طلال سلمان
تنهار دول المشرق العربي، واحدة بعد الأخرى، كأنما التاريخ يعود بها مائة سنة إلى الوراء، أي إلى حين “خلق” هذه “الدول” في ظل انهيار السلطنة العثمانية وانتصار الحليفين، آنذاك، بريطانيا وفرنسا.. قبل أن تجيء الولايات المتحدة الاميركية لتشاركهما، ثم ليتمدد نفوذها في المنطقة جميعا مع تدفق النفط ثم الغاز، في مختلف انحاء شبه الجزيرة العربية: السعودية والكويت والإمارات ثم قطر، وصولاً إلى بعض اليمن!
في العراق، تعاني الدولة المركزية، بعد، النتائج الكارثية لمغامرات صدام حسين، سواء في حربه على ايران التي امتدت لأكثر من خمس سنوات، ثم لغزوته البائسة الكويت التي انتهت إلى الاحتلال الاميركي لجنوب العراق واشعال الضوء الاخضر امام الاكراد للاندفاع نحو فصل الشمال عن سائر انحاء ارض الرافدين، وزرع بذور الفتنة بين السنة والشيعة، وبين العرب والكرد، وانعاش الشبق التركي إلى استعادة امجاد “السلطنة” الخ..
أما سوريا فتعيش، منذ سنوات، ازمة خطيرة، تنذر بتشقق “الدولة” وتشرد الشعب بين لبنان والاردن ومصر، والمهاجر البعيدة عبر مغامرات بل مخاطرات التهمت المئات وربما الآلاف من الهاربين من وطنهم إلى أي مكان يقبلهم في هذا العالم..
وتشارك الآن قوات روسية على الشاطئ، بين اللاذقية وطرطوس وتقوم دوريات منها بالتجول في جهات منبج ودير الزور والحسكة.. بينما تشارك قوات ايرانية ومعها كتائب من “حزب الله” في مناطق أخرى.
على أن مخاطر الهجرة والفقر وانهيار العملة تنذر باحتمالات بشعة، بينها تفكك الدولة، خصوصا مع تحركات غاضبة في حوران وجبل الدروز بسبب انهيار العملة وارتفاع مستوى الفقر، والصراع الأخير الذي تفجر بين السلطة وابن خال الرئيس السوري رامي مخلوف بعد ما تبين حجم الارباح غير الشرعية التي يجنيها من عائدات الخليوي وغيره من المؤسسات التي استولى عليها في مناسبات مختلفة.
في هذا الوقت تتسابق السعودية ودول الخليج على فتح الابواب امام اقامة العلاقات مع العدو الإسرائيلي.. وبعد قطر فان رئيس حكومة العدو نتنياهو قد زار سلطنة عُمان، كما زارت بعثة اسرائيلية دبي ورافق ذلك تصريح لنتنياهو بأنه سيقوم قريبا بجولة خليجية، كما أن طائرة اماراتية حطت مؤخراً في مطار تل ابيب، لتدعي حكومة ابو ظبي أن هذه الطائرة تحمل مساعدات إلى شعب فلسطين في قطاع غزة.. علما أن “الطريق الطبيعي” إلى غزة ينطلق من المطارات المصرية، وتخضع الحمولات إلى التفتيش عند المعابر إلى هذا القطاع السجين.
*****
لقد افرنقع “الصف العربي”، وانشغلت كل دولة بمشكلاتها السياسية وازماتها المعيشية..
اولاً: اندثرت دولة ليبيا، وتدور على اراضيها، الآن، رحى حرب أهلية-عربية-دولية، تشارك فيها بعنف قتالي تركيا مع ادعاءات سمجة أطلقها “السلطان ” التركي اردوغان بأن ليبيا هي جزء من “السلطنة” وبالتالي فمن حقه أن يطالب باستعادتها!
وهكذا يصير تدخل اردوغان في سوريا، وجزئيا في العراق، بين محاولات “بعث” هذه “السلطنة” التي اسقطت قبل قرن ونيف عشية الحرب العالمية الأولى.
ثانياً: انطوت مصر داخل حدودها (المفتوحة على العدو الاسرائيلي) مع محاولة بائسة لمنع الحبشة من اكمال السد الكبيرعلى نهر النيل الازرق (وهو سد النهضة او سد الألفية الكبير في ولاية بنيشنقول-قماز بالقرب من الحدود الإثيوبية-السودانية) والذي يؤثر على كمية مياه النيل التي تواصل التدفق إلى السودان ومصر، مهددة السد العالي المقام في منطقة اسوان بنقص شديد في المياه التي تصله مما ينذر بمخاطر شديدة على السد والامكانات التي وفرها لري مناطق واسعة من الصحارى في مصر بكل ما تنتجه من خيرات يحتاجها شعب مصر، خصوصا مع الزيادة السنوية المرتفعة في تعداده.
ثالثاً: وهذه سوريا تكاد تغرق في دمها، ويلاحقها العدو الاسرائيلي بغارات طيرانه الحربي وصواريخها بعيدة المدى بذريعة ضرب “القواعد الايرانية” و “المقاتلين الايرانيين” ومن ضمنهم مقاتلي “حزب الله” في بعض انحاء سوريا.
*****
تباعدت الدول العربية عن بعضها البعض حتى صارت العلاقات في ما بينها شكلية… علماً أن العدو الاسرائيلي بشخص نتنياهو قد نال “بركات” الرئيس الاميركي ترامب، على اقتطاع المزيد من ارض الضفة الغربية في فلسطين المحتلة، وصولاً إلى منطقة “الأغوار” التي تكاد أن تكون حدوداً بين الاردن وفلسطين، والتي كانت في وقت ماضٍ احد المعابر الاساسية للفدائيين من قاصدي الرد على الاعتداءات الاسرائيلية شبه اليومية.
أي أن “مساحة” الكيان السياسي للعدو تتعاظم في حين أن “دول الطوق” العربي قد تباعدت او قد اصابها الضعف مع خطر التفكك، نتيجة الضغوط الاميركية وبؤس الانظمة الحاكمة او تواطؤِها مع العدو مباشرة او عبر واشنطن.
*****
بعد مائة عام من “استقلال” دول المشرق العربي نكاد نتحسر على الماضي الذي رفضه “العرب” ونهضوا إلى مقاومته، بالقوة حيث امكن او بالاعتراضات والتظاهرات والكتابات الغاضبة.. فضلاً عن العمليات الفدائية ضد قواته سواء في “الداخل” او ضد هذه القوات حيث تقدمت كجيش احتلال.
عجباً للزمان في حالتيه وبلاء ذهبت منه إليه
رُبَّ يَومٍ بَكَيتُ مِنهُ فَلَّما صُرتُ فيغَيرِهِ بَكَيتُ عَلَيهِ
(من ادب الامام علي بن ابي طالب )
(سيرياهوم نيوز 5 – رأي اليوم 19/6/2020)