يبدو أن روسيا قد شرعت في المضي قدما نحو سلم التصعيد.
ويبدو لي أن ولاية الرئيس بوتين الجديدة، وبرغم أنها لم تكن في حد ذاتها عاملا في تغيير التكتيكات والاستراتيجيات الروسية، إلا أنها تزامنت مع تغيرات كبيرة في الظروف الخارجية، ما أجبر روسيا على أن تكون أكثر صرامة في تفاعلها مع الغرب.
أولا، يقترب الوضع على الجبهة بالنسبة لأوكرانيا من الكارثة المحققة، ومع تسارع الهجوم الروسي، تزداد احتمالية انسحاب القوات الأوكرانية إلى الضفة اليمنى لنهر دنيبر. وكارثة الاقتصاد والتعبئة العامة تقترب بشكل كبير من درجة التوتر الداخلي في المجتمع الأوكراني على خلفية نهاية ولاية زيلينسكي الرئاسية. باختصار، اقترب الوضع في أوكرانيا بالنسبة للغرب من خياري: إما قبول الهزيمة، أو الدخول في حرب مع روسيا، وهو ما يسبب رد فعل هستيري وغير مدروس للغاية من قبل الغرب. لا أعتبر كلمات إيمانويل ماكرون بشأن إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا خطيرة للغاية. لكن دور بريطانيا في الأحداث المحيطة بأوكرانيا خطير للغاية، وافعالها هي التي يمكن أن يكون لها تطورات عنيفة للغاية.
وعلى هذه الخلفية، وقعت عدة أحداث لا يسعني سوى أن أربطها بعضا ببعض.
لقد وضعت روسيا الرئيسين الحالي والسابق لأوكرانيا، زيلينسكي وبوروشينكو، إضافة إلى عدد من المسؤولين الأوكرانيين رفيعي المستوى، حاليين وسابقين، على قائمة المطلوبين. وأنا لا أتفق مع الرأي القائل بأن روسيا بذلك لا تسعى إلا إلى استبعادهم من عملية المفاوضات المحتملة. فزيلينسكي لن يتخلى عن السلطة، والرئيس السابق، ووزيرا الخارجية والداخلية لا أهمية لهم الآن، ومن غير المرجح أن يكون لهم أي أهمية على الإطلاق.
وفي رأيي المتواضع، فإن هذا نوع من سحب الاعتراف بالانتخابات الأولى، وجميع الانتخابات اللاحقة بأوكرانيا بعد انقلاب 2014. واسمحوا لي أن أذكركم بأن استفتاء شبه جزيرة القرم، وضمها إلى روسيا استند إلى الحجة الروسية القائلة بأن نتيجة للانقلاب، وقبل الانتخابات التالية، انهارت الدولة الأوكرانية. وهو ما يعني، في رأيي، أن روسيا اتخذت خطوة نحو الاعتراف بالغياب الراهن للدولة في الأراضي الأوكرانية سابقا، وهو ما يعززه فقدان زيلينسكي للشرعية، حتى بالنسبة لعدد من الأوكرانيين، بانتهاء مدة رئاسته في 21 مايو. وإضافة إلى حرية العمل لتوسيع روسيا بشكل أكبر، فإن سحب الاعتراف بالانتخابات من شأنه أن يفتح الطريق أمام الاعتراف بأوكرانيا كأرض محتلة من الغرب، وبالتالي سيجعل الغرب مشاركا مباشرا في الحرب مع روسيا، مع إمكانية رد عسكري مشروع من قبل موسكو.
علاوة على ذلك، فقد أدى تصريح وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون بشأن موافقة بريطانيا على استخدام أوكرانيا للصواريخ البريطانية لمهاجمة الأراضي الروسية إلى حدوث انقسام في الغرب. لكن الأمر الرئيسي هو أنه دفع نحو رد فعل قاس بشكل غير عادي من جانب روسيا. وتزداد أهمية ذلك بالنظر إلى أن أوكرانيا استخدمت في السابق الصواريخ البريطانية عدة مرات لضرب الأراضي الروسية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، ولم يستلزم ذلك أي رد من وزارة الخارجية الروسية.
وقد تم استدعاء السفيرين الفرنسي والبريطاني إلى مقر وزارة الخارجية الروسية، وقيل للأخير إن تصريحات ديفيد كاميرون تعترف ببريطانيا كطرف في الصراع، وأن الرد على الضربات الأوكرانية باستخدام الأسلحة البريطانية على الأراضي الروسية يمكن أن يكون بضرب أي منشآت ومعدات عسكرية بريطانية على أراضي أوكرانيا وخارجها.
بالتزامن، أعلنت روسيا إجراءها مناورات لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية في المنطقة العسكرية الجنوبية.
فلماذا إذن في المنطقة العسكرية الجنوبية؟
في رأيي أن الخطوات المذكورة أعلاه كافية للاعتراف ببريطانيا كمعتد على روسيا في حالة الهجمات المتوقعة بالصواريخ البريطانية على الأراضي الروسية.
ومع ذلك، فبريطانيا عضو في “الناتو”، وإذا كان على روسيا أن تبدأ صراعا مفتوحا معها، فينبغي أن يكون ذلك على نحو لا يشمل أعضاء آخرين في الحلف.
وبيان كاميرون ثم التحذير من العواقب من جانب روسيا يضفي الشرعية على أي رد روسي ضد بريطانيا، ويقلل من احتمالات الرد الجماعي لحلف “الناتو”.
في الوقت نفسه، لا تجري مناورات بالأسلحة النووية التكتيكية في منطقتي موسكو أو لينينغراد العسكريتين، المتاخمتين لأعضاء “الناتو” الأوروبيين، بل في المنطقة الجنوبية، التي لا تشكل تهديدا مباشرا لأوروبا، لكنها أقرب إلى الشرق الأوسط، الذي يوجد على أراضيه عدد من المنشآت العسكرية البريطانية المناسبة لتوجيه ضربة انتقامية، دون المخاطرة بجر دول “الناتو” الأخرى إلى الصراع.
ومن الأحداث الأخرى التي تستحق الإضافة إلى القائمة، المقابلة الجديدة التي أجراها مؤخرا السياسي والخبير الروسي الشهير سيرغي كاراغانوف، والتي حدد فيها الأهداف الأولى للضربات النووية الروسية (قواعد أمريكية، ثم عدد من الدول الأوروبية) في حال اضطرار روسيا لاتخاذ مثل هذه التدابير. بإمكانكم مشاهدة الفيديو بقناتي على تطبيق “تليغرام” من خلال هذا الرابط.
واسمحوا لي أن أذكركم بأن كاراغانوف يصر على أنه من أجل منع نهاية العالم “الهرمجدون” من الضروري إعادة الخوف وغريزة الحفاظ على الذات إلى نفوس السياسيين الغربيين، ومن الأفضل القيام بذلك من خلال الاستخدام المحدود للأسلحة النووية، أو على الأقل من خلال التحرك التدريجي على سلم التصعيد النووي.
وأود تسليط الضوء في هذه المقابلة على تصريحه بأن بريطانيا ليست من الأهداف ذات الأولوية لضربة نووية، لأنها لا تشكل تهديدا عسكريا لروسيا. أنا متأكد من أن هذا الرأي حول القوة العسكرية البريطانية تشاركه النخبة الروسية بأكملها. ومجموعة هذه العوامل، افتقار بريطانيا إلى القدرات الجادة التي تمكنها من إلحاق ضرر جسيم بروسيا بالأسلحة التقليدية، والانقسام بين دول “الناتو” بشأن أعمال بريطانيا الاستفزازية، والتأثير السياسي الأقصى حتى لو كانت صفعة صغيرة على وجه لندن، كل هذه العوامل تجعل من بريطانيا هدفا مثاليا للانتقام الروسي، ولكن ليس بالأسلحة النووية، وإنما بالتقليدية.
وأستبعد بشكل كبير أن يكون توقيت مقابلة كاراغانوف وتصريحاته كانا من قبيل الصدفة.
ففي الاجتماع الأخير لنادي فالداي، سأل كاراغانوف بوتين عما إذا كان الوقت قد حان لإجراء تغييرات على العقيدة النووية للبلاد، وخفض حاجز استخدام الأسلحة النووية.
ومن المعروف للجميع أن فلاديمير بوتين هو أحد أكثر السياسيين حذرا وحبا للسلام في العالم، لا سيما في الفترات الفاصلة بين بعض خطواته المفاجئة، والتي لن أقوم بسردها. وبطبيعة الحال، رفض بوتين، كما كان متوقعا، اقتراح كاراغانوف، مؤكدا مرة أخرى سمعته كسياسي متوازن ومسؤول للغاية.
في الوقت نفسه، وكما نرى، من خلال الإعلان عن المناورات باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، فقد خطت روسيا خطوة على سلم التصعيد النووي الذي اقترحه كاراغانوف. وهي ليست خطوة صغيرة، بالنظر إلى الظروف الأخرى المصاحبة والمذكورة أعلاه.
فالمناورات النووية يمكن تفسيرها أيضا بأنها استعداد لضرب القوات الغربية التي تدخل أوكرانيا في منطقة أوديسا، إذا تدخل حلف “الناتو” في الصراع بأوكرانيا (وهو ما حذر منه بوتين في خطابه 24 فبراير 2022، اليوم الذي بدأت فيه العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا).
ويمكن تفسير ذلك أيضا على أنه تدريب لقوات الصواريخ التقليدية في منطقة عسكرية، حيث يمكن للصواريخ التقليدية أن تصل إلى القواعد البريطانية في الخليج أو السفن البريطانية في البحر الأحمر أو بحر العرب.
وتشكل مناورات القوات النووية التكتيكية أيضا تحذيرا لأوروبا في المقام الأول. ويمكن أن تكون هذه التدريبات بمثابة غطاء ضد أي رد فعل عاطفي من الدول الأوروبية، إذا قامت روسيا، على سبيل المثال، بإغراق سفينة بريطانية بالتزامن مع وقت المناورات، إذا ضرب صاروخ بريطاني جسر القرم.
إلا أن الأمر الأكثر أهمية هو أن تصرفات الغرب السابقة قد تؤدي إلى إبطاء، وليس منع، تحقيق أهداف روسيا في أوكرانيا. لكن التورط المباشر لأوروبا في الحرب يهدد بحدوث تطورات غير متوقعة، وتصعيد غير منضبط، قد يصل إلى التدمير النووي المتبادل.
ويبدو أن الكرملين يتفق مع منطق كاراغانوف بشأن الحاجة إلى الشروع في المضي قدما نحو سلم التصعيد، تدريجيا وبحذر. ليبقى السؤال الوحيد هو ما إذا كان الكرملين قد وافق بالفعل على ضرورة إعادة الخوف إلى نفوس الأنغلوساكسونيين، أم ليس بعد. وفي رأيي أنه إذا كان الكرملين يعتمد على سقوط أوكرانيا من دون المزيد من الصراع المباشر مع أوروبا، فإن مثل هذه التدابير تصبح أمرا لا مفر منه.
ومن الصعب عليّ أن اتجنب إغراء التعامل مع الأمنيات كحقائق فيما يخص صرامة روسيا بشكل أكبر، لكني حاولت تقديم التفسير الأكثر عقلانية للأحداث الأخيرة.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم