ريم هاني
يجمع مراقبون على أنّ العالم الذي سيتعامل معه الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، في ولايته الثانية، يختلف إلى حدّ كبير عن ذاك الذي تركه في ولايته الأولى منذ أربع سنوات، ولا سيما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وعلى عكس التوقعات حول استعداد الرئيس الجمهوري لتبنّي نهج عدائي تجاه بكين، برزت، في الأيام الماضية، جملة من المؤشرات التي توحي بأنّه سيعتمد مقاربة مختلفة تجاه “الجمهورية الشعبية” عن تلك التي تبنّاها في ولايته الأولى، والتي استكملها خلفه جو بايدن، وذلك إدراكاً من الأول، على الأغلب، أنّ الأدوات التي أصبحت بين أيدي بكين، جنباً إلى جنب المصالح الاقتصادية لواشنطن، تفرض عليه عدم تسعير المواجهة معها.
وبعدما تمسّك بايدن، حتى اللحظة الأخيرة، بالنهج القائم على بناء تحالفات في منطقة “الهندي – الهادئ”، في محاولة لتطويق الصين، وأجرى اتصالاً، قبل أكثر من أسبوع، مع قادة اليابان والفيليبين، لترسيخ “الترتيب الأمني الثلاثي” الذي عمل على بنائه، فقد بدت لافتة دعوة ترامب، نظيره الصيني، شي جين بينغ، إلى حفل تنصيبه الإثنين. وفيما يقضي التقليد الذي اعتمدته بكين سابقاً، بإرسال السفير الصيني لدى واشنطن إلى المناسبة المشار إليها، أرسل شي، الذي لم يحضر شخصياً، نائبه المقرب منه، هان تشنيغ، لحضور الحفل. كذلك، نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مصادر مطلعة قولها إنّ ترامب أخبر عدداً من مستشاريه أنه يعتزم السفر إلى الصين بعد توليه منصبه، بعدما كان قد أجرى اتصالاً مع شي لبحث قضايا من مثل تجارة الفنتانيل وغيرها، قبل أن يؤكد في منشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنّه يتوقع أن “يتم حل العديد من المشاكل معاً، وعلى الفور”.
«أباطرة» الأعمال
توازياً مع ذلك، يرى العديد من المراقبين أنّ اللقاء الذي جمع هان بإيلون ماسك وغيره من كبار المسؤولين التنفيذيين في مجتمع الأعمال الأميركي، على هامش حفل التنصيب، يتخطى كونه مجرد تفصيل في مستقبل العلاقات الأميركية – الصينية. إذ إنّ العديد من مستشاري ترامب، بمن فيهم ماسك، سيعمدون إلى الحفاظ على المعاملات التجارية مع الصين وتوسيعها. وفي هذا السياق، يرد في تقرير نشرته مجلة “ذا أتلانتيك” الأميركية، أنّه لم يعد بمقدور ترامب تأدية دور “الرجل القاسي” إزاء بكين، مشيرةً إلى أنّه فيما كان التحدث بـ”صرامة” عن الصين من السمات الأساسية التي طبعت مسيرة الرئيس الجمهوري، إلا أنّ الأخير يعطي حالياً الأولوية “لمصالح الأعمال الكبرى” في سياسته تجاه الأخيرة، وإن على حساب “الأمن القومي” للبلاد.
وفي حين أنّه لا يزال من المبكر التنبؤ بنهج ترامب، إلا أنّ “طبيعة ائتلافه السياسي” ستمنعه، طبقاً لأصحاب هذا الرأي، من اتباع نهج متشدد تجاه الصين؛ إذ إنّ عمالقة الشركات في معسكره لديهم مصالح مالية كبيرة معها، وبمقدورهم استخدام نفوذهم لـ”كبح جماح الصقور المعادين للصين في فريقه”، من مثل وزير الخارجية ماركو روبيو. ومن بين الأمثلة على ذلك، طبقاً للمصدر نفسه، إسقاط الجمهوريين، الشهر الماضي، بنداً من مشروع قانون الإنفاق في الكونغرس، كان يهدف إلى تشديد القيود على الاستثمار الأميركي في الصين. وقد أكد آنذاك جيم ماكغفرن، الممثل الديموقراطي، أن ماسك “استخدم نفوذه لإفشال صفقة الميزانية الأصلية”، من أجل استبعاد هذا البند. وتندرج الخطوة الأخيرة، على ما يبدو، في إطار “نمط” أوسع، انعكس أيضاً في قرار ترامب الإبقاء على تطبيق “تيك توك” في البلاد.
على عكس ولاية ترامب الأولى، تستعد بكين لمواجهة الرئيس الجمهوري «وجهاً لوجه»
على الضفة نفسها، خفّض ترامب من نسبة الرسوم الجمركية التي يعتزم فرضها على الواردات الصينية من 60% خلال حملته الانتخابية، إلى 10% في أعقاب الانتخابات، علماً أنّ الرسوم التي اقترحها، في البداية، تهدد بإحداث فوضى في سلاسل التوريد ورفع أسعار السلع اليومية الأساسية للأسر الأميركية. وبناءً على ما تقدم، يمكن أن يتحوّل “أباطرة الأعمال الأميركية” إلى أهداف لشي خلال عهد ترامب، ولا سيما أنّ أشخاصاً من مثل ماسك، يتخوفون من أن تردّ بكين بإجراءت انتقامية، كما فعلت سابقاً، تستهدف أعمالهم مباشرة، وعلى رأسها “تيسلا”.
«وجهاً لوجه»
في خطاب سابق، أكّد الرئيس الصيني أنّ “التاريخ أثبت مراراً أنّ السعي من أجل الأمن من خلال النضال يجلب الأمن الحقيقي، فيما يؤدي البحث عنه من خلال الضعف والتنازل، إلى انعدام الأمن”. وبحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، فإنّ بكين أظهرت، في الأسابيع الأخيرة، أنّه على عكس ولاية ترامب الأولى، فهي تستعد هذه المرة لمواجهة الرئيس الجمهوري “وجهاً لوجه”. وبالفعل، بعدما كانت الصين قد حظرت، في كانون الأول، تصدير العديد من المواد الخام الرئيسيّة إلى الولايات المتحدة، اقترحت السلطات الصينية، الأسبوع الماضي، فرض قيود واسعة على تصدير “تقنيات معالجة المعادن الحيوية” المستخدمة في صنع بطاريات السيارات الكهربائية، في وقت تسيطر فيه بكين على الإمدادات العالمية لتلك الموارد.
وقبل ثلاثة أشهر، هددت وزارة التجارة الصينية بمنع شركة “PHV”، التي تمتلك علامتي “Calvin Klein” و”Tommy Hilfiger”، من ممارسة الأعمال التجارية في البلاد، بعدما أعلنت أنها تلتزم بـ”اللائحة الأميركية” التي تحظر استيراد القطن من منطقة شينجيانغ، علماً أنّ العديد من الشركات كانت قد امتنعت عن اتخاذ مثل تلك الخطوات، تحت وطأة تهديدات الصين، التي تعدّ موطناً لأكبر طبقة متوسطة مستهلكة للبضائع في العالم. كذلك، تعمل بكين على استغلال التصدعات التي قد تنشأ بين ترامب وعدد من الدول الأخرى، بفعل سياساته الخارجية “غير المتوقعة”؛ إذ كشفت بكين عن أسلحة متقدمة، وعززت التواصل مع البلدان النامية، وتوصلت إلى توافقات مع شركاء واشنطن الأمنيين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في حين أظهرت جملة من “الهجمات الإلكترونية الناجحة على الولايات المتحدة”، مدى تطور الصين في هذا المجال، بحسب الصحيفة.
وطبقاً لمحللين، تكشف الأنشطة الصينية كيف أنّ بكين أصبحت جاهزة لـ”التحرك بسرعة وقوة في أي مواجهة ديبلوماسية وتجارية مكثفة في عهد ترامب”. وتنقل “واشنطن بوست” عن يون صن، مدير “برنامج الصين” في “مركز ستيمسون” البحثي، قوله إنّه “بالنسبة إلى الصين، فإن الحرب التجارية ليست سوى جزء بسيط من المشهد الاستراتيجي الأكبر للمنافسة مع الولايات المتحدة، وترامب ليس سوى فترة واحدة من تلك المنافسة”، لافتاً إلى أنّ “اللعبة طويلة الأمد وتتمثل في اكتساب اليد العليا الاستراتيجية” في العالم.
من جهتها، نشرت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية تقريراً جاء فيه أنّه في كانون الأول، كشف “الحزب الشيوعي الصيني” عن طائرة شبح جديدة من طراز “J-36″، تجمع بين قدرات التخفي وسعة كبيرة للحمولة، ما يتيح لها تنفيذ مهمات جو – جو وجو – أرض على نطاقات واسعة وبسرعة تفوق سرعة الصوت، ويجعلها تشكل “تحدياً هائلاً لأنظمة الدفاع الجوي الحديثة. وطبقاً للتقرير، هناك أسباب للاعتقاد بأن الطائرة الصينية الجديدة هي بمثابة رسالة إلى الرئيس الأميركي، بعد تهديداته بفرض رسوم جمركية عليها. وتردف المجلة أنّه غالباً ما تكشف الدول عن سلاح حرب جديد في وقت السلم، ليكون بديلاً من “المواجهات العسكرية المباشرة”، ويمنع الدول المنافسة لها من الإقدام على أي تصعيد.
السيناريو «الأخطر»
وكان وزير المالية اليوناني الأسبق، يانيس فاروفاكيس، قد نشر، أخيراً، مقالاً جاء فيه أنّه مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فإن الرسوم الجمركية المرتفعة التي تعهّد بفرضها على الواردات الصينية ليست “أكبر مصدر قلق لبكين”، نظراً إلى أنّ قادة الصين يدركون أنه بالنسبة إلى ترامب، فإنّ الرسوم الجمركية هي بمثابة خطوات “سياسية ورمزية”، ولا ترتقي إلى مستوى “أسلحة اقتصادية ستعيق بشكل خطير نمو الصين”. ويردف فاروفاكيس أنّ الخطر الأكبر بالنسبة إلى صنّاع السياسة في بكين يتمثل بدفع الصقور في فريق ترامب، الإدارة الجديدة إلى الذهاب بعيداً إلى حدّ فرض عقوبات اقتصادية على غرار ما فعل الغرب مع روسيا. وفي حال تحقّق السيناريو المشار إليه، ستصبح الصين، طبقاً للمصدر نفسه، مضطرّة إلى حلّ “معضلتها الكبرى” المتمثلة إمّا بضرورة استباق العقوبات المالية من خلال السعي إلى تحويل مجموعة “البريكس” إلى نظام نقدي على غرار “بريتون وودز”، تكون “الرنمينبي” في قلبه، والفائض التجاري الصيني بمثابة دعامة له، أو البقاء ضمن نظام الدولار الأوسع، وانتظار ما ستؤول إليه “التناقضات الداخلية الأميركية”.
أخبار سورية الوطن١ الأخبار