سعد الدالاتي
شهدت الليرة السورية مؤخراً تحسناً ملحوظاً في قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، حيث تراجع سعر الصرف في السوق الموازية إلى حوالي 7500 ليرة سورية للدولار الواحد. وعلى الرغم من أن هذا التحسن قد يبدو إيجابياً ظاهرياً، إلا أنه يأتي كنتيجة مباشرة لسياسات نقدية صارمة، أبرزها حبس السيولة، التي تنتهجها السلطات النقدية للحد من تدهور سعر الصرف. هذه السياسة، رغم تأثيرها المباشر على ضبط سعر الدولار، تخلق تحديات اقتصادية أعمق تشمل الركود الاقتصادي، تهريب الأموال، وتداعيات خطيرة على قطاعي الاستيراد والتصدير.
العوامل المؤثرة في تسعير الدولار: العرض والطلب
يخضع سعر الصرف في السوق السورية لقوانين العرض والطلب، حيث يتحدد وفق حجم المعروض من العملة الأجنبية مقابل الطلب عليها. عندما يزداد الطلب على الدولار نتيجة لعدم الثقة في الليرة السورية أو لزيادة تكلفة الواردات، يرتفع سعر الدولار مقابل الليرة. وعلى العكس، عندما يزداد المعروض من الدولار في السوق نتيجة لتحويلات المغتربين أو التدفقات المالية الخارجية، ينخفض سعره.
في المقابل، فإن سياسات المصرف المركزي التي تهدف إلى خفض المعروض النقدي المحلي عبر حبس السيولة تؤدي إلى تقليص كميات الليرة السورية المتداولة، مما يزيد من قيمتها مؤقتاً نتيجة لقلة المعروض منها، وبالتالي انخفاض سعر الدولار. ولكن هذا الإجراء يؤدي إلى انكماش اقتصادي، إذ يتراجع النشاط التجاري والاستثماري بسبب نقص السيولة في الأسواق.
حبس السيولة وتداعياته الاقتصادية
تبنّى المصرف المركزي السوري سياسة نقدية انكماشية تعتمد على تقليص الكتلة النقدية المتداولة، من خلال قطع التغذية النقدية عن المصارف التجارية وقنوات التمويل الأخرى. هذه السياسة تقلل المعروض من الليرة السورية، مما يزيد من قيمتها، لكنه يؤدي في الوقت نفسه إلى:
-
ركود اقتصادي نتيجة نقص السيولة التي تحد من قدرة الأفراد والشركات على الإنفاق والاستثمار.
-
إضعاف حركة الأسواق بسبب تراجع القوة الشرائية وانخفاض القدرة على تمويل العمليات التجارية.
-
زيادة الطلب على الدولار في السوق السوداء، حيث يبحث التجار والمستثمرون عن بدائل لتخزين القيمة في ظل نقص السيولة بالليرة.
تهديدات تهريب الأموال: فرصة لفلول النظام لتهريب أموالهم
من المخاطر الخفية لانخفاض سعر الدولار عبر سياسة حبس السيولة، أنه يوفر فرصة ذهبية لتهريب الأموال إلى خارج سوريا، خصوصاً من قبل فلول النظام وتجار الحرب الذين راكموا ثرواتهم خلال سنوات الأزمة.
خلال سنوات الحرب، استغل أمراء الحرب والمحتكرون القيود المفروضة على استخدام العملات الأجنبية لتحقيق مكاسب ضخمة من خلال الاستيراد والتصدير، والمقاولات، واحتكار المواد الأساسية. لكن مع عدم قدرتهم على التعامل بالدولار بحرية داخل سوريا، ظلت ثرواتهم محجوزة بالليرة السورية.
لكن الآن، مع تحسن قيمة الليرة نتيجة نقص المعروض النقدي، تتاح لهم فرصة مثالية لتحويل أموالهم إلى عملات صعبة وتهريبها خارج البلاد، قبل أن تفرض الحكومة الجديدة إجراءات رقابية مشددة للتحقيق في مصادر هذه الثروات. أي أن التحسن المؤقت في سعر الصرف قد يكون بمثابة “نافذة هروب” أخيرة لأصحاب رؤوس الأموال المشبوهة، قبل أن تبدأ حملة مكافحة الفساد وفتح ملفات “من أين لك هذا؟”.
تأثير انخفاض الدولار على الاستيراد والتصدير
يؤثر انخفاض سعر الدولار مقابل الليرة السورية بشكل مباشر على حركة التجارة الخارجية، حيث يؤدي إلى نتائج متباينة على جانبي الاستيراد والتصدير:
-
تشجيع الاستيراد:
عندما تنخفض قيمة الدولار، تصبح البضائع المستوردة أرخص بالليرة السورية، مما يشجع التجار على زيادة وارداتهم من الخارج، خاصة من الدول التي تعتمد على الدولار في تعاملاتها التجارية. هذا يؤدي إلى زيادة العجز التجاري، حيث تزداد فاتورة الاستيراد على حساب الإنتاج المحلي، ما يضر بالصناعة الوطنية التي تجد صعوبة في المنافسة مع المنتجات الأجنبية الأرخص.
-
إضعاف التصدير:
في المقابل، فإن انخفاض الدولار يجعل السلع السورية أغلى عند تصديرها إلى الأسواق الخارجية، مما يقلل من قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية. عادةً، عندما تكون العملة المحلية ضعيفة، يصبح التصدير أكثر ربحية لأن المنتجات تصبح أرخص للمشترين الأجانب. ولكن في حالة ارتفاع قيمة الليرة، يصبح المنتج السوري أغلى بالنسبة للمستوردين الدوليين، مما يقلل الطلب على الصادرات السورية ويضر بالصناعات التي تعتمد على التصدير كمصدر رئيسي للدخل.
الآثار السلبية على الاقتصاد المحلي
-
زيادة الاعتماد على الاستيراد يؤدي إلى استنزاف العملة الأجنبية، مما قد يؤدي لاحقاً إلى ارتفاع الدولار مجدداً عند ارتفاع الطلب عليه لتغطية الواردات.
-
تراجع الصادرات يؤدي إلى انخفاض الإنتاج المحلي وفقدان فرص العمل في القطاعات الصناعية والزراعية التي تعتمد على التصدير.
-
اختلال ميزان المدفوعات بسبب ارتفاع قيمة الواردات مقارنة بالصادرات، مما يضع ضغوطاً إضافية على الاقتصاد المحلي
الكساد وغلاء الأسعار: تأثير سياسات الاستيراد على الصناعة المحلية والمستهلك
يواجه الاقتصاد السوري اليوم حالة من الكساد التجاري المتزامن مع ارتفاع الأسعار، وهو مزيج ناتج عن انهيار الصناعة المحلية وضعف القدرة الإنتاجية، في ظل غياب سياسات الحماية الصناعية الفعالة. إحدى العوامل الرئيسية التي ساهمت في هذا الوضع هي القرارات غير المدروسة المتعلقة بسياسات الجمارك، والتي أدت إلى زيادة الإقبال على الاستيراد وتقليل القدرة التنافسية للمنتجات المحلية.
كيف تؤثر سياسات الاستيراد على الصناعة المحلية؟
تعاني المصانع السورية من أزمة مزدوجة:
-
ارتفاع تكلفة الإنتاج بسبب استيراد المواد الأولية بالعملة الأجنبية، بينما يتم تسعير المنتجات وبيعها بالليرة السورية، ما يؤدي إلى تآكل الأرباح وصعوبة استمرارية الإنتاج.
-
ضعف القدرة التنافسية أمام المنتجات المستوردة التي تدخل السوق بتكاليف أقل، ما يجعل الإنتاج المحلي أقل جاذبية من حيث السعر والجودة، ويدفع العديد من المصانع إلى الإغلاق أو تقليص إنتاجها.
في المقابل، يعتمد المستوردون على شراء البضائع الجاهزة من الخارج بالدولار ثم بيعها في السوق المحلية بالليرة السورية وفقاً لسعر الصرف الموازي، ما يمكنهم من تحقيق أرباح مضاعفة مقارنة بالمنتجين المحليين الذين يتحملون تكاليف تشغيل مرتفعة وتحديات تمويلية كبيرة.
هل يستفيد المستهلك من انخفاض سعر الدولار؟
على الرغم من تحسن قيمة الليرة السورية مقابل الدولار في السوق الموازية، إلا أن المستهلك لا يلمس انعكاساً إيجابياً لهذا التغيير، والسبب في ذلك يعود إلى آلية التسعير المتبعة في السوق المحلية. فعلى الرغم من أن سعر الصرف في السوق الموازية يقارب 7500 ليرة للدولار، إلا أن التجار لا يزالون يعتمدون السعر الرسمي (13,500 ليرة) عند تسعير المنتجات، مما يبقي الأسعار مرتفعة ولا يسمح بانخفاضها بما يتناسب مع تحسن سعر الصرف.
النتائج الاقتصادية المترتبة على هذه السياسة
-
ضعف القوة الشرائية للمستهلكين، حيث تظل الأسعار مرتفعة رغم انخفاض تكاليف الاستيراد.
-
إغلاق المزيد من المصانع بسبب عدم القدرة على تحقيق أرباح تنافسية، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة وزيادة الاعتماد على الواردات.
-
استمرار التضخم في بعض القطاعات، حيث لا يتم تعديل الأسعار وفقاً لتغيرات سعر الصرف، بل تبقى على مستويات مرتفعة لتحقيق أكبر هامش ربح ممكن للتجار والمستوردين
مخاوف مستقبلية من ضعف السياسات المصرفية
-
انهيار القدرة الشرائية: دخول لا تكفي للحاجات الأساسية
مع استمرار ارتفاع الأسعار دون أن يقابله تحسن في الأجور، يجد المواطن السوري نفسه أمام معادلة مستحيلة:
-
تكاليف المعيشة تتزايد يومياً، إذ لم تعد الرواتب تغطي حتى الاحتياجات الأساسية من الغذاء، السكن، الصحة، والتعليم.
-
انعدام المرونة في السوق يجعل من التكيف مع هذه الأزمة أمراً شبه مستحيل، حيث لم يعد الادخار ممكناً، واللجوء إلى الاقتراض يفاقم معاناة الأسر.
-
ضعف القدرة الشرائية لا يؤثر فقط على الأفراد، بل ينعكس على الاقتصاد ككل، حيث تنخفض معدلات الاستهلاك، ما يؤدي إلى مزيد من الإفلاسات وتسريح العمال، وبالتالي زيادة معدل البطالة.
-
المستشفيات والمراكز الطبية تعاني من نقص حاد في المعدات والأدوية، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الوفيات بسبب الأمراض القابلة للعلاج.
-
مع ازدياد الفقر، لم يعد العلاج متاحاً إلا للأغنياء، حيث أصبحت الكلفة العلاجية تفوق إمكانيات معظم المواطنين، ما يدفع البعض إلى الاعتماد على الطب البديل أو التخلي عن العلاج تماماً.
-
في المقابل، فإن من يبقى داخل البلاد يواجه بيئة اقتصادية خانقة، تدفع البعض نحو العمل في السوق السوداء، أو الانخراط في أنشطة غير مشروعة مثل التهريب أو الجرائم الاقتصادية.
-
ارتفاع معدلات البطالة يؤدي إلى زيادة الفقر، انتشار الجريمة، تفاقم العنف الأسري، وارتفاع حالات التشرد، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار الاجتماعي.
-
اختلال التوازن الاقتصادي يعزز الاحتكار ويفاقم الأزمة
-
غياب الرقابة الاقتصادية يسمح لأصحاب رؤوس الأموال والمستوردين بالتحكم في السوق، عبر احتكار السلع الأساسية ورفع الأسعار بشكل مفتعل.
-
مع حبس السيولة من قبل المصرف المركزي، تتحول السوق إلى بيئة نقدية مشوهة، حيث تبقى الأموال مركزة في يد قلة من التجار والمستوردين، بينما يظل المواطنون في حالة عجز شرائي مستمر.
-
مع استمرار هذه السياسات، تزداد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويتحول المجتمع إلى طبقتين: قلة تسيطر على الاقتصاد، وأغلبية تعيش تحت خط الفقر، مما يعزز فرص الاضطرابات الاجتماعية.
كيف يمكن تفادي الانهيار الإنساني؟
لمنع تفاقم الأزمة وتحولها إلى كارثة إنسانية شاملة، لا بد من إصلاحات اقتصادية واجتماعية عاجلة، تشمل:
-
إعادة هيكلة سياسات الاستيراد لتكون متوازنة مع دعم الإنتاج المحلي، بحيث لا يتم إغراق السوق بالبضائع المستوردة على حساب المنتجات الوطنية.
-
تقديم دعم مباشر للقطاع الصناعي والزراعي من خلال تسهيلات ضريبية وقروض ميسرة لضمان استمرارية الإنتاج.
-
وضع سياسات تسعير شفافة تمنع التلاعب بأسعار السلع الأساسية، وتضمن أن أي تحسن في سعر الصرف ينعكس فعلياً على الأسعار في السوق.
-
إعادة ضخ السيولة في الاقتصاد بطريقة تضمن استقرار السوق، بدلاً من احتكار النقد في المصرف المركزي، مما يؤدي إلى جفاف السيولة في الأسواق.
-
تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي من خلال برامج دعم مباشر للعائلات الفقيرة، وضمان توفير الغذاء والدواء بأسعار مدعومة.
-
إيجاد حلول جذرية لأزمة البطالة عبر تشجيع المشاريع الصغيرة، وتحفيز الاستثمار في قطاعات الإنتاج، بدلاً من الاعتماد فقط على الوظائف الحكومية أو العمل في السوق السوداء.
إن استمرار السياسات الاقتصادية الحالية دون تصحيح قد يدفع سوريا إلى مرحلة أكثر تعقيداً من الأزمات الإنسانية، حيث تتحول البلاد إلى سوق مشوهة اقتصادياً، ومجتمع يعاني من نقص حاد في الغذاء، الدواء، وفرص العمل. كل ذلك يجعل الحلول المستقبلية أكثر صعوبة، ويزيد من احتمالات نشوء اضطرابات اجتماعية حادة قد تعيد البلاد إلى مربع عدم الاستقرار.
اخبار سورية الوطن 2_راي اليوم