضة الاقتصادية التي عرفتها تركيا في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، هذه النهضة لم تكن بفعل عامل ذاتي تركي، إنما حصل عبر كل تلك المساعدات والتسهيلات التي قدمتها الدوائر المالية والاقتصادية العالمية لتركيا حتى تحقق نمواً اقتصادياً مذهلاً، كان يجب تقديم النموذج التركي المثالي من حيث الديمقراطية وقوة الاقتصاد للعالم الإسلامي، ليكون هذا النموذج هو القدوة والقائد في سبيل أن تكون تركيا دولة المركز المنشودة. يجب أن لا ننسى في هذا السياق القوة التركية الناعمة، تلك القوة الناعمة التي تمثلت أولاً بالدراما التلفزيونية التركية، تلك الدراما التي تغلغلت في كل بيت عربي، مقدمة نموذجاً مثالياً يُحتذى عن العائلة والمجتمع التركيين. استطاعت تلك الدراما عبر أبطالها وبطلاتها أن تشكل وعياً جمعياً على مستوى هذه الأمة حالماً بتركيا. الأداة الثانية للقوة الناعمة التركية كانت البضائع والمنتجات التركية التي كانت على درجة من الجودة عكست قوة الاقتصاد والنموذج التركي، أما الأداة الثالثة للقوة الناعمة فكانت صناعة السياحة، التي أظهرت تركيا مقصداً مثالياً مثبتة النموذج القدوة، ولا ننسى الأداة الرابعة للقوة الناعمة التركية التي كانت قناة الجزيرة الأخوانية التي دأبت على تمجيد تركيا وتمجيد سياسات اردوغان. وفي هذا السياق كان لابد من تقديم أردوغان كشخصية ذات كاريزما زعيماتية منافحة ومدافعة عن الإسلام والمسلمين وقضايا المسلمين، كانت البوابة هي القضية الفلسطينية، وكانت تلك المسرحية المهزلة في منتدى دافوس عام 2008، وذاك الجدال المسرحي الذي لعبه أردوغان وشمعون بيريز بشكل احترافي، ومغادرة اردوغان للمؤتمر اعتراضاً على كلام بيريز، ومع الماكينة الإعلامية الهائلة المسماة الجزيرة تم تثبيت أردوغان كالناصر الأول والأهم لقضايا المسلمين. كانت تركيا في نهاية العقد الأول من هذا القرن قد صارت قاب قوسين من أن تكون الدولة المركز للعالم الإسلامي، و زعيمها أردوغان الزعيم الأول في العالم الإسلامي، كانت الخطة تحتاج الخطوة الأخيرة، أن يصل الإخوان إلى الحكم في بعض الدول العربية المركزية التي كانت تحت الاحتلال العثماني السابق، فكان ما سمي الربيع العربي، نجح الأمر في مصر و لكن بيضة القبان هي دمشق، كانت دمشق هي بوابة اردوغان ليحكم سيطرته على العالم الإسلامي، لطالما كانت دمشق صانعة الزعماء الإقليميين، أي قوة كبرى كانت تريد السيطرة على الشرق كان عليها أن تسيطر على دمشق، أي زعيم أراد أن يحكم الشرق كان عليه أن يمتلك مفاتيح دمشق. صمدت الدولة السورية، تعثر المخطط على أبواب دمشق، هذا شجع الجيش المصري على إزاحة الاخوان عن حكم مصر والإطاحة بمرسي، بدأت تركيا ومن خلفها الولايات المتحدة تشعران بأن الأمور ستخرج عن سيطرتهم، فكان أن خلقوا تنظيم الدولة في سوريا والعراق (داعش)، ووصلت الحرب ضد الدولة السورية إلى حدودها القصوى من حيث الإمكانات والوحشية والقسوة، وكانت معركة حلب مفصلية في سياق هذه الحرب، حرر الجيش السوري حلب عام 2017 ، كان ذلك إعلاناً عن دفن المخطط. عام 2017 كان عاماً مفصلياً عند حزب العدالة و أردوغان، كان عليهم أن يجدوا مشروعاً بديلاً يدغدغوا به مشاعر الأتراك، بعد فشل مشروع (العثمانية الجديدة)، لاسيما أن الاخوان المسلمين ركيزة هذا المشروع قد أصبحوا منبوذين في أغلب دول الكتلة الاسلامية. “هناك من يريد إقناعنا بأن معاهدة لوزان كانت انتصاراً لتركيا وللأتراك، هددونا بمعاهدة سيفر لعام 1920 ليجعلونا نقبل معاهدة لوزان عام 1923.. لقد لوحوا لنا بالموت لنقبل بالعاهة الدائمة” هذا ما قاله أردوغان في أحد خطبه عام 2017، معاهدة لوزان نظمت عملية تفكيك الإمبراطورية العثمانية، وكانت هي ومعاهدة سايكس-بيكو وراء نشوء كل دول هذا الشرق. كانت رؤية حزب العدالة في بداية القرن الواحد والعشرين هي الانتقال من الكمالية إلى البحث عن العمق الاستراتيجي وفق رؤية إيديولوجية تعتمد ( العثمانية) طريقاً ووسيلةً، صارت الرؤية في نهاية العقد الثاني من هذا القرن الانتقال من الكمالية إلى الأردوغانية وفق رؤية تعتمد المصالح الاقتصادية، لاسيما ان فقاعة النمو الاقتصادي قد انفجرت في وجه أردوغان في نهاية هذا العقد مع تراجع النمو الاقتصادي وانهيار الليرة التركية أمام الدولار، وماتبع ذلك من خسائر انتخابية تجلت بشكل واضح في الانتخابات البلدية، حيث خسر مرشحو حزب العدالة في المدن التركية الرئيسية (ازمير،إسطنبول، انقرة)، مع تراجع شعبية الحزب واردوغان في عموم تركيا. بدأت تركيا تعود إلى المناطق التي كانت تحتلها وانسحبت منها نتيجة معاهدة لوزان، دفعت تركيا بقواتها لتحتل أجزاءً من الأراضي السورية عبر عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام وذلك عامي 2017 و2018 ، وكان عماد تلك القوة المرتزقة السوريين والذي كان العنصر التركماني هو الغالب عليها، وهذا موضوع آخر للنقاش، وقبل ذلك احتلال منطقة بعشيقة في العراق، أضف إلى ذلك توقيع اتفاقية مع حكومة الوفاق في طرابلس لنشر القوات التركية في ليبيا. صارت اتفاقية لوزان محور سياسات أردوغان، خاصة بعد فشل سياسة صفر مشاكل التي تم إطلاقها في بدايات القرن، ولكن بسبب نهج العثمانية الجديدة الذي تم اتباعه من قبل أردوغان كانت النتيجة صفر أصدقاء بالمطلق، بعد أن تورطت في مشاكل جيوسياسية مع جيرانها القريبين والبعيدين. تأتي الانتخابات الرئاسية في تركيا عام 2023 متزامنة مع الذكرى المئوية للاتفاقية، تلك الانتخابات هي الأخيرة لأردوغان، يريد من تجديد انتخابه تفويضاً من الشعب التركي لاستمرار تقويضه للاتفاقية سعياً لتدميرها بالكامل. هذه الانتخابات لن تكون مهمة لتركيا فحسب إنما للمنطقة ككل، لذلك هذا التحول النوعي والمتسارع من قبل تركيا تجاه سوريا، حتى أن أردوغان استجدى لقاء السيد الرئيس بشار الأسد ثلاث مرات، ودمشق كعادتها تمارس سياسة الكتمان، و لم ترد، يحتاج أردوغان دمشق أكثر من أي احد ليربح هذه الانتخابات، ولكن الثمن سيكون مرتفعا وكبيرا جدا، ولا أعتقد أنه قادر على دفعه، أقول إنه مستعد لدفعه ولكنه غير قادر، لان اردوغان 2022، غير أردوغان 2012، والفيصل كل الفيصل أن دمشق ربحت الحرب…. أعتقد أن تركيا مقبلة على تحولات كبيرة….
(سيرياهوم نيوز6-خاص بالموقع9-11-2022)